الأربعاء 17 يوليو 2024

كيف أدارت ثورة 23 يوليو الثقافة في مصر؟


د. عبدالواحد النبوي

مقالات13-7-2024 | 11:31

د. عبدالواحد النبوي

عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 لم يكن لدى مصر وزارة تهتم بشئون الثقافة أو نشرها أو الاهتمام بحاجات المصريين من الثقافة والفكر والإبداع، واقتصر الأمر على قليل من العمل الحكومي ونظيره من العمل الخاص لإشباع رغبات قلة قليلة في المدن المصرية الكبيرة، أما السواد الأعظم من الشعب المصري؛ فلم تصل إليه نتاج الفكر والمعرفة والفن ولم يكن يستطيع الوصول إليها؛ فلم يكن يملك ثمنها، حتى التعليم الذي كان جزءا من نشر الثقافة كان بثمن لا تستطيعه إلا قلة قليلة من هذ الشعب لذا كانت نسبة الأمية في مصر عام 1933 حوالي 88% وكانت تحتل مصر المرتبة الأولى في الأمية على مستوى العالم.

كان رجال ثورة يوليو من الطبقة المتوسطة أو الأدنى منها وكانوا يرون بأعينيهم حال الثقافة في المجتمع المصري، لذا كان اهتمامهم بالثقافة يحتل جزءا من أولويات عملهم.

بدايات التأسيس:

كانت أول خطوات الاهتمام بالثقافة من رجال ثورة يوليو 1952 إنشاء وزارة للإرشاد القومي في 10 نوفمبر 1952 ونص مرسوم إنشاء الوزارة على ستة أهداف يجب أن تحققها الوزارة في مجالات الثقافة والسياحة والإعلام وفيما يخص الثقافة أكد على رفع المستوى المادي والأدبي وتقوية الروح المعنوية للشعب وتيسير سبل الثقافة الشعبية وتنويعها وتزويدها بما يعين على تزويد نطاقها وإفادة أكبر عدد ممكن بها، ونقل المرسوم إلى الوزارة الوليدة: الإذاعة المصرية من مجلس الوزراء ومراقبة الأفلام والسينما وإدارة الدعاية والإرشاد الاجتماعي من وزارة الشئون الاجتماعية وإدارة المطبوعات من وزارة الداخلية والمكاتب الصحفية من وزارة الخارجية ومؤسسة الثقافة الشعبية ودار الأوبرا ومعرض وادي النيل ومتحف الحضارة ومتحف بيت الأمة وقسم الدعاية الصحية من وزارة المعارف والمتحف الحربي ما عدا المكتبة من وزارة الحربية والبحرية وجميع أقسام الإنتاج السينمائي والفني من جميع الوزارات وتم تعيين فتحي رضوان وزير دولة للإرشاد القومي في 17 نوفمبر 1952 ثم أجرى محمد نجيب في 9 ديسمبر 1952 تعديلا على وزارته فعين محمد فؤاد جلال وزير الشئون الاجتماعية وزيرا للإرشاد القومي وفتحي رضوان وزير دولة للإرشاد القومي.

وفي حكومة محمد نجيب الثانية التي تشكلت في 18 يونيو 1953 تولى وزارة الإرشاد القومي صلاح سالم (18 يونيو 1953 – 1 نوفمبر 1955) وقد تم تفويض وزير الإرشاد القومي في تعديل الإدارات والأقسام التي كانت النواة الأولى لتأسيس مشروع ثقافي مصري خالص يهتم بالمصريين بكل طبقاتهم من خلال وزارة واحدة تهتم بنشر الثقافة والفنون، وأنشئت مصلحة الاستعلامات بوزارة الإرشاد القومي في 2 سبتمبر 1954 على أن تضم الإدارة العامة للاستعلامات ومراقبة الشئون الفنية.

