كتبت : هبة عادل
قال أحدهم: «ما فهمتوش»
كان هذا هو رده علي سؤال بشأن رأيه في فيلم «مولانا» فور عودته من دار العرض فبينما قالت زوجته: أحتاج لرؤيته لمرة ثانية كي استطيع الحكم عليه بدقة..ولم تكن هي الأولي التي استمعت منها إلي هذا التعليق؟ وفي خضم الجدل المثار حول هذا الفيلم بل حول هذه النوعية من الأفلام فإن لهذه النوعية باعا طويلا سنلتقي به بين طيات سطوري القادمة؟ واسجل علي خلفية هذا الجدل الدائر حول الفيلم وحول صناعه من قبله توجهت إلي دار العرض ممسكة في يميني قلمي وأوراقي التي أنقل لكم ما اكتبه من خلالها....
وقد ذهبت وفي رأسي أنني أمام عمل مأخوذ عن رواية حملت نفس عنوان الفيلم «مولانا» للكاتب الكبير والصحفي والإعلامي المخضرم إبراهيم عيسي لتنقلها إلينا كاميرا المخرج المتميز مجدي أحمد علي وكل متابع للحركة الفنية والفكرية في مصر يعرف أننا بذلك نكون أمام عمل لأحد أكبر وأهم قطبي الاستنارة والوعي والفكر والتجديد وكسر الحواجز وربما الخطوط الحمراء في بلدنا.
والمتابع لأعمال النجم الفنان عمرو سعد يعرف أننا أمام موهبة حقيقية كبيرة ومتجددة طالما تألقت في أعمال سينمائية وتليفزيونية سابقة.. أهلتها تماما لتكون الاختيار الأمثل للقيام بهذا الدور الصعب بل والتاريخي في تاريخ السينما المصرية.
فشخصية رجل الدين عبر العصور المختلفة لأكثر من مائة عام مضت ظلت شائكة ومعقدة أو قد يضطر صناعها أحياناً لتقدميها في قالب كوميدي أقرب للهزلي لتفادي الصدام مع الكثيرين من أولي الأمر سواء من السلطة الحاكمة عبر العصور المختلفة أو من الوجه الآخر لهذه السلطة متمثلا في الرقابة الفنية... وبين هذه المطرقة وذاك السندان كانت تخرج أعمال ضعيفة مشوهة ... لذلك فإن الامساك بخيوط هذه الشخصية خاصة عندما تكون البطل الأوحد وليست مجرد شخصية ثانوية كما صورها العديد من الأفلام يكون أمراً صعباً ولكنه لم يكن بالصعب إطلاقا علي قامة تكتب في حجم إبراهيم عيسي لذلك قال كثيرون وأنا معهم إن عمرو سعد في دور الشيخ «حاتم الشناوي» قد لعب دور عمره - فجاء صور هذه الشخصية من صعودها من مجرد موظف بسيط في وزارة الأوقاف إلي شيخ من شيوخ الجوامع ثم إلي الفضائيات حيث المشاهدون والمريدون بالآلاف مما لفت إليه انظار السلطة الحاكمة.. ونلفت النظر هنا إلي كون هذا الفيلم يدور في عصر «مبارك» قبل ثورة يناير 2011 والحقيقة لا أدري هل هذا العمل قد كتب بالفعل قبل الثورة ليحاكي هذه الفترة والقائمين عليها أثناء وجودهم في سدة الحكم.. أم إنها تخريجة فنية صنعها الثنائي عيسي ومجدي لدواع نستطيع تفهمها؟!
المهم أن الفيلم يحكي كيف كانت السلطة في هذا الوقت تسعي لتجنيد مثل هذا الشيخ النجم ليكون أحد أبواقها وجسر الصداقة بينها وبين الشعب المحكوم.
وفي هذا الاطار جاءت أهم قصص الفيلم التي كانت كثيرة وعديدة ومتراكمة فتجد هذا الشاب «أحمد مجدي» أو حسن أو بطرس .. الذي يريد أن يتنصر «يدخل في المسيحية» ونظراً لخطورة الأمر وحساسيته البالغة لكون حسن هذا هو أحد أفراد هذه الأسرة الحاكمة.. فيلجأون إلي الشيخ حاتم.. لكي يثنيه عن هذا الطريق بما له من حكمة وحنكة وخبرة في أمور الدعوة الإسلامية وهنا جاء الحوار الذي كتبه إبراهيم عيسي من أعلي مناطق الحوار في الفيلم حيث يعلن الشاب حسن عن أسباب تخليه عن الدين الإسلامي واتجاهه للمسيحية وحوار حول النار والجنة والحساب والعذاب فيقول له الشيخ حاتم بعد سلسلة من السجالات والمجادلات.. الحاجات دي تسيبها لربنا هو لوحده ميزان العدل المطلق وما ندخلش فيها لكن المفاجأة التي تظهر في نهاية الفيلم أن هذا الشاب ينتمي إلي جماعة إرهابية متطرفة ويقوم بتفجير كنيسة!!
