الثلاثاء 16 يوليو 2024

المسرح في زمن ناصر


د. سيد علي إسماعيل

مقالات13-7-2024 | 13:02

د. سيد علي إسماعيل

لعل أغلبنا لا يتخيل أن الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كانت له علاقة بالمسرح، وذلك بسبب انشغاله بالسياسة والحُكم وترتيب الدولة وانتقالها من الملكية إلى الجمهورية، وتحقيق أهداف ثورة 1952، ناهيك عن علاقات مصر الخارجية، وانشغال الحاكم بها في بدايات حكمه السياسي .. إلخ! الغريب أن كل هذا لم يشغل جمال عبد الناصر عن المسرح والمسرحيين!!

في يناير 1953 أخبرتنا جريدة «المصري أفندي» أن جماعة التمثيل بجامعة فؤاد الأول وجهت الدعوة إلى الرئيس محمد نجيب لحضور عرض مسرحية «أحمد عرابي» التي ستقدمها على مسرح حديقة الأزبكية .. وحضر الرئيس وكذلك البكباشي جمال عبد الناصر، وحضر معهما كبار رجال الجيش والحكومة، وبعض الفنانين أمثال: المنتجة والممثلة السيدة آسيا، والمخرج بركات، والمخرج صلاح أبو سيف. وقدم فريق التمثيل المسرحية، وكانت بطولة نادية السبع ومنى فؤاد. وقدمت المطربة فايدة كامل بعض أغانيها في فترة الاستراحة.

وفي يناير 1954 أرسل الفنان «يوسف وهبي» عن نقابة ممثلي المسرح والسينما – بوصفه نقيب الفنانين - خطاباً إلى البكباشي أركان حرب جمال عبد الناصر السكرتير العام لهيئة التحرير، ضمّنه قرار الجمعية العمومية للنقابة بالانضمام إلى الهيئة، والمشاركة في الجهود الوطنية التي تبذلها. وقد ردّ البكباشي جمال على هذا الطلب بخطاب – نشرته جريدة القاهرة – قال فيه: "تلقينا قرار الجمعية العمومية لنقابة ممثلي المسرح والسينما في القاهرة بوجوب الانضمام إلى هيئة التحرير مساهمة فيما تبذله الهيئة من جهود لتكوين المواطن الصالح الذي تفضلتم بإبلاغنا إياه، وإن الأمة التي يرتفع الوعي القومي بين فنانيها فيعلمون أن رسالة الفن هي رسالة لخير المجتمع ونصرة الحق فيه لهي أمة خليقة بأن تتبوأ بين الأمم مكانة ممتازة، والحق أن المجتمع في مصر مدين للفنان المصري بالكثير، ولا يزال يأمل منه الكثير في تحرير الفن ورفع مستواه، وأنا لعلى يقين بأن للفنان المصري دوراً هاماً في ثورة مصر وأنه أحد العمد التي سيقوم عليها بناء الوطن الشامخ بإذن الله، وإذ نكتب إليكم بقبول انضمام نقابة ممثلي المسرح والسينما إلى هيئة التحرير مقدرين شاكرين نرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا ويحقق أهدافنا ويؤلف بين قلوبنا والله أكبر والعزة لمصر".

وفي يونيه 1954 أخبرتنا جريدة «البصير» بأن فرقة نجيب الريحاني احتفلت بالذكرى الخامسة لوفاة فقيد الفن والمسرح المرحوم نجيب الريحاني، حيث أناب الرئيس البكباشي جمال عبد الناصر عنه قائد الجناح وجيه أباظة لحضور هذه الحفلة. وصرح البكباشي أنور السادات في حفلة الذكرى بأن الريحاني كان من رواد الثورة بحملاته التهكمية الشديدة على مظاهر الفساد وإثارته النفوس ضدها بطريقته الخاصة!!

