يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.
في عددها الصادر 1 أبريل 1941، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة بعنوان "هتاف الفناء" للكاتب الكبير محمود تيمور، تدور القصة حول رجل مريض يذهب إلى الريف للعلاج، لكن حالته النفسية تتدهور وسط أجواء كئيبة ومخيفة، يصبح هذا الرجل مهووسًا ببومة ويطلب تحنيطها بعد قتلها، كما يجري تجربة قاسية على كلب مريض باستخدام سائل سام، ويسعة لاستكشاف عالمًا جديدًا بعد الموت.
نص القصة
لا أدري لماذا عملت بنصيحة هؤلاء الأطباء الأغبياء، وجئت إلى هنا في الريف، كنت أحسن حالًا حينما كنت في مصر، لقد أكدوا لي أن بضعة أيام أقضيها في الضيعة كافية لأن تعيد إليّ صحتي فالذي أشكو منه ليس إلا ضعفًا عصبيًا نتيجة للحمى الشديدة التي انتابتني وکادت تقضي عليّ، فالراحة والرياضة البسيطة في الشمس والهواء الطلق والغذاء الصحي هو علاجي الوحيد، هذيان! هذيان! من أين لي بالراحة وهذه البومة تنعق بجوار نافذتي؟ لم أسمع للبومة قبل اليوم صوتًا في هذه البشاعة، إني أرتجف عند سماعي لها وهي تلح في نعيقها كأنها تعلن للناس خبر كارثة على وشك الوقوع، عملت المستحيل لأنحيها بعيدا عن مسمعي فلم أفلح، أنها رابضة فوق رأسي ربوض الفناء فوق رأس المحتضر! والهواء الطلق، أين هو؟.
لقد مررت - وأنا آت بالعربة من المحطة إلى الدار - على مستنقعات ملأى بالجيف المنتفخة تتصاعد منها أبخرة حارة كريهة.. لن أنسى مطلقا منظر إحداها كانت جثة طافية على سطح الماء، أتكون حقا جثة الحيوان؟ إنها شديدة الشبه بامرأة حبلى منتفخة السيقان، امرأة بلا رأس، أشعر بضيق تنفسي، يخيل لي أن حول الدار جيفا شبيهة بتلك متراصة بعضها فوق بعض تحيط به وتحاصره، ما أقبح رائحتها! نبضي مائة في الدقيقة.. سأحاول تهدئة نفسي.. ولكن النبض يتزايد، وأخشى أن يقف قلبي دفعة واحدة، لقد حدثوني حينما كنت صغيرًا أن أبي مات فجأة وهو يصلي كنت إذ ذاك في الرابعة من عمري ولا أذكره إلا في ساعته الأخيرة، رأيته محمولا، وكان وجهه ممتقعًا وأمي خلفه تبكي وتصرخ، فما أن وقع بصري على هذا المنظر حتى هربت، جريت وأنا أرتعش وارتميت في أحضان مرضعتي وأنا أخفي وجهي في صدرها وأشهق.. البومة ما زالت تنعق في إصرار عجيب! أنها تقطع عليّ سلسلة أفكاري، ألا يوجد في الدار بندقية تقضى على ما بقى لحياة هذه البومة من أيام؟
***
الأيام مجدة في السير، وحالتي تزداد سوءًا، أصبحت أخلاقي لا تطاق وتصرفاتي عجيبة إلى درجة الشذوذ، بهذا سمعتهم يهمسون، لا أنكر أني أكلف زوجتي بعض الأحيان بأمور مرهقة، أقول بعض الأحيان لا على الدوام، ولكن علام التذمر، أنها زوجتى ويجب أن تشاطرني آلامي، أتريد مني أن أقضي الليل وحيدا أتقلب على فراشي وليس بجانبي أحد يسهر على راحتي، أني أكره الظلام ولا أستطيع النوم والمصباح مطفأ، أريدها دائما بجواري فإذا شعرت بالوحدة مددت يدي أتحسسها أنا لست خائفا، أنه لشيء مضحك ومخجل أن أفكر في هذا، مم أخاف؟ لا يوجد شيء في العالم يخيفني، ومع ذلك فأنا أرتعش لم يغمض جفني بعد، المكان هادئ ولكنه هدوء يقلقني، أتوجد أنفاس أخرى تتردد في الغرفة غير أنفاسي وأنفاس زوجتي؟ هذا ما لا أستطيع أن أجزم به، أحس أن هناك أصواتًا كالهمس كفحيح الثعابين، لا يبعد أن يكون في الحجرة ثعابين في هذا الوقت.. أم هناك كائنات غير منظورة تسبح في جو المكان..؟ كائنات لها أجنحة كالخفافيش.. لقد هززت زوجتي هزا عنيفا حتى استيقظت، كم كانت بليدة في نومها، وقضينا وقتا طويلا ونحن نبحث تحت السرير والمقاعد وفي جميع الأركان، لقد قلبنا الأثاث كله رأسا على عقب، ثم ارتأت زوجتي أن تطلق البخور لتطرد الأرواح الشريرة، فضحكت من فعلتها وأنا أعيرها بالجهل..
