الثلاثاء 16 يوليو 2024

قصص دار الهلال النادرة.. «عدت من جهنم» قصة قصيرة لـ ميخائيل نعيمة

عدت من جهنم

كنوزنا14-7-2024 | 12:50

بيمن خليل

يذخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة دار الهلال، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

نشرت مجلة الهلال في عددها الصادر في الأول من أغسطس 1953، قصة قصيرة للأديب اللبناني الكبير ميخائيل نعيمة بعنوان "عدت من جهنم". تدور القصة في إطار قانوني وإنساني، حيث يجسد عدنان سمندل، الفنان العجوز، صراعًا شخصيًا مع الزمن والظروف، يُجبر على مغادرة مسكنه بعد حكم قضائي يفرض إخلاءه في مدة محددة، وهو ما يضعه في مأزق بين البقاء في مكانه التقليدي الذي تربطه به ذكريات ومشاعر قوية، أو الانتقال إلى مكان جديد.

نص القصة

بعد مشاحنات قضائية دامت أكثر من سنة، أصدرت محكمة التمييز (الاستئناف) قرارها بتصديق الحكم الصادر في البداية بحق "المدعو" عدنان سمندل والقاضي "بإخلاء المأجور في غضون ثلاثة أشهر" والمدعو عدنان سمندل ما كان غير رسام تألقت شهرته حينا ثم خبت و"الماجور" ما كان غير محترف ذلك الشيخ الأشيب وسكنه معا، وقد أفنى فيه خمسا وخمسين من عمره، فبات يحسه، ألصق بجسده من جلده، وأوثق صلة بروحه من فكره، وبات، وقد ودع عامه الثمانين منذ شهرين، لا يطمع في أكثر من أن يستقبل الموت على سريره بالقرب من الموقد، وتحت السقف وبين الجدران والرفوف والكتب واللوحات الفنية وغيرها من الأشياء المبعثرة هنا وهناك التي طالما سمعت وقع أقدامه، وحفيف أحلامه وشهدت أعراس قلبه ومآتمه، وسجلت أحاديثه مع نفسه ومع الذين زاروه من معجبين وفضوليين، ومعجبات وعاشقات، لم يبق من المهلة المعطاة للفنان العجوز إلا يوم واحد، يترتب عليه في نهايته أن ينتقل بنفسه وبمقتنياته إلى مقر جديد.. وإلا طوح هو ومقتنياته في الشارع بقوة القانون الذي لا يرحم كبيرا أو صغيرا في سبيل "العدل"، ولا يلقى بالاً إلى ما يثيره عدله في الكثير من الأحيان من عواصف نفسانية وما يخلقه من مآزق مادية قد يكون الموت ألطف وقعا منها.

وعندما سئل الشيخ عن ابطائه في التفتيش عن مسكن جديد وفي رزم أمتعته، ألقى اللوم في ذلك على حر الصيف، وعلى قلة المساكن وغلائها، وعلی فتور همته، وعلى ضيق ذات يده وأمور كثيرة غيرها.

وهي أعذار كان يحاول أن يخفي بها حقيقة حاله عن نفسه وعن الآخرين، فلا هو بلغ من الضعف حدا يقعده من التفنيش، ولا عزت المساكن فلا يستطيع أن يجد مسكنا يتسع له ولأمتعته، وبإيجار معقول، ولا قل ما في يده إلى درجة لا تمكنه من تكليف بعض الشركات رزم أمتعته ونقلها، أما الحقيقة فإنه ما كان يطيق الانتقال من مسكن سلخ فيه خمسا وخمسين سنة من ماضيه، ولا يقوى على تحمل ما يتبع ذلك من تغيير في نمط معيشته، فكان كلما حاول أن يمد يده إلى أي شيء في محترفه بقصد إعداده للرزم والنقل جمدت يده كأن بها شللا، وسدت الغصة حلقومه، وانقبض قلبه فكاد يغمى عليه.