وفي أكتوبر 1954 نشرت جريدة «القاهرة» وصفاً لاحتفال فناني المسرح بجلاء الإنجليز عن مصر، قائلة: لم تنم القاهرة أمس .. بل لم تنم مصر بأسرها! فقد أحسّ الشعب بموجات من الحماس تسري في دمائه فراحت الكتل تزحف من كل مكان لتحيي جمال عبد الناصر محرر الوادي .. تحيي فيه الأمل الذي تحقق، والحياة الحرة الطليقة بعد سنين طوال من الكفاح في سبيل هذا الأمل الكبير. وقد سارع الفنانون إلى البطل جمال عبد الناصر وعلى رأسهم النقيب يوسف وهبي .. وما أن أحاطوا به حتى انطلقوا يصافحونه في حرارة وقلوبهم تهتف للرجل الذي جعل من مصر أمة حرة وأعادها إلى مكانها الصحيح. وانطلقت مواكب الفن تجوب القاهرة في سيارات مكشوفة تصدح بالموسيقى وتلقي الأناشيد والمنلوجات .. وهذا هو «شكوكو» فنان الشعب، يرتدي زي أولاد البلد ويسير، ويسير معه الشعب يردد ما يقول لأنه يعبر عن أحاسيس الشعب وفرحته في أروع الأعياد. وفي الساحة الكبرى بميدان التحرير أقيم المسرح وصُفت المقاعد، وامتلأ الميدان على سعته بالجالس والواقف وقدم كل فنان أجود ما يستطيع أداءه .. لقد ظهروا على المسرح جميعاً نجوم المسرح والسينما بلا استثناء. وأصر الفنانون على الاحتفال بهذا العيد سبع ليال في دار الأوبرا وفي كل المسارح .. وهكذا انطلق الفن يعبر عن عواطف الشعب ويصور فرحته وحبه للحرية.

أما المسرح الشعبي فقد قصد أعضاؤه دار رئاسة مجلس الوزراء، في مظاهرة وطنية رائعة، لتهنئة السيد الرئيس جمال عبد الناصر باتفاق الجلاء، وقد أنشد الممثلون والممثلات نشيد التحرير، فالتهبت حماسة الجماهير، وأخذوا يرددون النشيد والهتاف لقادة الثورة الأبرار. وقد استقبلهم السيد الرئيس بالعناق، شاكراً لهم شعورهم وجميل حفاوتهم .. هكذا وصفت جريدة «الجمهورية» هذا اللقاء.

وفي أكتوبر 1954 تعرض الرئيس جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال – عُرفت فيما بعد بحادثة المنشية - فنشرت مجلة «أهل الفن» تحت عنوان «فرحة أهل الفن بنجاة الرئيس جمال عبد الناصر» كلمات لبعض الفنانين، أمثال: يوسف وهبي، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد كريم، وحسين رياض، وأحمد بدرخان، وزينب صدقي، وبديع خيري، وفريد الأطرش .. إلخ، وفي كلمته قال يوسف وهبي: "شُلت يدا التعصب والجهل ونكران الجميل .. ولقد شلت فعلاً وطاشت سهامها ولم تفعل إلا أن أيقظت شعور المصريين نحو زعيمهم والبطل الذي حقق آمالهم ورفع رؤوسهم عالية بين الأمم .. إننا نرفع أكف الشكر والحمد للمولى القدير الذي أكرم مصر فحفظ لها موضع آمالها". أما بديع خيري، فقال: "أيها المصريون .. ثقوا أن الله جل جلاله قد رضى عنكم وأراد بكم خيراً، وثقوا أن مستقبلكم بإذنه خير من حاضركم وماضيكم .. وهل هناك من دليل على ذلك أكثر مما حدث؟ لقد أرادوا بزعيمنا شراً فحوله الله إلى خير. وفي صبيحة يوم محاولة الاعتداء على شخصه بل على مصر ممثلة في شخصه، قامت مصر عن بكرة أبيها تهتف باسمه وتظهر له حبها الكامن وهتف الشباب والشيوخ والأطفال والنساء باسم جمال عبد الناصر وباسم مصر من الأعماق".

وألقى الفنان الشعبي «محمود شكوكو» منولوجاً من تلحينه ومن تأليف فتحي قورة بمناسبة نجاة الرئيس جمال عبد الناصر من حادثة المنشية، قال فيه: 

ياللي سلامتك فيها سلامتنا    ياللي بتتعب لجل راحتنـــا

بالروح والمال    نفديك يا جمال

وتعيش وتكمل نهضتنا

وقف بيخطب كأن اللي حصل دا هـــزار

ما هوش جناية ولا مسدس بيضرب نــار

بينه وما بينه ما فيش يمكن عشر تمتـــار

له قلب زي الحديد، طيب دا أنا اتخضيت

ياللي اسمي قاعد في بيتنا باسمع الأخبـار

وفي 1955 تعرضت قنا إلى سيول مدمرة - عُرفت بنكبة قنا – فتطوعت فرقة نجيب الريحاني بإحياء حفلة خيرية خصصت إيرادها للمنكوبين، وسلمت حصيلة الإيراد إلى الرئيس جمال عبد الناصر فتفضل مشكوراً بإرسال خطاب – نشرته جريدة الأهرام – قال فيه: "السيد مدير فرقة نجيب الريحاني وفرقته، خالص تمنياتي وعظيم تقديري لعطفكم على منكوبي السيول في قنا فساهمتم في إغاثتهم من محنتهم بتبرعكم بمبلغ مائة وثمانية جنيهات مصرية ومائتي مليم. فباسم الإنسانية أشكر لكم عاطفتكم النبيلة نحو إخواننا ومواطنينا" [توقيع] رئيس مجلس الوزراء «جمال عبد الناصر»".