استمر صلاح سالم وزيرا للإرشاد القومي في الحكومات المتعاقبة حتى 2 نوفمبر 1955 عندما أجرى جمال عبدالناصر تعديلا على الحكومة وعين فتحي رضوان وزيرا للإرشاد القومي (2 نوفمبر 1955 – 6 أكتوبر 1958) وبدأت الوزارة في زيادة نشاطها وإعادة هيكلة إدارتها واستحداث الجديد منها ففي 1955 تم إنشاء مصلحة الفنون وأصدر جمال عبدالناصر رئيس الوزراء -آنذاك- قرارا في 30 نوفمبر 1955 بنقل مراقبة الشئون الفنية إليها من مصلحة الاستعلامات

لقد خطت الوزارة خطوات كبيرة في إعادة تنظيم الجهات التابعة لها وأصبحت هناك حاجة لضم جهات أخرى إما تأخر ضمها منذ عام 1952 أو أن هناك إدارات في وزارات أخرى تحتاجها الوزارة لأداء عملها لذا أصدر جمال عبدالناصر قرارا جديدا في 25 يونيو 1958 لتنظيم وزارة الإرشاد القومي فضم إليها مصلحة الفنون وإدارة الشئون الثقافية والفنون الشعبية ومركز الوثائق التاريخية ومؤسسة دعم السينما وانتقلت إليها مصلحة الآثار وأقسام التأليف والترجمة ونشر التراث القديم ودائرة المعارف وقسم النشرة الثقافية والمحاضرات والندوات وقسم شراء المقتنيات الفنيه وجوائز الفنانين ومن الإدارة العامة للفنون الجميلة (متحف الفن الحديث وقسم الفنون التشكيلية والتطبيقية ومركز إحياء الفنون القديمة وقسم المعارض الدولية والمحلية وقسم مراسم الفنانين وقسم الإدلاء والتراجمة ومصنع صب القوالب) ودار الكتب القومية ومطبعتها من التربية والتعليم وانتقل إليها أيضا مجموعة من المتاحف (متحف الحضارة– متحف الجزيرة– متحف بيت الأمة– ضريح مصطفى كامل) من مصلحة السياحة.

وفي اليوم التالي -26 يونيو 1958- لقرار تنظيم وزارة الإرشاد القومي تم تعديل مسمي الوزارة من وزارة الإرشاد القومي إلى وزارة الثقافة والإرشاد القومي، وكان ذلك أثناء الوحدة المصرية – السورية، وكان آخر ما قام به فتحي رضوان وزير الثقافة والإرشاد القومي أن استصدر قرارا من رئيس الجمهورية في 6 أكتوبر 1958 بتغيير مسمى "معهد التمثيل النهاري والمسائي" إلى "المعهد العالي للفنون المسرحية".

مرحلة الانطلاق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي 

لتنظيم العمل بعد الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 عرفت مصر نظام الوزارة المركزية والوزارة التنفيذية فالمركزية وزارة واحدة وهي المسئولة عن الوزارتين التنفيذيتين في كل من مصر وسوريا وقد تولى أول وزارة مركزية للثقافة والإرشاد القومي السوري صلاح الدين البيطار في 7 أكتوبر 1958 وتولى ثروت عكاشة منصب وزير الثقافة والإرشاد القومي في مصر وفي سوريا رياض المالكي في نفس التشكيل، وأصدر جمال عبدالناصر قرارا في 23 نوفمبر 1958 بتنظيم وزارة الثقافة والإرشاد القومي في الإقليم السوري ليسير العمل بها على نحو قريب مما يجري في وزارة الثقافة في مصر.

عندما جاء ثروت عكاشة وزيرا كان مهموما بكون الثقافة حق من حقوق الإنسان وكان اتصاله ومعرفته الواسعة بالحركة الثقافية العالمية ورؤى الكُتاب والمفكرين للثقافة وأثرها في المجتمعات والحضارة الإنسانية عاملا مهما في سياسته كوزير للثقافة ولا نغالي إن قلنا رؤية ثروت عكاشة كانت كبيرة ونبيلة وحدودها متسعة في بلد كان يعاني من كثرة التحديات في جواره الإقليمي والدولي.

