الخميس 1 اغسطس 2024

قصص دار الهلال النادرة| «حالة جنون» قصة مصرية لـ محمود كامل

حالة جنون

كنوزنا28-7-2024 | 15:34

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر1  مايو 1931، نشرت مجلة الهلال، قصة قصيرة بعنوان "حالة جنون" للكاتب محمود كامل، تدور القصة حول الدكتور زاهر حلمي، طبيب شاب يقع في حب عقيلة هانم، زوجة مريضه يسري بك، فتطلب عقيلة من زاهر قتل زوجها.

نص القصة

دق جرس التليفون في عيادة الدكتور زاهر حلمي حوالي الساعة السادسة بعد الظهر وكانت قاعة الانتظار خاصة بالمرضى الذين جاءوا يلتمسون الشفاء على يدي الطبيب الشاب الذي ذاعت شهرته رغم قصر المدة التي قضاها يمارس مهنته النبيلة وأجاب خادم العيادة بأن سيده مشغول وأنه لا يستطيع النزول قبل انتهاء موعد العيادة في الساعة السابعة مساء وكأن الدكتور زاهر شعر برغبة خفية في أن يعرف شيء عن ذلك المتكلم فاستدعى خادمه وسأله:

- من الذي يتكلم ؟

- إنه منزل يسري بك

فظهرت علامات الاهتمام على وجه الطبيب ثم قال:

- عبد القادر بك يسري؟

- أجل

فانفعل الطبيب وبان على وجهه الغضب ثم انتهر خادمه قائلا:

- ولم لم تستدعني للرد عليه، من الذي تكلم من منزل يسري بك؟

- السيدة زوجته يا سيدي

فاقترب الدكتور من وجه الخادم وصاح:

- وكيف تقول لحرم يسري بك أنني مشغول بدون أن أخبرك أنا بذلك؟ أتريد أن تفرض عليّ نظاما خاصا في عملي؟ هل تستحل لنفسك أن تتحكم فيّ وفي زبائني بهذا الشكل الوقح؟ ودهش الخادم من هذه الثورة الشاذة التي ثارها سيده بدون سبب معقول، وتراجع إلى الخلف قليلا.. ثم تمتم:

- ولكننا متعودون يا سيدي أن نجيب السائلين بالتليفون هكذا ما دام في العيادة مرضى ينتظرون دورهم ولم يكشف عليهم بعد.. وها أنتم ترون يا دكتور أن غرفة الانتظار محتشدة والحمد لله بالمرضى ولم...

فقاطعه الطبيب الشاب قائلا وهو يخلع معطفه الأبيض الذي يرتديه أثناء العمل: اسكت، سأريك الآن أنني لا يهمني هؤلاء المرضى المنتظرين... من يدري؟ ربما كانت الحالة التي في منزل يسري بك أشد حاجة إلى الاسعاف من كل هذا الجمع! ثم وضع طربوشه على رأسه واتجه إلى باب (الشقة) وهو يقول للخادم:

قل للمنتظرين أن الدكتور يأسف لاضطراره إلى النزول بسبب حالة هامة استدعي لها في الخارج.. اعتذر إليهم بأي شكل كان واطلب منهم الحضور باكر صباحا إذا رغبوا ثم أسرع بالخروج.. ووقف الخادم على رأس السلم يشيعه ببصره وهو غارق في دهشة عجيبة، وهز رأسه في شيء من الحسرة وتمتم بضع كلمات تدل على تشككه في هذا التطور الذي طرأ على أخلاق سيده في الأيام الأخيرة ولم يدر له سببا.. ودخل إلى غرفة الانتظار يخترع لهم الأعذار...