وفي مارس 1955 نشرت جريدة «القاهرة» خبراً بعنوان «مكتبة للمسرح أدباً وتاريخاً يا دكتور طه»! علمنا منه أن اللجنة الثقافية التابعة لجامعة الدول العربية قررت نقل بعض عيون الأدب الغربي إلى العربية، وخصصت لذلك خمسة آلاف جنيه، ولما علم الرئيس جمال عبد الناصر بذلك وضع تحت تصرف الدكتور طه حسين مبلغ خمسين ألف جنيه لنقل عدد أكبر من التراث الفكري الإنساني إلى العربية، وأفصح الرئيس جمال عن فلسفة الثورة الإصلاحية، وأكد أنها تتناول البطون والعقول في وقت واحد، فرصد هذا المبلغ المحدود في قيمته الكبير في معناه ليؤكد للشعب أن الثورة لا تؤمن بالإصلاح الجزئي إذ أن المكتبة العربية فقيرة كل الفقر في النصوص العبقرية التي ألفت تاريخ الإنسانية الفكري، وما من نهضة قامت إلا ولعبت الترجمة دوراً كبيراً في بنائها. وعلق على ذلك الناقد «عبد الفتاح الفيشاوي»، قائلاً: "الدكتور طه حسين يعرف أن المكتبة العربية تكاد تكون خاوية من الكتب المسرحية فليس فيها عن تاريخ المسرح وفنونه سوى القليل، فهل لنا أن نطلب منه باسم المسرح الذي اهتم به في صدر شبابه أن تتزود المكتبة العربية بحلقات متصلات من الأدب التمثيلي".

وأثناء الاحتفالات بعيد الثورة في يوليو عام 1965 نشرت مجلة «الكواكب» موضوعاً غريباً عنوانه «أكبر حشد مسرحي في سبيل الحرية»!! كتبه «سعيد فرغلي»، وجاء فيه بأدق التفاصيل لما يتم تحضيره لعرض مسرحية «في سبيل الحرية» التي بدأ في كتابة موضوعها الرئيس جمال عبد الناصر، وأكملها آخر!! وعلى الرغم من أن هذه المسرحية – حسب علمي – لم تُمثل ولم تُعرض ولم تُنشر حتى الآن في صورتها المسرحية، مما يعني أن ما نشره الكاتب عنها يُعدّ كشفاً جديداً!! 

قال الكاتب: منذ أكثر من شهر والاستعداد على قدم وساق لإعداد مسرحية «في سبيل الحرية» لتقديمها في احتفالات أعياد الثورة. وقد حشد لهذا العمل الفني الكبير أكثر من ثلاثين ممثلاً وممثلة من نجوم المسرح من فرقة المسرح القومي، وفرق التليفزيون المسرحية، وفرقة مسرح العروبة أي المسرح العسكري سابقاً. وقصة «في سبيل الحرية» بدأ كتابتها الرئيس جمال عبد الناصر - وهو طالب في المدارس الثانوية - وقد أجريت مسابقة لتكملتها، وفاز في هذه المسابقة بالجائزة الأولى عبد الرحمن فهمي، وقد أعد النص للمسرح أنور فتح الله، ويخرجه سعد أردش، وأعد الديكور والملابس الفنان صلاح عبد الكريم، والموسيقى التصويرية لعزيز الشوان.