***
كيف يجوز للشعراء المجانين أن يتغنوا بجمال الريف، أين هذا الجمال؟ إني أبحث عن جزء ضئيل منه منذ قدومي إلى هذا المكان فلا أجد شيئًا.. الخراب يحيط بي من كل جانب، صار لي الآن ما يقرب من الساعة وأنا ممدد في الشرفة، أن ضوء الشمس لا يطاق، أشعر كأن بصري يفقد من قوته، فأضطر إلى اغماض جفني، أسمع منذ لحظة طائرا يصفق بجناحيه ولكني لا أراه.. أثمة طائر محبوس يحاول الخروج فلا يقدر.. تصفيق أجنحته مستمر، أشعر بمحاولاته العقيمة للفرار من محبسه، إنه يثير أعصابي بهذه الحركة الدائبة.
الخادم يؤكد لي أنه ليس ثمة طائر محبوس في المنزل، الكل يؤكدون لي ذلك أيضا، ولكني ما زلت أسمع أجنحته تصفق.. يا الله! أكاد أختنق.. يخيل لي أن الطائر قريب مني جدًا.. أيكون مختبئا في ملابسي، أن جزء جلبابي الذي فوق صدري يتحرك حركة غير عادية.. قلبي.. قلبي.. ينبض 130 في الدقيقة.. وظهرت البومة في هذه اللحظة ووقفت على حاجز الشرفة، أنها لجرأة غريبة منها.. لقد بدأت تصوت وهي ترمقني بنظرها الثابت الحاد، أن نظراتها أشد قسوة من صوتها، أشعر كأنها تخترق شغاف قلبي وتكشف عن أسراري، وهذه الابتسامة الكريهة المرتسمة على منقارها الأعقف.. أنها تسخر مني.. أف.. لم أكره في حياتي شيئا كرهي لهذه البومة، لقد أخذت حجرا كان في متناول يدي وسرعان ما قذفتها به، ولكني أخطأت المرمى فطارت إلى شجرة ليست بعيدة عليّ وعادت إلى تحديقها الساخر ونعيقها المفزع.. لا يمكنني احتمال هذا، سآتي ببندقية ولو كلفني ثمنها أن أنزل عن كل ما معي.. أن نبضي يكاد يكون عاديا لقد هبط من 130 إلى 80!.