ولا أدري لماذا كانت مرحلة ميله لاعتناق المسيحية وهذه التمثيلية السخيفة التي حبكت علي الشيخ حاتم وعلي الجمهور نفسه .. فكان من الممكن في قفزة واحدة أن يتحول الشاب من الإسلام الوسطي المعتدل إلي التطرف مرة واحدة ... ونعبر عن هذه المنطقة الشائكة التي بالطبع تعمدها اصحابها وصناعها لتسخين الدراما والأحداث ومما يؤكد هذا الاتجاه.. التدرج عبر الأحداث بقصة أخري لفتاة صعيدية تعلن إسلامها الذي لم يكن نتاجا لقصة حب كما هو العهد في السائد من الأحوال .. وإنما لمجرد أن والدها السكير كان يضربها وقد هربت إلي الدير وابوها أعادها فهربت وأعلنت إسلامها وتولي أحد أولي الأمر في بلدتها احتواءها وسترها وتزويجها من مسلم!!
وأنا أري أن هذا عبث ولعب بالنار فلا المسيحية تهجر بهذه السهولة ولا الإسلام يترك بهذه البساطة... ففي الحالتين كانت الأسباب بالنسبة للفتى أو الفتاة فى ترك دينهما وفق أمور لا أجدها تخرج عن الرغبة في تسخين أحداث الفيلم أو بالأحري تم خلقها لنصل إلي المناطق الشائكة من الواقع الذي أعلم أنه موجود ولكن تضفيرة في أحداث فيلم يحمل اسم «مولانا» كان علي سبيل الخدعة الكبيرة حتي علي الجمهور ومن الخطورة بمكان أن توضع عبارات علي لسان الذي يحكي للشيخ عن حادثة تحول حسن إلي بطرس واعتبار أهله أن هذه كارثة وعار علي العائلة وأنه لابد من إنقاذ الولد لأنه في كارثة أو أنه مصاب باكتئاب نفسي أو مسحور له أو راكبه عفريت كما أنه من الخطورة أيضا أن نجد مشهد أبيه وهو يكسر ويلقي علي الأرض بتمثال السيدة العذراء مريم حين وجدها في غرفة ابنه المتنصر.. وبعد ذلك نملأ الدنيا صياحاً ونقول البلد بتولع وفيها فتنة طائفية!!
منطقة أخري من الصراع عاشها بطل الفيلم الذي أنجب ابنه الوحيد «عمر» من زوجته درة... وفيما هم يتنزهون في أحد النوادي وينشغل الأب بالتصوير مع المعجبين يسقط الطفل المدلل في حمام السباحة.. فيخرج فاقدا للوعى وفي غيبوبة مطولة تستدعي سفره للعلاج بالخارج فينكسر الأب ويذهب للبكاء في بيوت الله من أجل شفاء ابنه الوحيد وعودته إلي الحياة وتصورت هنا وفي أوائل أحداث الفيلم أن هذا الخط الدرامي العصيب سيغير من مجري أحداث الفيلم والشيخ وعلاقته بالدين وبالله إلا أن تصوراتى كانت محض أوهام .. فسرعان ما عاد ليمارس حياته الطبيعية ويستمتع بنجوميته وشهرته واضواءه ولم يتأثر إلا في بعض الذكريات والحنين لابنه الغائب بينما جفت العلاقة والحياة الزوجية مع زوجته فأصبح لقمة سهلة للإيقاع به في بحر الغواية مع تلك الفتاة «ريهام حجاج» التي تقنعه في البداية أنها من مريديه وأنها في حاجة رائعة إلي التهام العلم منه والإجابة علي تساؤلاتها وفي هذا الإطار نجد مجموعة من الحوارات عن الشيعة والسنة جاءت في هذا المنطق والعديد من المناطق الأخري له في شكل تليفزيوني برامجي خطابي جاف ذكرنا دائما بأن واضع هذه النصوص هو الكاتب إبراهيم عيسي الذي لم تفارق روحه وشخصيته المباشرة هذا العمل الذي جعله أقرب إلي قالب البرنامج التليفزيوني في كثير من المواضع.