***

بعد دقائق كان الدكتور زاهر حلمي في منزل عبد القادر بك يسري، وهو منزل فخم تحوطه حديقة كبيرة تعزله عن باقي المنازل المحيطة به، قائم في الطريق المؤدي من شارع الملكة نازلي إلى الزيتون وما كاد الدكتور حلمي ينزل من سيارته الصغيرة ويخطو بضع خطوات في الممر المغطى بالرمل الأحمر بين دوائر الخضرة المنتشرة في الحديقة الكبيرة حتى شاهد نافذة تفتح في الدور الأول من المنزل الكبير ولمح من بين ثنايا النافذة وجه عقيلة هانم زوجة يسري بك وخفق قلب الطبيب الشاب.. ثم صعد السلم بسرعة ولما رفع رأسه إلى أعلاه رأى عقيلة هانم واقفة منتصبة القامة في مهابة رائعة، وقد ارتدت معطفا منزليا  (روب ده شامبر) من الحرير الأزرق وتناثر شعرها الذهبي في إهمال جميل وفوضى مغرية فاتنة على رأسها الصغير.

وخطت الزوجة الجميلة إلى الطبيب تستقبله وعلى فمها ابتسامة رقيقة ومدت يدها إليه تحييه في شيء من الحرارة المضغوطة ثم قالت:

- كنت على وشك أن أستدعي طبيبا آخر الآن عندما أجابني خادمك أنك لا يمكن أن تحضر إلا بعد ساعة. فأجابها وهو يغالب اضطرابه من نظراتها التي كانت توجهها إليه بين آونة وأخرى:

-أنت تعرفين يا عقيلة هانم أنني لا أرفض لك طلبا قط..

فقاطعته وهي تقوده إلى داخل المنزل:

- من قال لك أنني أعرف يا دكتور؟ ثم نظرت إليه نظرة فاحصة عميقة، فلما رأته مرتبكا لا يكاد يستطيع الإجابة ضحكت ضحكة قصيرة ساخرة وقالت له وهي تتكلف هيئة جدية حزينة

- أظنك لا تعلم لم استدعيناك الليلة

- لا.. ما الذي حدث؟

- إن (البك) مريض ومتعب جدا، حتى أنه لم يستطع النوم منذ ليلتين كاملتين فلما رأيت أن كل التدابير الأولية التي اتخذناها لم تنفع أسرعت باستدعائك.. أنت!

وقادته الزوجة إلى غرفة المريض.. وهي غرفة واسعة تطل على حديقة الدار من الجهة البحرية ومؤثثة بأثاث ثمين قيم يدل على ثراء رب البيت، ولو أن نظام الأثاث وترتيبه وشكل الغرفة العام، كل ذلك كان ينبئ في الوقت نفسه بافتقار صاحب الغرفة إلى الذوق الحديث.

وتقدم الطبيب إلى فراش المريض فوجده في ألم شديد.. وكان يسري بك رجلا في الخمسين من عمره، ضعيف البنية نحيفا أصفر الوجه، غائر العينين، عظامه تبدو في أي جزء ظاهر من جسمه، وصوته مبحوح يتخلله على الدوام سعال حاد يتهدج له صدره ويختنق تنفسه ولم تكن الخمسون عاما التي سلخها يسري في هذه الحياة وحدها سببا في صحته المحطمة ومرضه المستمر الذي لا يكاد ينجو منه حتى يعود إليه، بل أنه قضى السنين الأولى من حياته في استهتار وافراط متهتك، ولولا ضخامة الثروة التي ورثها عن أبيه والمرض الذي عاجله والعجز الذي أصابه من ذلك الإفراط وإسراع أهله بتزويجه من عقيلة هانم - لساءت حالته ولبدد تلك الثروة عن آخرها، ولكنه استطاع بهذا الزواج أن ينقذ نفسه من التدهور كما فاز عن طريقه بوارث له هو الطفل الصغير الذي رزقه من عقيلة، كان زواجا موفقا من كل وجه بالنسبة ليسري بك.. أما بالنسبة لعقيلة هانم.. الزوجة الشابة فلم تفز إلا بزوج غني.. ترددت كثيرا في قبوله ولكن المشجع الوحيد الذي دفعها إلى ذلك القبول هو ما همس به أهلها وعارفوها من أن الزوج غني ومريض.. وأن الثروة التي تنتظرها عقيلة ضخمة تكفي لإسعاد شابة في سنها مدى العمر الباقي لها.. بعده.. وقام الزواج على هذا الأساس.. أو هذا الأمل؟!