وأخيرا، من بعد ليلة ما ذاق فيها طعم النوم، نهض عدنان من فراشه وقد حزم أمره على فعل ما يفعله سفراء الدول عندما تقع الواقعة وتعلن الحرب، فيمضون يحرقون جميع الأمتعة والوثائق التي قد يؤخر فرزها ورزمها ساعة الرحيل، وقد تنفع العدو إذا هو حظى بها.. ومن تم فحرقها يخفف من متاعب نقلها، وأضرم عدنان النار في الموقد ثم راح يلقمها من غير ما شفقة أوراقا ورسوما وكتبا وأشياء كانت عزيزة على قلبه فلا يسمح أن تمسها يد بأقل سوء، وقد تملكه شعور غریب أشبه ما يكون بشعور من يرى نفسه في الحلم مثقلا بأعباء كثيرة، ثم يأتيه من ينزع عنه كل أعبائه ويعيضه عنها جناحين قويين.

وانطلق يسخو على النار بكل ما تقع عليه يداه، فلا يعف عن لوحة ولا عن كتاب، والنار تقابل سخاءه بالتهليل، وتندلع ألسنتها يمينا ويسارا، وتشب إلى فوق في رقصة هي السحر بعينه، وهذه الرقصة تفعل في لب عدنان فعل الحميا فيستزيد النار رقصا، وتستزيده وقودا.. فلا هي تشيع ولا هو يمل وكأن كلما تناول شيئا من الأشياء بيده تأمله هنيهة ثم طوح به في الموقد المتاجج قائلا: "إلى جهنم! هنالك تستريح مني، فأستريح منك".. والغريب أنه كان يفعل ما يفعل ويقول ما يقول ووجهه طافح بالبشر وبهجة النصر.. فكأنه القائد المظفر في المعركة الحاسمة.

لو أن أحد الذين عرفوا الفنان في أوج مجده دخل عليه في تلك الساعة لما خامره أقل شك في أن الرجل خولط في عقله، أو أن نوبة من الهستيريا قد عبثت بلبه وأعصابه لقد كان يجري على غير هدى في محترفه الفسيح فيتناول الأشياء عن يمينه وعن يساره ثم يهرول بها إلى الموقد حيث تلقى نهايتها الجهنمية، ومن هذه الأشياء نفائس كان يعتز بها أعظم الاعتزاز، ورسوم أنفق الأيام والليالي في صنعها ونالت الجوائز الأولى في المعارض الفنية، ورسائل من عظاء الأرض وعظيماتها كان يحرص كل الحرص على سلامتها، ويباهي بها معارفه وأصحابه فكأنها من بعد ما نالته من كرامة لديه أصبحت الآن قذى في عينيه، وعقارب في يديه، أو سلاسل في رجليه وهو يحاول التخلص منها بأسرع الوسائل ويخشى أن تنطفئ النار في الموقد قبل أن يأتي عليها جميعا، أو قبل أن تنتهي المهلة المعطاة له "لإخلاء المأجور"، أو قبل أن تتبدل حالته النفسية فتفتر حماسته وتشل الندامة يده.

لقد كان يعمل كمن يريد أن يصفي حساباته مع الماضي في لحظة واحدة، وأن يقطع الأواصر التي تربط أمسه بغده، ولعله كان يفعل ذلك تشفيا من نفسه المرهونة خمسا وخمسين سنة بهذه الجدران وهذه الأشياء حتى باتت تحسب الحياة جحيما بدونها، وها هو يبرهن لها أنها تستطيع الاستغناء عنها، وأنها أحسن حالًا وأخف أثقالا إذا هي انعتقت من ربقتها.