رأي عكاشة أن أول عمل يقوم به ليكون على بينة من أمره، في الانطلاق بوزارة الثقافة نحو ما يحتاجه الشعب المصري؛ الاسترشاد بآراء المثقفين؛ فأعلن عن عقد مؤتمر عام للثقافة والفنون بدار الأوبرا في مارس 1959 لمدة أسبوع، واستطاع أن يحصل من رئيس الجمهورية على دعم للمؤتمر بلغ عشرة آلاف جنيه، وقد حضر المؤتمر كبار مثقفي مصر طه حسين، أم كلثوم، أبوبكر خيرت، يوسف وهبي، أحمد حسين، فكري أباظة، القصبجي،... وغيرهم الكثير وكان ثروت عكاشة سعيدا بنتائج المؤتمر فقد وضع يده على مجموعة من الأعمال التي يجب أن تنجز سريعا حتى تؤتي الثقافة ثمارها.

وفي ظل دعم كبير حصل عليه من رئيس الجمهورية وضع ثروت عكاشة خطة خمسية للوزارة في عام 1959 خصص لها 7 ملايين جنيها لإقامة العديد من المنشآت الجديدة مثل متحف الفن الحديث ودار الكتب وإنشاء عدد من المسارح في القاهرة والأقاليم ومتاحف في القاهرة والأقاليم ومراكز للحرف الشعبية وإنشاء قصور للثقافة ووحدات ثقافية متنقلة للعمل بالريف وغير ذلك من المشروعات الثقافية...
وطلب ثروت عكاشة من جمال عبدالناصر إلغاء مصلحة الفنون لإعادة تنظيمها؛ فتم ذلك في 2 فبراير 1959، واستقر الأمر على أن تحل محلها مؤسسة أخرى، فجاءت مؤسسة فنون المسرح والموسيقي والتي نالت صلاحيات أكبر ومهمة أشمل للعناية بالمسرح والموسيقي وأعطيت صلاحيات مالية وإدراية وتكليفات ومهام ما جعلتها أكثر فعالية من مصلحة الفنون. 

وجد عكاشة أن العنصر البشري المؤهل للعمل الثقافي غير متواجد بالوزارة بالقدر الكافي فقرر الاعتماد على المثقفين، فانتدب الكثير منهم للعمل بمؤسسات الوزارة، كما حصل على دعم كبير من الحكومة التي أعفت الوزارة من بعض شروط التوظف، بل وخصصت ميزانيات للوظائف الجديدة بها فعين الكثير من المؤهلين للعمل الثقافي.    

على الجانب الآخر، استطاع ثروت عكاشة عقد اتفاقيات ثقافية وأرسل بعثات إلى عدد كبير من الدول خلال الفترة من (1958 – 1962) منها أورجواي وشيلي وإيران ويوغسلافيا ورومانيا والاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية وسويسرا والنمسا وبلجيكا، وإنجلترا وفرنسا وأتاحت الاتفاقيات أن يرسل البعثات تلو البعثات لاكتساب الخبرات والاستفادة من التجارب الثقافية الملهمة في إنشاء وإدارة المؤسسات الثقافية، وكان منها بعثات لحضور المهرجانات الثقافية والفنية، وقام ثروت عكاشة بنفسه وهو وزيرا للثقافة والإرشاد القومي بزيارة الكثير من البلدان للاستفادة من تجاربهم الثقافية ومدى ما حققوه من تقدم. 

سار عكاشة في تأسيس الكيانات الثقافية التعليمية، التي تؤهل كوادر علمية للعمل بالوزارة وعرض الموضوع على مجلس الوزراء؛ لإنشاء معاهد متخصصة لهذا الأمر؛ إلا أنه وجد فتورا كبيرا ومعارضة من وزير التربية والتعليم، فلجأ لرئيس الجمهورية الذي اقتنع بالأمر وحصل ثروت عكاشة على موافقة عدد من الوزراء، فصدر قرارا جمهوريا في أغسطس 1959 بإنشاء ثلاثة معاهد ومدرسة تتبع وزارة الثقافة وهي: (المعهد العالي للفنون المسرحية– المعهد العالي للسينما– المعهد القومي العالي للموسيقى– مدرسة الباليه) وحتى لا يتعرض الوزير للعراقيل مرة أخرى سمح القرار الجمهوري له أن ينشئ معاهد وفروع وأقسام ومدارس أخرى أو مؤسسات تعليمية تتبع هذه المدارس أو بعضها وأن يمنح وزير الثقافة والإرشاد القومي الشهادات العلمية التي تصدر عن هذه المؤسسات وهو الذي يعين عمداء ومدراءها تلك الكيانات التعليمية، واستعان عكاشة بالخبرات الأجنبية للارتقاء بمستوى هذه المعاهد، وحصل وزير الثقافة من الأوقاف على قطعة الأرض التي أقيمت عليها المعاهد حاليا وبدأت الدراسة في هذه المعاهد عام 1959 في مباني مؤقتة حتى تقام المباني الجديدة. 

