السبت 27 يوليو 2024

قصص دار الهلال النادرة| «العرائس الإلهية» قصة قصيرة لـ أليفة رفعت

العرائس الإلهية

كنوزنا24-7-2024 | 15:12

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر في 1 أبريل 1979، نشرت مجلة الهلال، قصة قصيرة بعنوان "العرائس الإلهية" للكاتبة أليفة رفعت، تدور القصة حول شخصية "سهير" التي تنقلب حياتها رأسًا على عقب بعد أن تتعرض للعنف على يد زوجها، المهندس وائل، حيث تنكشف الحقائق المريرة عن علاقات خفية.

نص القصة

انطلقت صرخات حادة تشق سكون الليل أعقبها نشيج مؤلم بكى له قلبي وتمزق كإنما مر عليه سكين حاد.. وضاعف من رنين البكاء الصمت والهدوء الذي يخيم على عمارتنا في مثل هذه الساعة..

وازداد علمي حین أدركت أن الصرخات قد انطلقت من شقة المهندس وائل.. المواجهة لشقتي والتي يسكن فيها مع أسرته جریت نحوهم وألف خاطر يتنازعني ويرسم لي أبشع الكوارث والنكبات التي من الجائز أن تحل فجأة بأي أسرة آمنة.. وضعت يدي على جرس بابهم وأنا أنتفض من الخوف بينما تجمع باقي السكان أمام عتبات الشقق يطلون من الأدوار في انزعاج.. فتح لي وائل بنفسه، كدت أنكره لصورته المضطربة وتقاطيع سحنته المقلوبة وعينيه المحمرتين تومضان بالغضب الشديد.. قلت أداري انزعاجي بابتسامة متوددة.. "ماذا حدث؟"

قال: "اسالي صديقتك السيدة المحترمة المصون.. "وتركني ودخل إلى غرفته وأطلق بابها عليه بينما تجمع الأولاد حول أمهم يفكرون العيون المذهولة المتسائلة.. عرفت لسهير حين رأيتها بينهم متكومة على الأرض وكل وجهها كدمات زرقاء شوهت وجهها الجميل وانقلبت بوسامته إلى صورة دميمة شقية زاد من بشاعتها عيناها المقروحتان المتورمتان..

احتضنتها وشددتها من على الأرض حتى تحاملت على نفسها وقامت معي بينما تفرق الأولاد إلى الغرفهم في صمت حزين.. انسحبت بها إلى غرفة الاستقبال فتهاوت متخاذلة على أقرب مقعد وغطت وجهها وراحت ترتعد وتنشج باكية.. رحت أمر على وجهها بفوطة مبللة بماء مثلج وأمسح بها على جروحها في رفق وقد ألقت برأسها للوراء مستسلمة للمساتي وعيناها تدوران في ذهول تنهدت في بؤس وراحت تتتمتم.. "انتهى وجودي کله"..

قلت في حيرة: "ماذا حدث أبالله عليك خبريني.. لماذا يضربك زوجك بكل هذه الوحشية.. قالت والدموع تطفر من عينيها وتتدفق مرة أخرى: "حطمت كل عوالمي وانتهيت!".. لن أستطيع العيش كما كنت بعد الآن ولن أستطيع النظر في وجوه أولادي بعد أن أذلني على هذه الصورة أمامهم.. فلن أكون الأم المحترمة في تقديرهم.. ولن أستطيع تناول لقمة واحدة عنده.. وأفضل أن أموت جوعا من أن يمولني هذا الرجل بعد أن حطم كبريائي هكذا.."

قلت وقد زادت حیرتي: "أنت تفخين الأمور وكأن نهاية الدنيا قد حلت.. ولم يحدث بينكما مالم يحدث.. فكثير من الأزواج يتشاجرون ثم يعود الوفاق بينهم".

انطلقت في ثورة تقول: "إلا أنا.. أنا لا، أنا لم يضربني أحد أبدا حتى ولا أبواي.. بل ربیاني على سرعة الفهم والتقدير.. يكفيني نظرة موحية إلي بالتصرف الصحيح لأقوم به في صمت بغير كلمة تأنيب ولا زجر.. وعندما تزوجت بوائل لم يربط بيننا حب ولا عشق بقدر ما ربط بيننا التفاهم والاحترام.. وعشنا طوال هذه الأعوام مثالا للزوجين المهذبين الوقورين.. كل منا كان يعرف واجباته وحدوده ویؤدي مهامه.. بيتنا يسير كالساعة في الانضباط.. أحوالنا منسقة ميسرة بغير خلل.. ولکني کنت أختنق وأحترق كما تحترق الشمعة لتنير من حولها.. أسير في طريق الواجب مثل الآلة التي يحركها مهندس ماهر.. ووائل كما تعرفين مهندس ماهر قدیر فعلا خطط لنا حياتنا بدقة وبراعة وعمل حسابا لكل مسيار وترس في جهاز بيتنا ومستقبلنا، وليس أننا بشر.. لم يدخل أبدا في تخطيطاته وتقديراته أننا لنا قلوب وأهواء وعواطف..".