قد يكون أن شيئا من ذلك لم يخطر ببال عدنان عندما ثار ثورته الجنونية.. فها هي تلك الثورة تهدأ بغتة كأنها لم تكن غير زوبعة عابرة، وها هو ينتصب أمام الموقد كالصنم وقد جحظت عيناه، ويبست يداه، وانفرجت شفتاه عن بسمة صفراء، بلهاء، والنار ماضية في رقصتها العجيبة وفي التهام الزاد الذي جادت به عليها يده، وكان آخر ما تلقفته من تلك اليد الخبة رزمة من الأوراق ما لبثت إن انفرطت، فبرزت  منها صورة فوتوغرافية لفتى وفتاة في ريق الشباب ومنتهى النضارة والجمال، وقد لف الفتى عنق الفتاة بذراعه وآمال رأسها إلى صدره ثم انحنى برأسه فوق رأسها انحناءة فيها من الرجولة والعطف والحنان وغبطة الحب الظافر ما ليس يوصف وبدت الفتاة بجانبه أنوثة خلابة، مطمئنة، تندفق من عينيها الذابلتين ومن تقاسيم وجهها البديع شآبيب من الحب الجامح والشهوة الهاصرة، وكان من غريب الاتفاق أن وقعت الصورة في الموقد على طرفها الأسفل فانتصبت في الوسط وأحدقت بها ألسنة النار من جهاتها الأربع فكانت لها في خلال لحظات معدودات إطارًا من اللهيب يعجز عن وصفه أي قلم وعن تصويره أي فنان.

في خلال تلك اللحظات القصيرات وقف السيخ مشدوها لا يأتي بحركة ولا يكاد ينفس، فالصورة في الإطار الناري ما كانت غير صورة حبه الأول، وكان حبا أثيما، فالفتاة التي بجانبه كانت زوجا لأعز صديق له.. ولكم حاول أن يتغلب على حبه لها فغلبه حبه، ولكم حاولت أن تبقى أمينة لزوجها فخانها لحمها ودمها، ولكم غرق وإياها في ساعات من السبوة المشبوبة، وفي هذا المحترف عينه، ذاهلين عن كل ما في الكون وقائلين وأحدهما للآخر: "إن نار الحب تظهر كل إثم".

لقد مضى على ذلك العهد أربعة عقود وأكثر، فما عاد يذكره عدنان إلا نادرًا، ومن غير أن يرتفع نبضه  أو ينخفض، ولا هو يدرث اليوم إذا كانت تلك المرأة وزوجها على قيد الحياة وأين، فقد انقطع ما بينه وبينها من زمان، أما الآن، وقد راحت ألسنة النار الراقصة أمام عينيه تلحس رسمه ورسم الفتاة،  فالقشعريرة تهز جسمه هزا، وقلبه ينكمش حتى ليكاد يتوقف عن النبض، ورأسه يدور كأنه جرع خابية من الخمر، فقد خيل إليه - وهو الرجل الذي كان يتبجح بإلحاده - أن الموقد الذي أمامه هو جهنم بعينها، جهنم التي تتحدث عنها الأديان وتنذر بها الخارجين على إرادة السماء، وأن النار التي تلتهم الآن صورته وصورة أنثي كانت عشيقته منذ أربعين عاما هي نار جهنم، بل أنه راح يحس تلك الصورة من الورق كما لو كانت صورته وصورة عشيقته بلحمهما ودمهما، ويحس النار تشويه وتشويها وقد ملأت رائحة الشواء منخريه، وها هو اللهيب يقترب من ذراعه حول عنق الفتاة، ثم من ذقن الفتاة، ثم من عينيها.. لا، لا.. لن تأكل النار تينك العينين الحالمتين بالحب العنيف، الطافحتين بالأنوثة المتناهية والجائعتين إلى ملذات الحياة ومفاتنها.

وينتفض الشيخ انتفاضة عنيفة.. ومن غير وعي منه يمد يده إلى الموقد لينتزع منه الصورة قبل أن تعبث  النار بعيني الفتاة، ولكنه لا يعود من الموقد إلا بحفنة من الورق المتفحم المتجعد، وبيد قبلتها النار قبلات عنيفة، حراقة.. ويغمى عليه فلا يستفيق إلا على جرس التليفون يدق دقات ملحة متواصلة، ولشد ما يذهله أن يسمع صوتا متهدجا جدا، وبعيدا جدا وفيه من اللوعة أهوال، فيقول له أول ما يقول: "عدنان! إنني في جحيم من الآلام ولا من منقذ سواك، أفلا تلطفت وأذنت لي بزيارتك الآن، ولو لدقيقتين!"

فيجيب عدنان بمنتهى الدهشة والذعر: "أما أنا فقد عُدت الساعة من جهنم.. ولست أريد أن أدخلها ثانية - ولو ولو لدقيقتين!".. وكان الصوت صوتها.