***
أتراني قد ظلمت هذه السيدة التي أدعوها زوجتي بإحضارها معي إلى الريف، ليس لها أي متعة في هذا المكان الخرب الموحش، إنها لا تتذمر ولكن وجهها ينطق بالشكاية الصامتة ومع ذلك تراها مستسلمة، وتبالغ في تدليلي وتمريضي، مسكينة هذه المخلوقة، ربما صارت أرملة عن قريب.. أرملة؟ لا أدري لماذا نطقت بهذه الكلمة، وأي وحي أوحاها لي.. ولكن لم تكون مسكينة وهي أرملة؟ أليس في موتي راحة وسعادة لها؟! ما أكبر الإنقلاب الذي اعتراها ما زلت أذكر يوم رأيتها أول مرة، كانت أمام دارها تتحدث وتتماجن مع رفقة من صويحباتها، ولم تكن قد تعدت السادسة عشرة، وكنت قد أتيت في زيارة لأبيها، وتقدمت إلىّ وابتسامة الشباب المملوءة حياة وآمالا تلتمع على وجهها، وذهبت بي حيث كان والدها وتبادلت معها بعض الكلمات - كلمات غاية في السخافة، ولكنها كانت بديعة رائعة عندي جعلت أستعيدها طول اليوم.. وبعد عامين من هذا التاريخ زفت هذه الفتاة إليّ، وها قد مضت عشرة أعوام على زواجي منها، عشرة أعوام عشتها كبقية الناس أو بالأحرى كيفية هذه الدواب الآدمية التي تسير في القطيع مطأطئة الرأس ذليلة، والآن أتلفت حولي فأجد زهرة الأمس اليانعة المشرقة أصبحت عودًا جافًا مشققا يتهشم على مهل، يا للاصفرار الذي يعلو الآن وجنتيها! ويا لهذه الابتسامة الفظيعة التي تلفظها شفتاها! أنها ابتسامة كريهة لا أستطيع النظر إليها، أتكفي عشرة أعوام لتحويل هذه الصبية النضرة إلى عجوز ينتظرها القبر بفارغ الصبر؟ أأكون أنا المسئول عن كل هذا؟ يا إلهى أنى لأشعر بعطف عظيم نحوها، إني أحييها في تمجيد وتعظيم كبطلة من أبطال الإنسانية... ولكن لم كل هذا؟ وأنا.. ألست أستحق من نفسي قبل كل شيء هذا العطف وهذا التمجيد؟ أنا الذي احتملت هذه الحياة السخيفة المضنية في هذه الدنيا الموبوءة المجدبة.
***
أنها ليلة كريهة، لا أستطيع أن أغمض فيها عيني لحظة، لقد أمضيت قبلها ثلاث ليال متواليات وأنا قلق، أتقلب على فراشي والنوم بعيد عني، وفي مصر، قضيت أيضا ليالى بأسرها وعيناي مفتوحتان أدور بهما في الظلام أطلب الهدوء لروحي والراحة الجسمي، ولكن هيهات! أما هذه الليلة فيخيل لي أنها أشد ليالي هولاء نور المصباح ضعيف وزجاجه کدر، لابد من استبدال آخر به، أكبر وأنظف.. بدأت البومة تنعق، ولكن الخفير نفذ إرادتي فعاجلها بطلقة أردتها قتيلة، أشعر بشيء من الراحة.. لقد مرت ساعتان على قتلها فازداد الليل صمتا وكآبة!.. أشعر بحنين غريب لسماع صوتها! وكلما فكرت فيها وهي الآن ملقاة تحت نافذتي وعيناها مفتوحتان أحس ببرودة في بدني، متى يلقونها بعيدًا عن المنزل، لقثد اضطررت إلى أن أضيف لحافا آخر فوق غطائي، أأكون محموما أم بدأ طقس الليل يبرد.
قضيت اليوم كله وأنا منتظر ما فعله الخادم بالبومة.. ها قد حضر، لقد صدع بما طلبته منه، أحضرها لي محنطة وقد وقفها على حاجز الشرفة وثبتها عليه، لم يفقدها الموت شيئاء يخيل لي أنها على وشك الصياح.. سأعمل لها صندوقا من الزجاج وسأحتفظ بها دائما عندي، لقد أمرت الخادم أن يأخذها ويعني بلفها في خرق نظيفة ويضعها في مكان مأمون، لا أريد أن تأكلها القطط أو تشوهها الفيران.
الليل بدأ يسحب رداءه الثقيل على القرية، أسمع أصوات بعض الفلاحين وهم يتشاحنون، ثم أذان المغرب، ثم كان صمت.. صمت.. صمت.. أكاد أجن من هذا السكون، ألا توجد ضفادع أو صراصير تبعث في هذا الجو الميت شيئا من الحركة؟ فظيع أن يقضي الإنسان الحي أيامه في غياهب هذا المكان كما تقضي الجثة الهامدة أيامها في غياهب القبر.