وأقام المعرض العام للفنانين التشكيليين لتشجيع الفنانين واكتشاف المواهب الجديدة في الفنون التشكيلية، وافتتح متحف دار ابن لقمان 1960 ومتحفي محمود مختار ومحمد محمود خليل وحرمه عام 1962.
كان توفير المعرفة والثقافة الجادة المطبوعة من خلال سلاسل مؤسسات وزارة الثقافة محورا مهما في سياسة ثروت عكاشة فأخرج سلسلة "الألف كتاب" برؤية جديدة وسلسلة "المكتبة العربية" وسلسلة "تراث الإنسانية" وسلسلة "المكتبة الثقافية" وسلسلة "أعلام العرب" وسلسلة "مسرحيات عالمية" هذا بخلاف النشر الحر للنتاج الموسوعي والتراثي والمعاجم و"دائرة المعارف الإسلامية" في مؤسسات الوزارة.  

اهتم ثروت عكاشة بالمسرح القومي، فدفع بعناصر مؤمنة بالعمل الثقافي، واهتم بالنصوص التي تعرض على المسرح، فقد يعرض نصوص لأدباء مثل: نجيب محفوظ ونعمان عاشور ورشاد رشدي وتوفيق الحكيم وإحسان عبدالقدوس وسعد الدين وهبة ولطفي الخولي وغيرهم، واهتماما بالطفل وثقافته استقدم خبراء من الخارج لتدريب المصريين على فن مسرح العرائس وحصل ثروت عكاشة في يناير 1960 من محافظة القاهرة على قطعة أرض بإيجار إسمي واحد جنيه لإقامة مسرح العرائس عليها، وأقام أول عرض لمسرح العرائس في مارس 1960 في المسرح المؤقت في أرض المعارض حضره جمال عبدالناصر.

ونظرا لأن السينما تحتل جزءا مهما من تاريخ مصر الفني، ودعمها قضية لا يمكن التخلي عنها، لذا تم إعادة هيكلة مؤسسة دعم السينما لتكون أكثر فاعلية وتكون لديها الموارد المالية والكوادر البشرية التي تؤهلها لتقوم بدورها وصدر قرارا جمهوريا في 15 مايو 1960 بإعادة تنظيم مؤسسة دعم السينما، واعتمد رئيس الجمهورية لميزانيتها مبلغ 249600 جنيها لمصروفاتها خصص منها لإنتاج الأفلام والمهرجانات والجوائز 131300 جنيها وأنتجت فيلمي "الناصر صلاح الدين" و"واسلاماه" وخصص لمدينة الثقافة والفنون التابعة لها والتي تضم معاهد السينما والموسيقي والتمثيل والفنون الشعبية والباليه نصف مليون جنيه كانت رؤية ثروت عكاشة للسينما أن تظل الدولة داعمة لها ماديا ومعنويا وفنيا ولا تتحول إلى منتج إلا في أضيق الحدود حتى لا تتورط في مشاكل الإنتاج السينمائي المتشعب وكان لا يؤمن بالتأميم.       

