الأربعاء 7 اغسطس 2024

قصص دار الهلال النادرة| «كنت أحبها» قصة مصرية لـ إدوار عبده سعد

كنت أحبها

كنوزنا4-8-2024 | 13:30

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر في 1 فبراير 1931، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة للكاتب إدوار عبده سعد، تدور أحداثها حول شخصية شاب صغير يعيش في بيت أخيه الكبير، يقع الشاب في قصة حب لا يستطيع تحقيقها، فيصبح أسيرًا لهذا الحب ويفكر في كيفية النجاة منه.. فما هي قصة الحب هذه صعبة المنال؟ وماذا سيفعل الشاب؟

نص القصة:

يؤلمني أن أثير هذه القصة من جديد، وأن أجيء فأنشر اليوم حوادثها على القراء، بعد أن طوتها الأيام، ونسيها الناس أو كادوا، كما ينسون أبلغ العبر وأعجب الحوادث التي تقع بيننا وأمامنا في كل يوم.

أقول يؤلمني أن أثير ذكرها من جديد، لما بيني وبين أبطالها من صلة، بل لما بيني وبين كبير أفرادها من صداقة وثيقة، لهذا كنت أحب أن تظل ذكرى هذه القصة خامدة راكدة، وإن كانت نفوس أبطالها الباقين بيننا ما زالت مثخنة بالجراح لم تلتئم ولا أظنها ملتئمة مهما انقضى عليها العهد.

ولكن أمرا واحدا يستفزني للعناية بكتابتها وتسجيلها، أمر واحد يحبب إليّ نشرها ويستحثني دواما على إلقائها تحت أنظار الجمهور الذي يجهلها، ذلك أنها جديرة بالعناية خليقة بالكتابة والتسجيل، فأنت إذ تطالع حوادثها وتتبع مواقفها الدقيقة العصيبة العنيفة التي تجري في صمت، وتتوالى في هدوء، تتملكك الحيرة ويأخذك القلق والشك، فأنت تحسبها تارة ضربا من الخيال، خيال الكتاب والأدباء الذي يحلقون في سمائه، فيفتنون في تصيد موضوعات قصصهم من الهواء، وأخرى تراها جائزة الوقوع سهلة الحدوث حتى لتخالها شائعة في كثير من البيوت، ولا تزال نهبة للقلق تتأرجح بين الشك واليقين، بين الحقيقة والخيال، حتى تفاجئك النهاية، النهاية القاسية المؤلمة، فتثور عواطفك المختلفة وتهم أن تتكلم.. فلا تجد ما تقول..! هي قصة جريئة خطيرة، وهي إلى جانب ذلك موضوع حي قيم، له روعته وله أثره العميق في النفس، يجب أن نذكره ويجب أن نمعن في تفهمه ودراسته، فهو يمس ناحية من نواحي حياتنا الخاصة، إن لم تكن حياتنا جميعا، فبعضنا على الأقل.

سترى فيها الفارق بين الحب والوفاء، وكيف ينفصلان عند طرف ويلتقيان فيمتزجان عند الطرف الآخر، سترى في حوادثها صراعا عنيفا بين الحب والوفاء، وتجانسا عجيبا بينهما، سترى فيها حربا شديدة بين العقل والقلب، فيها قوة وفيها مقاومة إلى النهاية، فيها لذة وفيها ألم لا حد له، فيها إنكار للذات وفيها تضحية مطلقة، وأنت تجد في ذلك كله بحثا دقيقا فيه عنف وفيه قوة تعبث بالنفس وتثير العواطف المختلفة فيها.

 

توفي المرحوم "أ. أفندي ك." عن أرملة وولدين منها، كبيرهما "م" في الخامسة والعشرين من عمره والصغير "ن" في العاشرة وكان كل ما تركه الأب من ثروة، معاشا ضئيلا تتقاضاه أرملته وصغيرها من وزارة المالية، هو نصيبهما عن مدة خدمته في الحكومة.

توظف "م" في وزارة الأوقاف أثر وفاة والده، ولم يكن قد أتم دراسة الحقوق، فذهب يكد في الصباح ويدرس في ساعات الفراغ حتى نال إجازة الليسانس بعد سنتين من وفاة والده، فكان هو عميد أسرته يتفانى في حب والدته ويعنى بتعليم أخيه وتهذيبه وإذكاء روح الدرس والطموح في نفسه.

ذهبت الايام تجري هادئة و"م" رب هذه الأسرة الصغيرة يعنى بأمرها، و"ن" دائب على الجد والتحصيل، والأم هانئة سعيدة الحورة بابنيها، تعتز بهما وتزهو برجولتهما وبرهما بها، ألحت على ابنها الكبير بالزواج، وذهبت تقدم له النصح والإرشاد، وتغالي في وجوب زواجه، شأن الأمهات، وهو يرجى حينا ويتهرب آخر معتزما عدم الزواج حتى يتم أخوه دراسته، فيتسع مرتبه للزواج وهكذا ظل أفراد الأسرة هانئين هادئين كما هم، يتقدمون بتقدم الأيام حتى توفيت الوالدة بعد عشر سنوات من وفاة زوجها، أصبحت الأسرة مكونة من الأخوين "م" الكبير "ن" الصغير فقط.

أما "ن"، فقد أصبح شابا جميلا ذكيا نابها في العشرين من عمره، وقد التحق بمدرسة الطب فاجتاز السنوات الأولى بنجاح باهر، وهو الآن في السنة الرابعة يعمل ويجد في عزم وثبات كبيرين، وبلغ "م" مركزا حسنا في وزارة الأوقاف، فذهب يبالغ في الحرص على راحة أخيه، ينفق عليه ويقوم بكل ما يتطلبه من صرف وبذل، فهو يريد أن يرى اليوم الذي يفخر فيه بأخيه الدكتور، فيشعر بأنه قام نحوه بواجبه مزدوجا: واجب الأخوة، وواجب الأبوة. وذهبت الأيام تمر متثاقلة متلكئة..!