أما هذه الفتاة التي جاءت لتغويه في منزله وفي حجرة مكتبه في مشهد محسوب تماما لتظهر الخدعة وأنها لا تحبه أو تريده كما صورت له وإنما هي فتاة زج بها في طريقه ليتم تصويرهما في هذا المشهد والوضع الخارج ليضغطوا عليه ويهددوه كي يسلم لهم صديقه الشيخ مختار الحسيني الداعية الصوفي الهارب من أمن الدولة والذي ترك له أوراقه الخاصة والسرية في مكتبه وقد لعب هذا الدور باقتدار الفنان «رمزي العدل» الشقيق الأكبر لأسرة العدلية الشهيرة فتظهر خدعة الفتاة والتمثيلية التي ساقتها عليه وهكذا نحن الجمهور «الغلبان» نري أنفسنا أمام خدع وأكاذيب وتضليل طوال الفيلم - وكلما مضت بنا الأحداث في منطقة نعود منها بأوهمنا خاوين الوفاض إلا من مشاهد لدولة لا أمن فيها ولا أمان ولا ثقة ولا صدق الكل يكذب علي الكل.. الكل يجند الكل ويسعي لإفساده من أجل مصالح عليا هي المحرك الرئيسي للبشر، وضع السيناريو لهذا الفيلم مخرجه مجدي أحمد علي وكأنه كتب ما يريد تصويره بمهارة بواسطة كاميرات يجيد فيها التنوع ببراعة عبر اللقطات الواسعة في مشاهد مثل ساحة المسجد أو المسجد من الداخل والزوايا الواسعة لتصوير ارتفاع المأذنة- استديو التصوير بينما يستخدم لقطات قريبة جدا لشفاه الشيخ حيث التركيز في موضع الكلام وهو أهم ما يملكه الداعية من مهارات لعمله.
أما الحوار والجمل التعبيرية فجاءت رغم الشعور بأنها مرصوصة رصاً في الكثير من المواقع لتنقل لنا توجهات الكاتب الشخصية والنفسية والفكرية وهذا له بالطبع ولا ننكره عليه وقد جاءت هذه الكادرات بديعة فعلي سبيل المثال لا الحصر كان من أروعها القول بأن المسيحية بعد ما خرجت من بيت لحم أضحت سياسة والإسلام بعد وفاة الرسول أصبح سياسة ويقول المشايخ لو بسطوا الدين مش هايكلوا عيش أصلا وكذلك يقول الخوف ما بيمنعش الموت... الخوف بيمنع الحياة ولأن منطقة الدين واللعب علي أوتار الدين كما ذكرت هي من المناطق المغرية جداً سواء للكاتب أو للجمهور المتلقي فهي واحدة من التابوهات الثلاثة أو المحركات الثلاثة التي يتم تناولها في السينما بشكل حذر جداً... فقد جاء الفيلم بالطبع جريئاً وهو المتوقع حتي من إعلاناته.
وأحيي كل من ساهم بالتمثيل في هذا الفيلم حتي لو كان من خلال مشهد أو مشهدين مثل النجم المحبوب بيومي فؤاد والقديرين لطفي لبيب والراحل العظيم أحمد راتب.
وكذلك النجوم إيمان العاصي وفتحي عبدالوهاب وصبري فواز.. فقد أجاد الكل في الدور الذي جاء من أجله في فيلم استطاع صناعه أن يقودونا من خلاله إلي دار العرض لنجلس ساعتين أمام فيلم مهم ومحترم يقدم العديد من الرسائل فوق الحزام وتحته لنعرف ونعي ونفكر علي الأقل في زمن انتهت فيه آلية التلقين للتعامل مع العقل الجمعي أو الفردي.. وحتي لو جاء الفيلم في الكثير منه وكأنه سكتشات تقريرية يغلب عليها الطابع التقريري الجاف إلا أن خفة دم وظل عمرو سعد صنعت العديد من مواضع البهجة في جانب آخر وحسبنا في العمل رسالته التي جاءت علي لسان البطل في نهاية الأحداث أثناء تعزيته لشهداء الكنيسة التي تم تفجيرها وإنه لم يقل كلاماً مكرراً وتافهاً وسط الأحضان وتقبيل اللحي لأن الأهم فيما لو استطعنا أن نملأ قلوبنا بكلام الله الحق وقتها هنبطل نزعق وهانسمع بعض ومش هنحتاج مكيرفونات ومعه أقول : ياريت يامولانا.