تقدم الدكتور زاهر حلمي إذن إلى فراش يسري بك وهو يتأوه في ألم شديد، وكانت عقيلة هانم هي التي تساعده في الكشف عن جسم المريض وقد ظهر عليها هي الأخرى شيء من القلق والأسى، فسألها عن مقدار الحمى عند زوجها فأجابته عنها، واستمر يعني كل العناية بالكشف عن  كل جزء في جسم يسري بك وأخيرا رفع رأسه وهو يتصبب عرقا وقال وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة مطمئنة:

- المسألة بسيطة جدا لا تستدعي كل هذا الخوف والقلق.

فرفع يسري بك وجهه الشاحب وتمتم بصوت متحشرج:

- ماذا وجدت يا دكتور؟ فأفهمه الطبيب أن الحالة التي لديه تنحصر في التهاب رئوي عادي، ثم كتب تذكرة العلاج وهم بالانصراف بعد أن كرر عبارات الطمانينة للزوج المريض ولكن ما كاد يخرج الدكتور زاهر إلى الردهة المؤدية إلى الباب حتى تبعته عقيلة هانم وقد ضمت أطراف معطفها الحريري بيدها لتستر صدرها وذراعيها، ووقف الطبيب الشاب في ركن مظلم من الردهة المستطيلة الواسعة وسألته الزوجة وهي تطيل النظر إلى عينيه:

- ماذا وجدت يا دكتور؟

فأجابها مبتسما وفي صوت الواثق المطمئن:

- لا شيء، ليس هناك خطر مطلقا

فاقتربت منه وصعدت نفسا طويلا حارا ثم قالت في صوت خافت وهي تهز كتفيها وتلوي شفتها:

_ خطر؟ وهل أخاف أنا من الخطر الذي يهدده!!

فقطب الطبيب جبينه وكأنه بدأ يفهم ما ترمي إليه ثم قال:

- ماذا تقصدين يا عقيلة؟

فقالت له وهي تتكلف الغضب الفاتن:

- لم لا تقول لي (يا عقيلة هانم)؟ ليس هناك شيء بيننا يبيح لك هذا التدلل في مخاطبتي؟ ليس هناك شيء بيننا!

وشعر زاهر بقلبه يخفق خفقانا شديدا ومد يده يريد أن يلمس ذراعيها ولكنها أفلتت منه

- لا، أنك لا تحبني كما كنت أتوهم في عينيك..

فقال لها وهو يقبض على يدها بقوة ويغمرها بقبلاته:

- من قال لك ذلك ؟

حملقت إليه بعينيها الزائغتين وأجابته في عنف:

- أنت!

- أنا؟

- نعم أنت! لقد جئت الآن تطمئنني على حياته وابتعاد الخطر، كأن هذه الحياة ليست شقاء لي! إنني لا يمكنني أن أبادلك الحب إلا اذا فهمتني.. يجب أن تفهمني أولا، وتفهم ما أريد قبل أن تثقل عليّ بتلك الخطابات التي أرسلتها وذلك الحب القوي الذي طالما تعمدت أن تظهره لي.

وأطرق الطبيب الشاب إلى الأرض وقد اضطرمت الأفكار في رأسه وتنازعته ميول وغرائز مختلفة متباينة، وودعته الزوجة إلى السلم حتى بدأ النزول في تثاقل حزين وقد حنى رأسه فسألته بصوت عال كأن لم يكن شيء:

- هل ستعود يا دكتور؟

- نعم.. باكر!

- والدواء الذي كتبته، هل نحضره؟

ففكر قليلا ثم أجابها في صوت خافت وجل مضطرب:

- لا.. ربما غيرنا العلاج باكر!