 والمسرحية تصور هجوم الإنجليز على مصر سنة 1807 بعد اشتراكهم في إجلاء الفرنسيين عن مصر، والمسرحية تدور حوادثها في رشيد التي تتوقع زحف الإنجليز عليها بعد أن اشتروا حاكم الإسكندرية التركي بالمال. وتصحو رشيد ذات صباح لتجد أمنها مهدداً بإقدام الإنجليز، الذين احتلوا الإسكندرية. ويجتمع التاجر والصانع والشيخ والقسيس والحاكم والطالب والأطفال والنساء .. يجتمعون وقد وضعوا قلوبهم وأرواحهم في أيديهم يدفعونها ثمناً للمحافظة على حريتهم وكرامتهم، ضد الأتراك والمماليك والعملاء الذي يعتمدون على الاستعمار في استغلال مصر وخيرات مصر!! من الذي يوحد صفوف شعب رشيد ويحيل خوفها إلى ثبات! إنه المقنع!! والمقنع في المسرحية هو البطل القابع في قلب كل فرد من أفراد الشعب البطل المكافح المثابر. ويظهر المقنع ليقود الصفوف ويبدد المخاوف، ويطهر الأرض من الخيانة حتى ينتصر الشعب في رشيد على محاولة ضخمة من محاولات الاستعمار التي أصر على تكرارها يوم التحرير الكامل .. يوم 23 يوليو عام 1952.

ويقوم بالأدوار الرئيسية في المسرحية: «عبد الرحيم الزرقاني» في دور علي بك السلانكلي حاكم رشيد التركي الذي يحب مصر والمصريين ويقف بجانبهم في المعركة. و«عبد العزيز خورشيد» في دور الشيخ الرشيدي ممثل الدين الإسلامي. و«عبد الحفيظ التطاوي» في دور السيد حسن كريت نقيب الأشراف. و«عبد الخالق صالح» في دور السيد طاهر الأدكاوي عمدة رشيد. و«عزت العلايلي» في دور إبراهيم الأدكاوي ابن طاهر الأدكاوي قائد المتطوعين. و«زين العشماوي» في دور محسن الأدكاوي – المقنع - الابن الأصغر لطاهر الأدكاوي، وهو شاب سلبي غير جاد يصرف وقته هو وأصحابه في التدخين واللعب. و«أمينة رزق» في دور زوجة طاهر الأدكاوي. و«سهير المرشدي» في دور فتاة من فتيات رشيد الجميلات، وتحب محسن، ولكنها تختلف معه لسلبيته. و«نوال أبو الفتوح» في دور نورهان، وهي أرمنية شابة يحبها إبراهيم الأدكاوي قائد المتطوعين، ولكنها تعامله كفلاح. و«محمود السباع» في دور قطان باشا والد نورهان، أرمني مرابٍ ويتجسس على المصريين لحساب الإنجليز.

و«صلاح المصري» في دور قائد جنود الإنكشارية الأتراك، وهو خائن للمصريين. و«عبد الوارث عسر» في دور الشيخ علي الطويل، شاعر رشيدي يسرق الشعر وينسبه لنفسه. و«عدلي كاسب» في دور الجنرال فريزر قائد الحملة على مصر. و«عبد المحسن سليم» في دور المعلم لطف الله الذي يحارب الغزاة عن طريق السحر.

ويُكمل الكاتب موضوعه، قائلاً: ولم يكتف سعد أردش بإخراج النص المسرحي، بل قام بإدخال الكورس بنص خارج المسرحية للربط بطريقة ملحمية بين الحدث التاريخي وتاريخ كفاح الشعب المصري في الماضي والحاضر والمستقبل. ويقول سعد أردش: وأنا أخرج هذه المسرحية أحاول أن أبحث عن طريقة للاستفادة من تاريخنا ومن مدنيتنا لاستنباط مسرح جماهيري ينبع من وجدان الشعب ويربطه بماضيه ويوجهه إلى مستقبل سعيد.

ويختتم الكاتب موضوعه بمفاجأة - توثيقية تاريخية - قائلاً: كان من المقرر أن تقدم مسرحية «في سبيل الحرية» في العام الماضي على مسرح نادي الضباط بالزمالك. وقد قامت فرقة مسرح العروبة بإجراء البروفات عليها لمدة شهرين، وكان يخرجها نبيل الألفي ويشترك في بطولتها أحمد مظهر، وسعاد حسني، ثم تأجل تقديمها لعدم الانتهاء من إعداد المسرح، وعندما شرعت فرقة المسرح الحديث في تقديمها، طلب مسرح العروبة الإسهام في هذا العمل الكبير، بصفته صاحب المشروع منذ العام الماضي! وفعلاً شارك مسرح العروبة في إنتاج هذه المسرحية، واشترك أيضاً بنجومه، حتى يخرج هذا العمل الضخم في الصورة اللائقة به" .. وحتى الآن – على حد علمي - لم تظهر هذه المسرحية!!