لقد كانت الإنجازات الثقافية في تلك الفترة كثيرة ومتعددة ومتنوعة وكان يقف ورائها شجاعة الوزير ودعم رئيس الجمهورية فتم إنشاء الفرقة القومية للفنون الشعبية 1960 وتبعها إنشاء الفرق القومية لكل محافظة من محافظات الجمهورية، كما انضمت فرقة رضا إلى فرق الدولة عام 1961، ووصل عدد المسارح في القاهرة إلى تسعة مسارح بعد أن كان اثنين فقط، ونقل أوركسترا الإذاعة إلى الأوبرا التي بدأت تعزف موسيقي مصرية خالصة بجانب الموسيقي الغربية وزاد الاهتمام بالمسرح الغنائي توهج، وافتتح مشروع الصوت والضوء بالأهرام في 13 أبريل 1960 بمبلغ مائتي ألف جنيه ومشروع الصوت والضوء بقلعة صلاح الدين في 23 يوليو 1960 بتكلفة 150 ألف جنيها، وأقيم في عام 1960 أول معرض للآثار المصرية في الخارج تحت عنوان "5000 سنة من الفن المصري" بدأ بمدينة بروكسل ثم أكمل جولته في عواصم أوروبا وكان له أثر على نجاح الحملة الدولية لإنقاذ آثار النوبة وفي عام 1961 طاف معرض توت عنخ آمون الولايات المتحدة.

وكانت تجربة قصور الثقافة أهم التجارب التي تركت أثرا في تاريخ مصر الثقافي وهي من أهم منجزات الثورة أثناء قيادة ثروت عكاشة لوزارة الثقافة. 

استمر ثروت عكاشة في منصبه في الحكومات المتعاقبة حتى 27 سبتمبر 1962، وفي 29 سبتمبر 1962 تولى محمد عبدالقادر حاتم وزارة الثقافة والإرشاد القومي في حكومة على صبري الأولى، وفي 4 أكتوبر 1962 ضمت إلى وزارة الثقافة هيئة الإذاعة ومصلحة الاستعلامات ومصلحة السياحة حيث كان يتولى هذه الهيئات الثلاث وزير شئون رئاسة الجمهورية على صبري.

أصبح محمد عبدالقادر حاتم نائبا لرئيس الوزراء واستمر وزيرا للثقافة والإرشاد القومي في حكومة على صبري الثانية 25 مارس 1964 وأضيف إليه تولي مسئولية وزارة الإعلام ووزارة السياحة والآثار، كما ظهر في هذا التشكيل وزارة جديدة باسم "وزارة العلاقات الثقافية الخارجية" وتولاها حسين خلاف.

لقد انصب اهتمام عبدالقادر حاتم على الإعلام والسياحة وإن كانت الثقافة ظلت تؤدي دورها طبقا لما لديها من إمكانيات وما كان مرصودا لاستكمال مشروعات بدأها ثروت عكاشة تحولت إلى مجالات خاصة بالإعلام والسياحة، وقد بدا واضحا أن الثقافة في تلك الفترة كانت تعمل بقوة الدفع الذاتية وأن عبدالقادر حاتم لم يعطهم المزيد من وقته حتى أنه لم يهتم بالحديث عن الثقافة حتى في مذكراته. 

الثقافة مستقلة لأول مرة 1965:

كانت أول مرة تظهر الثقافة منفردة كوزارة في حكومة زكريا محيي الدين في 1 أكتوبر 1965 وأول من تولاها الدكتور سليمان حزين (1 أكتوبر 1965 – 10 سبتمبر 1966) الذي دخل الوزارة وهي في طريقها لإعادة هيكلة قطاع الثقافة والإرشاد القومي والسياحة والآثار، واستطاع أن يحدث تناغما بين الإدارات الجديدة للوزارة لتنفيذ المهمة التي وكل بها وهي "تيسير سبل الثقافة لأفراد الشعب وفئاته والربط بين ثمرات المعرفة الإنسانية وحياة الشعب في مجالات الفكر والفن وتنمية الثقافة العربية والأخذ بأسباب التجديد والتمسك بالقيم الفكرية والروحية والاخلاقية والفنية لإحداث تكامل وترابط بين فئات الشعب"، وتكونت الوزارة من المعاهد الفنية ودار الكتب ودار الوثائق والإدارات التابعة لقطاع الفنون الجميلة وجامعة الثقافة وقصور الثقافة والرقابة على المصنفات الفنية والمجمع العلمي ومجمع اللغة العربية والجمعية الجغرافية والجمعية التاريخية والمؤسسة العامة للسينما والشركات التابعة لها والتي تصل لست شركات والمؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر والتي تتبعها ثلاث شركات ومؤسسة فنون المسرح والموسيقي 

ونقل إلى وزارة الثقافة في عهد د.حزين اختصاصات الثقافة التي كانت تديرها وزارة العلاقات الثقافية الخارجية التي تم إلغاؤها وكانت هذه الاختصاصات تتمثل في التبادل في مجالات الثقافة والفنون والخدمات والمصنفات الفنية والتعليمية والإدارة العامة للخدمات الثقافية والمصنفات العلمية والتبادل الفني. 