ولما خرج الدكتور زاهر وركب سيارته الصغيرة رأى عقيلة هانم واقفة في النافذة وقد فتحتها وعلى مصراعيها وهي تبسم له وتودعه بيدها

***

وعاد زاهر إلى منزله يفكر في هذا الموقف العجيب المفجع الذي دفعته إليه الظروف تدريجا وهو لا يشعر، لقد كان يحب عقيلة حبا قويا.. هذا أمر لم يكن يشك فيه قط منذ اللحظة الأولى التي وقع بصره عليها فيها، وقد تسلط عليه هذا الحب تسلطا تاما كاد يغير نظام عمله وحياته اليومية، فهو لا يكاد يعرف أنها في جهة حتى يترك أهم الأعمال لديه ليتبعها حيث هي.. وقد يدور بسيارته على أبواب دور السينما والملاهي عله يهتدي إلى سيارتها واقفة أمام إحداها فيدخلها فرحا متهللا يقنع بابتسامة بعيدة ونظرة مشجعة ترسلها له وهي في مقصورتها! وطالما طلب إليها أن تستدعيه في كل حالة يمكن أن يستشار فيها طبيب، حتى ولو كان المريض خادما أو محسوبا أو فقيرا ممن يزورون منزل يسري بك، حتى يفوز عن طريق ذلك بلمس يدها والتحدث إليها..

وتذكر فجأة كيف أن فكرة الزواج بها لم تكن تخطر له على بال نظرا لوجود زوجها يسري بك حيا يرزق.. وكيف أنها لم تكن تستقبله بملابس منزلية فاستقبلته في المرة الأخيرة بذلك المعطف الحريري.. وأخذت الصور تتجمع في مخيلته عن تلك الرغبة التي أبدتها عقيلة بتحفظ.. الرغبة الهائلة في التخلص من زوجها.. وشعر في قرارة نفسه بأنه يقرها على ذلك أو على الأقل يجب عليه أن يقرها ويعينها على تحقيقها مادام هو وحده.. الذي سيفوز بها بعد ذلك؟!.. ولكنه أحس فجأة بضميره يتحرك.. أو بناحية معينة من ضميره كطبيب.. تذكر أن يسري بك الذي تطلب إليه عقيلة أن يريحها منه ويزيحه من طريقهما - مريض قد اطمأن إليه ليعالجه ويشفيه.. ونذالة ولا شك أن يخون واجبه وشرفه ويسف بمهنته النبيلة إلى هذا الدرك المجرم المنحط.. في الطب والعقاقير ألف وسيلة يمكن الالتجاء إليها للقضاء على المريض، ولكنه يأبى ويربأ بنفسه أن يعمد إلى واحدة منها.. هو يحب عقيلة ويريد أن يطيعها ويفوز بها، فلم لا يكون مجرما عاديا يعمد إلى الوسائل العادية التي يستخدمها القتلة الأشرار في ضحاياهم البريئة.. ليقتل يسري بك كما يقتل الناس كل يوم!! وكان قد انقضى وقت طويل.. طويل جدا على الدكتور زاهر وهو على تلك الحالة من التفكير الهائل المضطرب والثورة النفسية الهائجة، والتردد المرعب، ولم يشعر إلا وأنفاسه تختنق، وحركاته تخفت، ورائحة كريهة تغشى الغرفة.

وتذكر أنه كثيرا ما طلب إلى خادمه موسى أن يعني بإقفال مفتاح (الغاز) حتى لا يتسرب من أنبوبته إلى هواء الغرفة فيقده، ذلك لأن زاهر كان يسكن شقة في إحدى عمارات شارع عماد الدين حل فيها محل أسرة فرنسية كانت تستخدم الغاز في كل شأن من شؤونها.

وصاح وهو يفتح النوافذ لتجديد التجديد الهواء مناديا الخادم الذي حضر على عجل فكال له وابلا من الشتائم لاهماله في ترك مفتاح (الغاز) مفتوحا فلما أجابه بأن الأنبوبة التي في الحمام المجاور لغرفة النوم هي وحدها المفتوحة سهوا لم يقتنع بذلك وطرده من خدمته، ونظر إلى الساعة فوجدها قد تجاوزت الرابعة صباحا وحاول النوم فلم يستطع حتى الصباح.