راحت تمسح دموعها بباطن كفها وتهز رأسها ومازالت في ثورتها تتكلم: "أنا أنسانة يا صديقتي.. قلبي ليس من حديد ولا حجر.. أنا من دم ولحم وأعصاب، وعاطفة.. قلبي حي ينبض وكلي حيوية متدفقة، وينبض هذه الأيام أكثر ويركض محاولا استعادة الزمن الذي جرى بي إلى أعتاب الكهولة واقترب بي من نهايتي المحتومة.. قلبي يتمرد على الجمود المنظم الذي عشت فيه آلة أدور وأدور.. إلا في اللحظات القليلة التي كنت أختلسها من قيودي.. لأشعر أني مازلت إنسانة أعيش وأنتفس.. أختلي بجهاز تسجيلي أتسمع لصوت حبيبي أو أجلس لمعزفي أحاول أن أترنم بموسيقى هذا الحبيب الذي ملك على أسمی مشاعري.. وأروح غائبة عن واقعي سابحة في العالم الجميل المضيء الذي يصوره بموسيقاه وبنبرات صوته الشجي الرحيم الذي يتسرب إلى أعمق أعماق إحساسي.. يطوف بي في سماوات سحرية ويحملني بلين ورفق كموجة بحر هادئة رطبة في قيظ صيف.. كنسمة ليل صافية رقيقة تطويني نبرته العذبة.."

قلت في دهشة: "من تقصدين بقولك أن تبوحي لي بمشاعرك للموسيقار الشهير سمير وجدي.. وما الضرد من حبك له؟! كلنا نحبه بل أنا دائما أنصت بشغف لغنائه الذي ينساب مناديا من شقتكم حين تديرين جهاز تسجيلك وأشاركك متعة الاستماع إليه.. وأحيانا بل حتى زوجي يعدني ضاحكا بشراء جهاز مثله لأسجل عليه ما أشاء، ليس في هذا أي عيب.."

ضحكت لحيرتي من خلال دموعها التي انقشعت سجيتها سريعا أمام اشراقة روحها الشغيفة.. حتى بدا وجهها الخمري بريء التقاطيع کوجه طعن.. لولا الكدمات التي تبرقشه لانمحت تماما آثار الزوبعة التي مرت بها..

وقالت: "نعم ليس في الاستماع إليه عيب: ولكن صدقيني لو أحببته كما أحببته واتصلت به لذبحك زوجك حين يعلم!.."

نفرت من مكاني وألصقت مقعدا بجانبها وأدنيت أذني وأنا أهتف بها: كيف اتصلت به وأحببته؟ وهل أحبك هو الآخر!!.

قالت: وهي تتمطى باستمتاع: "تصوري.. سمير وجدي يحبني أنا.. أنا سهير المسكينة المنطوية.. أنا الهامة وعروس أحلامه!"

قلت ولذة استمتاعها بالعواطف الدافئة تجتاحني: "احكي لي بالتفصيل، فلكم يطربني أن أستمع لحكايات الحب، فهي تحييني وتذيب الثلوج المتراكمة على الحياة، وتجرى بالدماء في العروق تعيد للأجساد الحيوية والشباب..

رنت ضحكتها صافية مترقرقة، وهمست تفضي بسرها: "لست أدري متى بدأ حبي له: فطول عمري منذ بدء وجودي وأنا أحبه، وإن كنت لم أعرف هذه الحقيقة حتى قابلته.. وإنما كنت أستمع إليه فتطل روحه عليّ من بين الأنغام،  تلازمني وتكمل وجودي.. حتى كانت ليلة قدر لي فيها أن أتعرف على حبي.. ليلة فاضت فيها مشاعري بعد طول كبت وحرمان.. غلبني فيها حنيني فناديته بالتليفون كأي معجبة من الجماهير التي تعشق غناءه.. ولقدرنا المكتوب رد عليّ هو بنفسه في الحال، وكأنما كان في الانتظار.. ومن أول كلمة شعرنا أننا كنا نحيا معا.. وتعرف كل منا على الآخر وكأننا كنا نعيش في مكان آخر وفي حياة أخرى غير حياتنا في هذه الدنيا.. وراح يشكو لي من السأم الذي يعانيه رغم الشهرة، والغنى وكثرة العاشقات، فمازال يبحث عن القلب الحنون الوفي ويبحث عن الروح التي تعانق روحه.. يبحث عن نصفه المفقود، فهو يؤمن مثلي أن الله حين خلق الإنسان، شطر كل واحد إلى نصفين فجعلهما رجلا وامرأة، وكل من الشطرين تائه ناقص بغير نصفه المفقود وألفه الغائب، ولكن متى التقيا وعرف كل منهما الآخر اتحدا بالحب وربط بينهما، وهذا سر الحب وجاذبيته الغامضة..