وبعد قليل من العمل وجد د.سليمان حزين أن وزارة الثقافة تحتاج إلى إعادة تنظيم لإداراتها وأهدافها في ظل ما أدخل عليها تغييرات وما خرج منها من إدارات فاستصدر قرارا من رئيس الجمهورية في 5 فبراير 1966 بتنظيم وزارة الثقافة وجعل لها ثمانية أهداف عليها تحقيقها وقسمها إداريا إلى أربع وكالات تضم مجالات عمل وزارة الثقافة بالإضافة إلى دار الكتب والوثائق ومجمع اللغة العربية والمؤسسات العامة الخاصة بالنشر والمسرح والموسيقى والسينما.

استعان د.حزين بالدكتور على الراعي في مارس 1966 ليرأس المؤسسة المصرية العامة لفنون المسرح والموسيقى لتخريج أجيال جديدة من الكوادر القادرة على النهوض بالثقافة، وعين وكلاءً للوزارة من المثقفين أمثال الدكتور عز الدين فريد وعبدالمنعم أحمد عمر، ولم يطول الزمن بالدكتور حزين لإنجاز المزيد فبعد 11 شهرا غادر الوزارة.      

عودة ثروت عكاشة للوزارة 1966 – 1970:

عندما عاد ثروت عكاشة لوزارة الثقافة في عام 1966 عاد نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للثقافة (10 سبتمبر 1966 – 18 يونيو 1967) في حكومة صدقي سليمان، وعنما أعيد تشكيل الحكومة برئاسة جمال عبدالناصر؛ بعد حرب يونيو في 19 يونيو 1967 كلف بوزارة الثقافة فقط، واستمر وزيرا للثقافة فقط في الحكومات التالية حتى وفاة عبدالناصر، وأكمل المهمة في أول وزارة في عهد السادات وهي وزارة محمود فوزي حتى 18 نوفمبر 1970.      

عاد ثروت عكاشة إلي الوزارة وهو أكثر خبرة وشغفا لاستكمال المشروعات الثقافية التي بدأها ولم تكتمل حتى عودته للوزارة مرة أخرى، وبدأ عهده؛ بعقد أربع مؤتمرات للحوار مع المثقفين، طبقا لمجالات عملهم، فواحد للسينمائيين، والثاني للمسرحيين، والثالث للكتاب، والأخير للفنون التشكيلية، وذلك خلال الفترة ما بين أكتوبر 1966 وأبريل 1967 وذلك حتى لا تكون قرارات الوزارة فوقية، وإسناد أعمال الوزارة لمن يؤمن بها

وسرعان ما قام بضم المجلس الأعلى للآثار ومصلحة الآثار ومركز تسجيل الآثار وصندوق إنقاذ آثار النوبة وصندوق تويل مشروعات الآثار والمتاحف إلى وزارة الثقافة، وكان ذلك خطوة كبيرة نحو الاهتمام بالآثار وخاصة أن ثروت عكاشة كان له دور كبير في التعاون مع المنظمات الدولية لإنقاذ المعابد الأثرية التي تضررت عند بناء السد العالي، وقد وفرت الجهات المنضمة موردا ماليا مهما للإنفاق على المشروعات الثقافية.   

وقام بحل مشكلة النشر في الوزارة التي تفاقمت بوجود كتب مكدسة لا تجد من يشتريها، فقام بدمج شركات النشر بالوزارة في دار واحدة هي "دار الكاتب العربي وترأس إدارتها محمود أمين العالم، ومن بعده عبدالعظيم أنيس، وإلى جانب ذلك جعل للوزارة دار واحدة للتوزيع تولاها سعد الدين وهبة ومؤسسة التأليف والنشر تولتها الدكتورة سهير القلماوي، فزادت سلاسل الكتب في كل المجالات وتم التركيز على المحتوى، وما يحتاجه القارئ، أكثر من أي شيء آخر.