ذهب الدكتور زاهر حلمي بتلك الأعصاب الثائرة إلى منزل يسري بك، فأدخلته عقيلة هانم إلى غرفتها الخاصة بحجة عدم الرغبة في إزعاج المريض من نومه الذي لم يستطع التغلب عليه إلا في ساعة مبكرة من الصباح وأرادت عقيلة هانم أن تحمل الدكتور زاهر على الكلام فلم تفز.. لم يرد أن يتكلم فقد عقد الإجهاد والاضطراب لسانه، ولكنها فهمت مع ذلك من بريق عينيه ومن ملامح وجهه أنه فهم غرضها وأنه اعتزم أمرا خطيرا في سبيل إرضائها.. وأخذ يعد (حقنة) على لهب (السبيرتو) في هدوء وصمت، ثم طلب منها أخيرا أن تقوده إلى غرفة المريض، فسألته:

- ما هذه (الحقنة) يازاهر؟

فأجابها وهو يشيح بوجهه عنها: لا شيء، أنها تحتوي على دواء مخدر.. أن زوجك ضعيف ومصاب بفقر شديد في الدم.. ولكننا مع ذلك نريد أن نضمن النتيجة.. لا أستطيع ان أراه يقاوم.. أية مقاومة، وفتح الباب ثم اتجه إلى غرفة المريض وتبعته وهي لا تكاد تفهم ما قاله وما سوف يفعله وأيقظ يسري بك من نومه وسأله بضعة أسئلة موجزة عن حالته ثم كشف عن ساقه وحقنه فيها بعد أن أفهمه أن ذلك جزء من العلاج.

بعد دقائق قليلة استغرق الزوج المريض في سبات عميق، فطلب زاهر من عقيلة أن تغلق الباب.. وعمد إلى إحدى الوسائد الكبيرة فرفعها من مكانها ووضعها على وجه يسري بك.. ثم ضغط بقوة على أنفه وفمه.. وسمع صوت تنفس متحشرج خافت يخرج من تحت الوسادة الكبيرة، وتحركت قدما يسري وارتفعت ذراعاه تمسكان بالوسادة ولكن سرعان ما تراختا ثانية، وساد في الغرفة الواسعة سكون رهيب ورفع زاهر الوسادة عن وجه القتيل! وطلب إلى الزوجة التي كانت لا تزال واقفة عند الباب ألا تسمح لأحد بالدخول حتى المساء

***

وفي المساء أعلنت وفاة عبد القادر بك يسري، وكان أول صوت ارتفع بالنواح عليه هو صوت عقيلة هانم زوجته.. واستدعى الطبيب (المعالج) الدكتور زاهر حلمي للكشف عليه فقرر أن الوفاة طبيعية.. وأعطى التصريح بالدفن، وجلس زاهر في السرادق الذي أقيم بجانب المنزل.. جلس صامتا ساكتا لا يتحرك ولا يتكلم وكان يريد المكوث مدة طويلة ولكنه لم يستطع.. إذ شعر غير مرة برغبة أكيدة ملحة في أن يقف ويعلن لأقارب يسرى بك وللمعزيين الحقيقة كلها.

شعر بهذه الرغبة تنمو وتنضج في صدره، ولاحظ أن نظرات ابن عم المتوفي تكاد تنبئ بأنه يعلم تلك الحقيقة فأكد ذلك رغبته وقواها.. لم ينتظر حتى يعلم أسرة القتيل سر الجناية؟.. لم لا يكون صادقا ولو مرة في حياته فيعترف بذلك هو قبل أن يرغم على الاعتراف.. وكان ابن عم يسري بك رجلا متقدما في السن مصابا بروماتزم مزمن فأمر أحد الخدم باحضار وسادة ليضعها تحت قدميه، وما كاد زاهر يرى تلك الوسادة حتى هب واقفا وكاد يصيح ولكن الكلمات.. وقفت في حلقه.. وأحس بأن صدره في حاجة إلى هواء آخر.. خرج.. وذهب إلى منزله ودخل إلى غرفة نومه، وقد حاول أن يخلع ثيابه فوجد نفسه مضني مجهودا لا يكاد يقوى على الوقوف فاستلقى بتلك الثياب على الفراش وستر جسمه بالأغطية.. فكر أولا في النوم ليريح نفسه من ذلك التعب الذي كان مستوليا على عقله.. ولكنه شعر بنشاط شاذ وحساسية مدهشة في رأسه ورأى أنه متنبه تنبها خارقا، وأن رأسه يكاد ينفجر!