لقد طلبت البومة فأحضروها لي، ووضعوها في ركن من أركان الغرفة، أنها مستقرة بهدوء في خرقها كطفل نائم مستقر في لقائفه يحلم أحلامه الذهبية.. زوجتي تقول أن رائحتها لا تطاق، ولكني على العكس أستطيب هذه الرائحة، أشعر بهدوء غريب يشملني ورغبة ملحة في النوم.
أستطيع أن أقرر أنني أهدأ حالا من قبل، قضيت الساعات الطوال صامتا أفكر، أي شيء؟ في مصائر الناس وأحوال هذا الوجود العجيب أهناك فرق كبير بين أعظم رجل في العالم وبين هذه البومة المكفنة في لفائفها.. منذ أيام أردت أن أصلي، وما أن بدأت قراءة الفاتحة حتى مرت بخاطري صورة أبي وهو مطروح بلا حراك على سجادة الصلاة، فلم أستطع إتمام صلاتي، واليوم صليت صلاة طويلة والطمأنينة تغمر نفسي وأشعر بأني قد اتصلت بالله وقد استغفرته كثيرًا من خطاياي.
***
اليوم وأنا أقلب أشيائي عثرت على الزجاجة الصفراء الصغيرة، كيف؟! من وضعها في الحقيبة قبل سفري إلى هنا، أنها ملفوفة في عناية غريبة.. لا يستطيع أحد أن يلف القوارير هذا اللف المحكم غيري.. أنني أطيل فيها النظر.. هرعت إلى زوجتي، أريد أن أسألها عمن وضع هذه الزجاجة في حقيبتي، ولكنني ما كدت أفتح فمي حتى أطبقته ثانيا وعدت أدراجي إلى حجرتي وأنا صامت أفكر، أحكمت أقفال الباب، ووضعت الزجاجة على المائدة بالقرب من البومة المحنطة، واعتمدت برأسي على يدي وأطلقت العنان لأفکاري..
لقد أكلت الظهر بشهية أدهشت زوجتي، وكنت فرحا أحدثها بمختلف الأحاديث وأماجنها بفكاهات ونودار، يحق لها أن تعجب من كل هذا، أنها تستبشر وتقول: إن صحتي تتقدم في إطراد وقبل المغرب بقليل حمل إليّ الخادم "الكلب"، الذي أوصيته بإحضاره، كلب قد أنهكته الشيخوخة وطحنه المرض، جسمه متآكل كأنه مصاب بجرب ولا شعر يغطي جلده المشقق.
أف لهذه الجيفة المتحركة! أنه مطروح أمامي يتنفس في جهد ولكنه يرفع رأسه ويشم الهواء ويحاول أن يبصبص بذنبه، وعيناه الكدرتان النصف المقفلتين تستجديان شيئا، ما هو؟ أيكون طعاما يشبع معدته الخاوية؟ أم دواء يخفف من آلامه المبرحة، إذًا قدر لهذا الحيوان أن ينطق فماذا يجيب لو سألته عن الموت، وهل يفضله على حياته هذه؟! كنت أريد أن أوثق أقدامه، ولكنه من الضعف بحيث لا يستطيع المقاومة، فضلا عن أنه مطمئن لوجودي ينظر إليّ دائما بهاتين العينين المستجديتين، صبرًا يا صديقي، ولكن لا تتعبني بهذا الاستجداء الممض، إني أكره الشحاذين، لقد فتحت الزجاجة الصفراء فتصاعدت منها رائحة قوية كرائحة السوائل الكاوية، إن صديقي الصيدلي الذي سرقت منه هذا السائل لم يحدثني كثيرا عنه، لا يهم أني أذكر تماما قوله لي إن نقطتين تكفيان لدك أكبر صرح حي في الوجود..
لقد سكبت على لسانه نقطة واحدة، واحدة فقط، فإذا بذلك اللسان الباهت يحتقن ثم تعلوه طبقة كالغمام أو كالأبخرة، كأنه يحترق، لقد أطبق الحيوان فمه أو بالأحرى ساعدته على إطباقه، ثم وضع رأسه على الأرض، تنفسه يبطئ بالتدريج ويضعف ولا شكاية من ألم ولا أنين، أنه يفنى في هدوء غريب، وفي سهولة لم أكن أتوقعها، يخيل لي أنه يبتسم.
