تعد السياسة المالية من أهم الركائز الرئيسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي في مصر، الذي تتبناه الحكومة، لتحقيق استقرار الاقتصاد الكلي من خلال الضبط المالي بخلاف دورها في تحفيز النشاط الاقتصادي ومعدلات التشغيل وتعزيز كفاءة منظومة الحماية الاجتماعية وإتاحة الخدمات الأساسية للمواطنين.
ومن أهم أهداف السياسة المالية حاليا، خلق مناخ محفز للنمو وزيادة الإنتاج، وتحفيز النشاط الاقتصادي وخاصة في قطاعات الصناعة والزراعة والتصدير، مع التركيز على زيادة الاعتمادات المخصصة للإنفاق على التنمية البشرية خاصة الصحة والتعليم وتعزيز دور القطاع الخاص.
كما تستهدف تلك السياسات توسيع شبكة الحماية الاجتماعية واستهداف الفئات الأولى بالرعاية والطبقة المتوسطة للتخفيف من وطأة أزمة ارتفاع تكلفة المعيشة على تلك الفئات، بالإضافة إلى استمرار جهود التطوير الشامل للخدمات العامة الأساسية كالصحة والتعليم والإسكان والطرق ومياه الشرب والصرف الصحي لتحقيق حياة كريمة للمواطنين والاستفادة من ثمار النمو الاقتصادي لكل الفئات ولكل المناطق بالدولة.
ووفق بيانات وزارة المالية، يعتبر خفض معدلات دين أجهزة الموازنة العامة، الهدف الرئيسي للسياسة المالية، حيث تستهدف الوزارة خفض نسبة دين أجهزة الموازنة العامة والوصول بها إلى معدلات أكثر استدامة تتراوح عند حوالي 80% من الناتج المحلي مع نهاية العام المالي 2026 /2027 مقارنة بنسبة مديونية بلغت 102.8% بنهاية 2015 /2016، ومتوقع أن تصل إلى 89% من الناتج المحلي في يونيو 2024.
وتشير البيانات، إلى أنه لضمان تحقيق ذلك، تستهدف الوزارة فائضا أوليا 3.5% خلال العام المالي 2024 /2025، مقارنة بفائض أولي 0.1% من الناتج المحلي خلال 2017 / 2018، ثم ارتفع إلى نحو 1.8% في 2018 / 2019.
كما نجحت بعد جائحة كورونا في تحقيق فائض أولي بنحو 1.6% خلال 2022 / 2023، ومتوقع أن يصل إلى 5.8% خلال 2023 / 2024، بعد مراعاة أثر تحصيل نحو 12 مليار دولار، التي تمثل 50% من حصيلة صفقة "رأس الحكمة" لصالح الخزانة العامة، والتي تعد موردا استثنائيا غير متكرر.
وتستهدف السياسة المالية تحقيق فائض أولي مستدام يساهم في تخفيض الدين أو يساعد في مجابهة التحديات التي تواجهها المالية العامة في المرحلة الحالية، من خلال توسيع وتنمية قاعدة الإيرادات الضريبية وغير الضريبية، مع استمرار إصلاح هيكل الإنفاق العام لضمان فاعليته، بما يسمح بوجود مساحة مالية تمكن الدولة من زيادة الإنفاق الموجه للتشغيل والإنتاج والتنمية البشرية.
ويعتبر هذا تحديا كبيرا في ظل ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي لتصل إلى مستويات قياسية خلال النصف الثاني من 2023 /2024، وعلى الرغم من ذلك فتستهدف السياسة المالية معدلات نمو للمصروفات العامة، بدون الفوائد، تقل عن معدلات نمو الإيرادات العامة على المدى المتوسط .
وتقوم وزارة المالية باتباع سياسة تنويع مصادر التمويل بين الأدوات والأسواق المحلية والخارجية، ومع عودة ارتفاع أسعار الفائدة المحلية والعالمية، اعتمدت الوزارة على أدوات الدين قصيرة الأجل بشكل أكبر من الأدوات طويلة الأجل من السوق المحلي لتفادي تحمل أسعار الفائدة العالية لفترات طويلة.