وعمد إلى الوسائد فلفها حول رأسه وأغمض عينيه وتذكر ماضيه والمستقبل الذي ينتظره، وابتعد بذلك قليلا عن الجو الذي كان يعيش فيه مدى اليومين الماضيين.. فاسترخت أعصابه.. وشعر بانحطاط غريب في قواه.. وبحمى خفيفة في جسمه.. وتذكر أنه قد انقضى عليه يوم كامل لم يتناول فيه طعاما و... وزادت الحمى وكان أشد شعورا بها في رأسه.. حمة كتلك التي كان يشكو منها المرحوم يسري بك...

وهكذا عاد - برغمه - إلى التفكير في يسري بك وقد ظن أنه استطاع التخلص من تلك الذكرى الهائلة، بل أحس بتنفسه يضعف شيئا فشيئا، وأراد أن يقوم ليفتح النوافذ فلم يقو.. وزاد ضيق تنفسه.. وانتشرت في الغرفة الضيقة تلك الرائحة الكريهة.. رائحة (الغاز).. وشعر بحركة في الخارج.. في الحمام المجاور له حيث يوجد مفتاح أنابيب (الغاز).. وساءل نفسه عمن يمكن أن يكون هناك وهو وحده في المنزل.. وأخيرا اهتدى إلى أن يكون خادمه موسى الذي طرده أمس.. لا بد أن يكون قد دخل إلى المنزل واختبأ حتى عاد ودخل الى فراشه ثم فتح أنابيب (الغاز) ليقتله.. أليس القتل وسيلة للتخلص من شخص يكرهه القاتل؟ ألم يطرد هو الخادم لسبب تافه وقطع بذلك مورد رزقه في لحظة واحدة؟ أليس كتم التنفس والاختناق وسيلة سهلة من وسائل القتل؟ أليس (الغاز) كافيا لتحقيق ذلك الغرض؟ و تزايدت رائحة (الغاز) في الغرفة ورأى زاهر من الوجب أن يقوم بسرعة لفتح النوافذ وإغلاق المفتاح ولكنه لم يستطع بعد مجهود كبير إلا أن يرفع الوسائد عن رأسه، فلما أراد النزول من الفراش لم يقو على ذلك.. وجال بعينيه الزائغتين في جو الغرفة فوجد النوافذ محكمة الغلق والغاز يتكاثف باطراد فاستجمع قواه وقام بجذعه الأعلى، ثم صاح: "یا موسی! موسی!" ولكن أحدا لم يجبه وأطل إلى الأرض فشعر بدوار شديد في رأسه ورغبة في القيء، ثم استلقى على ظهره مرة أخرى وهو منهوك القوى ضيق الصدر واشتدت وطأة الاختناق عليه وأخذ يحاول إدخال الهواء إلى صدره بيديه فإذا يئس من ذلك أخذ يجمع الوسائد ويحشو بها فمه لكي يمنع عنها (الغاز) الذي يلاحقه في قوة ووحشية ولا ينصت إلى تأوهاته الخافتة.

***

في صباح اليوم التالي حضر بعض زملاء الدكتور زاهر لزيارته في الشقة التي يسكنها فوجدوا بابها مفتوحا ورأوه يدور في الغرف كأنه يبحث عن شيء ضائع وقد ظهرت عليه علامات الجنون.. فلم يمكنه الاستعراف على واحد منهم، ولم يتكلم قط بل ظل يبحث عن ذلك الشيء وقد وجد أولئك الزملاء قطة محبوسة في الحمام المجاور لغرفة النوم ولم يجدوا أثراً لرائحة (غاز) بل كان كل ما في المنزل على طبيعته وبعد شهر من ذلك كان الدكتور زاهر حلمي في إحدى غرف مستشفى المجاذيب بالعباسية.. وكانت حالة الجنون التي لديه تنحصر في أنه لا يزال يبحث عن قبر (صديق) له مات مختنقا بالغاز أثناء نومه في فراشه!!!