تحل علينا اليوم، 25 يوليو ذكرى وفاة أحد أبرز الفلاسفة العرب في القرن العشرين وأغزرهم إنتاجًا، ترك إرثًا فلسفيًا غنيًا، وأثر في أجيال من الفلاسفة والمثقفين العرب، يُعد من أبرز الشخصيات التي ساهمت في تطوير الفكر الفلسفي العربي المعاصر.اشتهر بتأليفه لأكثر من 150 كتابًا، شملت تحقيقًا وترجمة وتأليفًا، مما جعله شخصية مؤثرة في المشهد الفلسفي العربي، إنه فيلسوف العرب عبدالرحمن بدوي .
كان بدوي من أوائل الفلاسفة العرب الذين اهتموا بالفلسفة الوجودية، حيث قدم قراءات جديدة للفلاسفة الغربيين وأسس لتيار فلسفي جديد في العالم العربي. كما اهتم بالفلسفة الإسلامية والفلسفة العربية الكلاسيكية، وقدم دراسات مهمة حول الفارابي وابن سينا وغيرهما.
وتأثر بدوي كثيرًا بعميد الأدب العربي، كان طه حسين رائدًا في النقد الأدبي، وقد ورث عنه بدوي هذا النهج الجريء في تحليل النصوص الدينية والأدبية، دون خوف من تحدي التقاليد السائدة، كما شجع طه حسين على الانفتاح على الفكر الغربي، وخاصة الفلسفة، وقد تبنى بدوي هذا النهج وسعى إلى دمج الفلسفة الغربية بالفكر الإسلامي، وكان كلاهما كانا يعلمان بأهمية اللغة العربية كأداة للتفكير والتعبير، وقد ساهما في تطويرها وتوظيفها في خدمة الفكر، حيث ورث بدوي عن طه حسين الاهتمام بالتراث العربي والإسلامي، ولكنه سعى إلى تجديد هذا التراث وإعادة قراءته في ضوء الفلسفة الحديثة.
ويقول عبدالرحمن بدوي في مذكراته «سيرة حياتي» التي نشرها عام 2000، على جزئين : "كانت الدراسة في السنة الأولى بكلية الآداب عامة مشتركة بين جميع الأقسام، وإنما يبدأ التخصص من السنة الثانية. وكانت المواد في السنة الأولى خمسًا: أربع لغات وفلسفة. واللغات الأربع هي : العربية، والانجليزية، والفرنسية، واللاتينية ولما كان ما حصلته في العربية والانجليزية قبل دخولي كلية الآداب يفوق بكثير ما يتعلمه الطلاب في هذه السنة الأولى - بل وما بعدها أيضًا ! - فقد قرّرت ألا أحضر من محاضرات هاتين المادتين إلا ما لا يتعارض مع المحاضرات الأخرى التي طاب لي حضورها لمزيد من العلم ومن المعرفة بالأسماء اللامعة من الأساتذة في الأقسام الأخرى غير قسم الفلسفة : فكنت أحضر كل ما يتيسر لي حضوره من محاضرات الدكتور طه حسين في قسم اللغة العربية؛ وحضرت محاضرة واحدة لكل من أحمد أمين وعبد الوهاب عزام، وأمين الخولي، وإبرهيم مصطفى، فتبرمت منها ولم أحضر غيرها. وإذا كنت قد حضرت كل ما تيسر لي حضوره من محاضرات الدكتور طه حسين، فإنما كان ذلك لإعجابي المفرط به وبصوته وهو يحاضر. وكنت قد سمعته يحاضر محاضرة عامة لأول مرة في حياتي في شتاء 1933 - 1934 ، لما ألقى محاضرة عامة في جمعية الشبان المسيحيين. (شارع إبرهيم) عن الشاعر الفرنسي العظيم: "پول فاليري Paul Valery ". فأخذ بلبي وسحرني بجمال صوته وعذوبة نبراته وروعة أدائه اللفظي . .. صحيح أن ثم فارقًا كبيرًا بين طه حسين وهو يلقي محاضرة عامة على جمهور كبير من السامعين، وبين طه حسين وهو يلقي درسه المعتاد على طلاب قسم اللغة العربية، حتى أنني أصبت بخيبة أمل كبيرة لما سمعته يلقي هذه، وكان صوته في محاضرته العامة عن "پول فاليري" لا يزال يرن في سمعي بقوة وحرارة وإعجاب. لكن هذا الاعجاب حملني على تقدير الفارق بين المحاضرة العامة للجمهور وبين الدرس يلقي على عدد قليل من الطلاب بشكل منتظم" .
وأضاف بدوي : "إن طه حسين في سنوات 1935 وما تلاها ليس هو طه حسين عامي 1925 - 1926 ، و 1926 - 1927 لما كان يلقي على الطلاب في الجامعة المصرية الجديدة محاضراته في «الشعر الجاهلي» و«الأدب الجاهلي» والتي تمخض عنها هذان الكتابان. ذلك أن دروسه في عام ١٩٣٥ وما تلاه كانت على نوعين: شرح نصوص شعرية، وتاريخ أدب أموي وعباسي. وفي النوع الأول كان يدع أحد الطلاب يقرأ - وهذا أمر لم يكن منه مفرّ بالنسبة إلى حالته الخاصة، إذ لم يكن من الممكن أن يستظهر كل الشعر الذي يشرحه فهذا مستحيل - ثم يعلق الدكتور طه تعليقات مقتضبة. وفي النوع الثاني، وهو تاريخ الأدب، لم يلق دروسًا منظمة متسلسلة الحلقات، محكمة الترتيب، لأنه لم يؤلّف في هذا الباب شيئًا، وما كتبه وجمع في كتابه «حديث الأربعاء» وما أشبهه، لا يؤلف وحدة متصلة، بل هو في الغالب انطباعات متناثرة، ولمحات قصيرة" .
وتابع : "كان أهم حدث جامعي في هذا العام الأول من دراستي في كلية الآداب هو عودة الدكتور طه حسين إلى هذه الكلية في شهر نوفمبر او ديسمبر سنة 1934 بعد أن فصل منها في مارس سنة 1932. فاستقبلناه محمولًا على الأعناق من باب الجامعة حتى المدرج رقم 74 في كلية الآداب وتوالى الخطباء والشعراء في إلقاء ما كتبوه احتفالًا بهذا المقدم السعيد. وبعد عودته بحوالي شهر قدمني إليه أستاذنا في اللغة العربية طه إبرهيم مثنياً عليّ بما شاء له خلقه الفاضل. ومن يومها، أي في يناير سنة 1935 انعقدت بين الدكتور طه حسين وبيني أواصر علاقة متينة زادت مع السنوات وثوقًا وعمقًا حتى وفاته في 27 أكتوبر سنة 1973" .
يمكن القول إن طه حسين كان بمثابة الأب الروحي لعبد الرحمن بدوي، وقد ساهم بشكل كبير في تشكيل فكره وأسلوبه. ومع ذلك، فإن بدوي استطاع أن يضيف بصمته الخاصة على هذا الفكر، وأن يطوره ليواكب التحديات الفكرية المعاصرة.