وهكذا يا صديقتي وجدنا أنفسنا قبل أن تنتهي المكالمة التليفونية عاشقين غارقين في الحب.. وصدقيني إني حاولت التعقل وتجاهل العاطفة الجارفة التي كانت تدفعني لأن ألقي بنفسي في أحضانه وحاول هو الهروب حين علم أني زوجة وأم، ولكن بغير جدوى..

وتقابلنا في "الكازينو" الهادئ تحت سفح الهرم ذات ليلة والتقط لنا مصور ملهم صورة تذكارية احتفظت بنسخة منها في علبة مجوهراتي، ورحنا نتبادل المكالمات التليفونية والخطابات ونحيا في عالمها العلوي السحر وألف المقطوعات الموسيقية الخلابة التي سماها "سهر" والعرائس الإلهية، من وحي حبنا وإلهاما من عاطفتنا الحارة الصادقة، ولكننا وأقسم لم ننحدر لجحيم الجسد ولا وقعنا في أحبولة رغباته وشهواته.. بل قاومنا في استشهاد واستبسال غرائزنا البشرية وسمونا بحبنا إلى آفاق الروح الوضاءة.. هو متخم من كثرة الحسان العاشقات اللاتي يترامين في تبذل   ممجوج على أعتابه حتى أصابه الملل والسأم في تبدل، وأنا زوجة.. وأم أمينة لا أفرط في أمانتي، وأحافظ بإخلاص على بيتي وشرفي وسمعتي، لم تحدث أبدا بيننا ما يشين أو يغضب الله، وأنما صوّرنا لأنفسنا بأحلامنا عالما مثاليا وامتلكنا أرضا جديدة في كوكب بعيد عن نزوات البشر، ورحنا نشرب الحرمان ليشع فينا نور الحب.. حبنا عبادة، كحب الزاهدين.. يجمعنا الشوق الروحي الظامئ للجمال وحين نلتقي نروح هائمين نتبادل السعادة التي تشبع بها أرواحنا من خلال العيون.. نحيا في موطن حبنا السحري وتنساب بيننا الأنغام الملائكية تتجاوب مع إيقاع نبضات قلبينا.. حتى إذا عدنا لواقعنا.. عدت امرأة متجددة مقبلة على الحياة ممتلئة بالحيوية والأمل.. كل حبنا خيال في خيال.. ولكننا نؤمن به وننتظر الرحيل من هذه الدنيا حتى نزف عروسين في السماء فنحن لا نقوى على هدم عشي وتشتيت أطفالي، فنحن لسنا في حاجة لنحيا معا حياة مادية على هذه الأرض. لا نشعر بالشوق الجسدي، وإنما حبنا سما على أشواق البشر الترابية.. حبنا ثور يشرق لا نار تحرق..

قلت لها وقلبي يفيض بشجى عميق: "هل أدرك زوجك هذا وهل يصدق!".

قالت: "لست أدري.. دائما انتابته ثورة عنيفة وغضب شديد جملة يضربني بكل هذه العصبية حين سمعني أتكلم معه في التليفون مناجية وأنا أحتضن كنز خطاباتنا وأتأمل الصورة التي تجمعنا.. فراح يضربني بجنون وقسوة، وظفرت دموعها مرة أخرى وقد قامت تقاطعها بسحب الألم، ثم نهضت وهي تضغط على رأسها في ألم.. وتهتف: "هذا جنون أن أحب بهذه الصورة وأنا في هذا العمر وهذه الظروف!" جنون ولكن أين المفر، أنه قدري ولیس أمامي إلا أن أبتهل وأدعو الله سرعة الرحيل"..

وقفت وتوجهت تلوذ بأبواب السماء.. وراحت بغير أن تشعر به.. وتقدم حتى وقف بجانبها فتح وائل الباب في هدوء وأشار لي بسبابته على فمه يدعوني للصمت..

وكان يبتسم في هدوء بعد أن استمع لحديثنا بغير أن نشعر به.. وتقدم حتى وقف بجانبها وأمسك بيدها وراح يبتهل معها في ندم واستغفار ووضعت رأسها على كتفيه وهي تتنهد بارتياح بينما كنت أتسلل إلى شقتي في هدوء مع تسلل أول أشعة الصباح..