***
لماذا لا يبيحون للإنسان أن يتصرف في حياته كما يشتهي، ولماذا لا يساعدونه على ذلك؟ أليس من العدل مثلا أن تقام أندية فخمة تخصص للانتحار، أندية تحوي الغرف الوثيرة الرياش ذات الألوان المختلفة، يقصدها من يرغب في القضاء على نفسه بالوسائل التي يختارها وفي الجو الذي يطلبه، ولم لا تمنح الحكومات الجوائز العالية الضخمة للمكتشفين الذين يقدمون لها الأجهزة والعقاقير التي تعمل على إطلاق الأرواح من محابسها..
اليوم وأنا جالس في الشرفة - وغير بعيدة عني البومة المحنطة - لاحظت أن يدى ترتعش، لم يكن ذلك وهما، أن قدح القهوة كاد يقع مني وكادت القهوة أن تندلق على ثيابي، هذه ظاهرة جديدة لم أحسها من قبل.
بي رغبة ملحة في الصمت وفي التفكير، لقد أمرتهم ألا يقربوني، وأمضيت اليوم كله وأنا كالتمثال أحدق في الأفق البعيد، وأناجي من وقت لآخر بومتي المحنطة، وأستلهم منها وحي أفكاري، ولما بدأ الليل يرخي ستاره قامت بي رغبة مستقرة لأن أزور المستنقعات، هنالك وقفت طويلا أمام الجيف المبعثرة، إن الكلاب تتألب عليها وتفنيها في سرعة غريبة، ولكن لا يصبح الصباح حتى يأتي الجديد منها، هناك حركة مستمرة على ضفاف هذه المستنقعات، حركة نشيطة حقًا.
***
أي دنيا هذه التي نعيش فيها؟! أنها لشديدة الشبه بهذه المستنقعات الملأى بالجيف والكلاب والعجب أني أرى أناسا يتكالبون عليها، يا للمساكين! لقد خلا المنزل من جميع قاطنيه ولم يبق فيه سواي وبومتي المحنطة أنها مثبتة على المائدة تحدق فيّ بعيونها الفارغة، أنها فارغة ولكنها عميقة ملأى بالأسرار.
الجميع ذهبوا لحضور عرس ابنة العمدة، ولقد شجعت زوجتي على الذهاب، لقد أصبحت مطمئنة على المكان ساكن سكونا رائعا، والليل الذي تتوالى هجماته عليّ في عنف لا يسمع فيه غير أصوات بعيدة، بعيدة جدًا عليّ بجوار البومة، أريد أن أحس الظلام يلفني بعباءته السحرية ـ أريد أن أحس روحه تنفذ إلى شغاف قلبي، الظلام! الظلام! إنه القوة الحقيقية المسيطرة على هذا الوجود، ولكن أي شيء يسكن خلف هذا الظلام؟ هناك عوالم مجهولة تتطلب دائمًا روادا ليكتشفوها.
نقطتان فقط، لا أكثر من نقطتين، هكذا أريد أن أتمدد على الفراش بحيث يكون وجهي مقابلا لوجه البومة، إنها آخر شيء أرغب أن يقع عليه نظري.
تلك أول نقطة أضعها على لساني، طعمه ليس كريهًا هذا السائل! كالخمر المعتقة، بل أقوى من الخمر المعتقة، أشعر بجسمي كأن النار قد بدأت تشب فيه، تلك هي النقطة الثانية، إني لأرى الأبخرة التي كانت تتصاعد من لسان الكلب الأجرب تتصاعد من جسمي كله، كأني سابح وسط الغمام، أني أحترق ولكن في هدوء غريب، هدوء لذيذ، ما زلت أرى البومة، أو بالأحرى عينيها الفارغتين فقط، ها قد أصبحت يا صديقتي رائدا من جملة الرواد العظماء، الدنيا الجديدة تنتظر قدومي، الدنيا الجديدة بكنوزها العظيمة.. نبضي يضعف.. الغيوم تتكاثف!...