واستكمل عكاشة مشروع المبنى الجديد لدار الكتب على كورنيش النيل، الذي لم يوضع فيه حجر بعد تركه للوزارة عام 1962 وأخد في تسريع وتيرة البناء منذ نهاية عام 1966 حتى أنه في عام 1970 بدأ نقل بعض مقتنيات الدار إليه واجتمع فيه المجلس الأعلى للفنون والآداب وتسلم فيه عبدالرازق السنهوري جائزة الدولة التقديرية في مجال العلوم الاجتماعية.  

وزادت وتيرة استكمال الأعمال التي لم تتم فاكتمل مشروع السيرك القومي وقدم أول عروضه في 1966، ومشروع الصوت والضوء بمعبد الكرنك الذي كان قد وضع حجر الأساس له في 1962، واكتمل في أوائل عام 1970 وتكلف 2 مليون جنيه، واستمر الاهتمام بقصور الثقافة فوصل عددها إلى 28 قصرا للثقافة و5 بيوت للثقافة و60 مكتبة و40 وحدة سينمائية، وأسس "فرقة الموسيقى العربية"، وعمل على حل مشكلة مؤسسة دعم السينما وشركاتها التى كانت تعاني من الخسارة والديون، وعقد اتفاقيات ثقافية مع ما يقرب من مائة دولة أجنبية.   

خلال تلك الفترة كان ثروت عكاشة شغوفا بفكرة بناء المسارح في المناطق الأثرية بجوار الاهرامات والمسرح الروماني بالاسكندرية ووكالة الغوري واستطاع أن ينفذها، وقدمت فيها حفلات فنية لفرق عالمية وغنت أم كلثوم على المسرح الذي أنشئ بجوار أبوالهول.

وأنشئت المزيد من الفرق المسرحية، التى قامت بتمثيل الكثير من الروايات ومنها ما كان ينتقد الاوضاع في مصر من أشهرها رواية "ثورة الزنج" التي اعترضت عليها وزارة الداخلية ومسرحية "المسامير" لسعد الدين وهبة و"العرضحالجي" لميخائيل رومان و"بلدي يابلدي" لرشاد رشدي و"انت اللي قتلت الوحش"  لعلي سالم و"الفتى مهران" لعبدالرحمن الشرقاوي.

وكان من الأعمال المهمة التي أنجزها ثروت عكاشة خلال عام 1969 هو الاحتفال بالعيد الألفي لتأسيس مدينة القاهرة فجاء بما يليق بالقاهرة وبمصر وحضره رئيس الجمهورية، واشتمل على ندوة دولية لتاريخ القاهرة ومعرض للفن الإسلامي ومائدة مستديرة لعمارة القاهرة وندوة دولية للموسيقى العربية، وعروض فنية متميزة واحتفلت عواصم عالمية بألفية القاهرة ومن هذه العواصم: موسكو، باريس، برلين، بروكسل، لندن، مدريد، روما، وأنقرة.   

لقد اقتحم ثروت عكاشة كل المجالات التي تعمل فيها وزارة الثقافة، ولولا ما تعرضت له مصر في 5 يونيو 1967 لكانت وتيرة عمل وزارة الثقافة أكبر بكثير؛ إلا أن تقليص ميرانية وزارة الثقافة، جعلها تسير الهوينا في تنفيذ مشروعات ثقافية عملاقة، مثل المتحف المصري الجديد، دار الأوبرا، متحف الفن الحديث وغير ذلك الكثير والكثير.

وفي 24 مايو 1969 انتقلت تبعية المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية لوزارة الثقافة، وفي 19 سبتمبر 1970 انتقلت تبعية أكاديمية الفنون بروما من وزارة التعليم العالي إلى وزارة الثقافة، ولعل ذلك آخر ما قدمه جمال عبدالناصر للثقافة قبل وفاته في 28 سبتمبر 1970.