وتجنبت الوزارة إصدار سندات دولية خلال 2023 /2024، لحين تحسن أوضاع أسواق المال العالمية وثقة المستثمرين بالأوضاع الاقتصادية بمصر، حيث اكتفت بإصدارين، إصدار سندات "الباندا" لأجل 3 سنوات بقيمة 3.5 مليار يوان (500 مليون دولار) في أكتوبر 2023، ليكون أول إصدار لسندات مصرية في السوق الصيني بعائد 3.5%، وهو أقل بكثير من عائد الإصدارات الدولية الأخرى بسبب وجود ضمانة كاملة لهذا الإصدار من قبل البنك الآسيوي للبنية التحتية والبنك الإفريقي للتنمية، كما أصدرت سندات "ساموراي" بقيمة 75 مليار ين ياباني (500 مليون دولار) لأجل 5 سنوات وبعائد سنوى يبلغ في المتوسط 1.5%، حيث يعتبر هذا الإصدار ثاني إصدار مصري في السوق الياباني خلال عامين.
يشار هنا إلى أن موافقة صندوق النقد الدولي على التسهيل الائتماني الممدد لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري عزز عودة ثقة المستثمرين في قدرة الاقتصاد المصري على تحمل الأزمات العالمية المتتالية، وهو ما يعكس أهمية الإجراءات التصحيحية لمسار الاقتصاد بسياسات مالية ونقدية متكاملة ومتسقة، مما يساعد على تحفيز تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
ووافق مجلس إدارة الصندوق على زيادة حجم التمويل المتاح للبرنامج بنحو ٥ مليارات دولار إضافية ليصل إجمالي التمويل إلى ٨ مليارات دولار، وذلك بعد الانتهاء من المراجعات الأولى والثانية للبرنامج في مارس الماضي، وبموافقة الصندوق على التسهيل الائتماني أعطى لمصر الحق في التقدم لصندوق "الصلابة والاستدامة" للحصول على تمويل طويل الأجل بتكلفة منخفضة جدا لمشروعات المناخ بقيمة 1.2 مليار دولار.
ويستهدف برنامج الإصلاح الاقتصادي تعزيز نمو الاقتصاد الذي يحظى بدعم وتمويلات إضافية من مؤسسات التمويل الأخرى وشركاء التنمية الدوليين، وتعتبر موافقة صندوق النقد على المراجعة الثالثة في إطار برنامج الإصلاح الاقتصادي الإثنين الماضي، شهادة ثقة جديدة في برنامج الحكومة، بما يتضمنه من إصلاحات ومستهدفات مالية واقتصادية وتنموية، وتسلمت مصر الشريحة الثالثة من البرنامج بقيمة ٨٢٠ مليون دولار.
وبدأت الحكومة العام المالي الحالي 2024/ 2025، بمؤشرات طموحة رغم الضغوط الاقتصادية الدولية والظروف الخارجية غير المواتية ، حيث عكست أرقام الموازنة سياسات وأهدافا اقتصادية وتنموية متوازنة ومتكاملة، فمن المتوقع أن يبلغ العجز الكلي للموازنة نحو 1.2 تريليون جنيه بنسبة 7.3% من الناتج المحلي وتحقيق فائض أولي 591.4 مليار جنيه بنسبة 3.5%، وإيرادات عامة بقيمة 2.6 تريليون جنيه بما يمثل 15.4%، ومصروفات عامة بنحو 3.8 تريليون جنيه بما يمثل 22.6% من الناتج المحلي للعام المالي الحالي.
وتعمل الحكومة على تنمية وتنويع مصادر إيرادات الدولة الأخرى تأكيدا على أن السياسة المالية غير قائمة على فرض أعباء جديدة أو إضافية، لكنها قائمة في الأساس على اتخاذ إجراءات لتعزيز العدالة الضريبية من خلال تنفيذ إصلاحات هدفها تحسين الأوضاع المالية والاقتصادية للشركات والهيئات الاقتصادية والتوسع في برامج المشاركة بين القطاع العام والخاص في المجالات الاستثمارية وإدارة أصول الدولة، ولذلك تستهدف وزارة المالية حصيلة إضافية من "الطروحات" بنحو 1% من الناتج المحلي في موازنة 2024 /2025، بما يساهم في خفض حجم الاقتراض الحكومي، ومن ثم خفض نسبة مديونية أجهزة الموازنة العامة والحكومة العامة للناتج المحلي.