 

بدأ "م"  يشعر بالملل والسأم، بدأ يشعر بإقفار البيت ووحشته المفزعة، يعود بعد ساعات عمله الطويلة فلا يجد من يستقبله، ولا من يعنى بأمره ويحدثه، فيتناول طعام الغداء بمفرده، حيثما اتفق، فاذا استراح قليلا، خرج ملولا إلى المقاهي يتسكع ويتنقل بينها، فإذا عاد بعد غياب ساعات تشاءمت نفسه من سكون البيت العميق وظلمته الدامسة، يدخل غرفة أخيه فيجده مكبا على عمله ودراسته، فيحادثه ويخشى أن يطيل معه الحديث أو المكوث خوف أن يضيع عليه وقته، ولا يلبث أن ينصرف إلى غرفته، يطالع بعض الجرائد أو المجلات، فاذا أضناه السأم طرح بها في الهواء وقام إلى فراشه يعجل في انقضاء ليلته.. وانتهى به الأمر أخيرا إلى التفكير في الزواج.. يريد أن يتزوج، ولا سبيل إلى إنقاذ نفسه من هذه الوحشة المسلمة إلا بالزواج، ولكن هل إذا تزوج يستطيع القيام بواجبه نحو أخيه حتى يتم دراسته..؟ فكر.. وأخذ يعالج الموضوع من نواحيه المختلفة، فإذ وثق من إمكان ذلك، ذهب يخطو الخطوات التمهيدية.

ولم تنقض أسابيع حتى كان ضياء "ز" يشع في جوانب البيت فيملأه حياة وبهجة وجمالا كانت "ز" في التاسعة عشرة من عمرها، فتاة جميلة فاتنة مرحة، نالت قسطا حسنا من التعليم، وهي من أسرة تعادل أسرة الزوج، عرفتها الأم قبل وفاتها وطالما حثت ابنها على الزواج منها ولم يكن وقتئذ يأبه للزواج أو يفكر فيه، قلما دعا الداعي إليه.. ذهب دون أن يتعرف الفتاة أو يلتمس مقابلتها فطلبها من والدها، فكان وفاق وكان قبول وتم الزواج.

***

لم تتعرف هذه الأسرة الصغيرة معنى الحياة العائلية الهنيئة المرحة قبل شروق شمس "ز" في هذا البيت، فقد بعثت فيه الروح، أذكت فيه الحياة الطروبة بابتسامتها وحديثها ودعاباتها الرقيقة، فكانت كنزا لا يقدر ونعمة لا تحد، تدعي الهدوء والرصانة أمام زوجها، إذ يغلبها الحياء والخجل، فإذا ولى ظهره وترك البيت أسرعت بعد وداعه إلى الفونوغراف تديره وتجري كالفراشة الجميلة، إلى غرفة "ن"، فتطربه بأغاريدها وتعمد إلى معاكسته، فتخطف من أمامه "جمجمة"، أو تنتزع من يده "ذراعا"، يدرس تشريحها وأعضاءها، وتعدو جارية إلى الخارج فيسرع وراءها، وتظل تحاوره حول المائدة وبين المقاعد، حتى إذا ظفر بها في النهاية، انتزع منها في دعابة رقيقة ما اغتصبت.

 

يتركها ويعود إلى غرفته فتلاحقه،  ولا تزال تلح عليه في أن يعقد "هدنة" مع كتبه و"عظامه" حتى يغلب على أمره راضيا سعيدا، فيجلس إليها يحدثها ويداعبها تارة، وأخرى يستمعان للفونوغراف طروبين هانئين، فإذا شاءا التغيير والانتقال أسرعا إلى غرفة المسافرين، حيث تجلس إلى البيانو فتسمعه بعض مقطوعاتها الشجية ممزوجة بصوتها الساحر الرخيم.

ويعود "م" إلى البيت بعد غيبة قصيرة، فيستقبلانه مرحين فرحين في شيء من الرصانة والتعقل مراعاة لسنه ومقامه ومركزه، وهما سعيدان به سعادته بهما، مطمئنان لابتسامته فرحين لحبه واعتزازه بهما، وتخرج الزوجة في شؤونها، فيتحدث الأخوان في شتى الشؤون، وتحس في حديثهما بروح الوفاء والإخلاص العميقين الصادقين، فالكبير يحب الصغير ويعطف عليه عطف الأب الحنون الوفي، والصغير يحب الكبير ويحترمه احترام الابن لأبيه، فإذا مضيا في أحاديثهما المختلفة دقائق، أقبلت عليهما الزوجة باشة باسمة تدعوهما للعشاء، فيقومان يتبعانها، ويجلس الثلاثة حول المائدة يتناولون العشاء ويتسامرون في حب وود وصفاء، فإذا انتهوا، وانتهت هي من عملها، عادت تقودهما إلى "غرفة المسافرين" فتسمعهما شيئا من عزفها على البيانو أو تدير الفونوغراف فتسمعهما شيئا من أغاني المطربات والمطربين، وهما هانئان بهذا التغيير، سعيدان بهذه الحياة الهادئة الممزوجة بروح البر والوفاء.

وهكذا تبدلت الوحشة والسكون، بنوع بهيج من الحياة لم يعرفاه من قبل، فذهبوا جميعا يعيشون سعداء في نعيم وارف الظلال؟

***

كانت "ز" كما أدرك القراء، فتاة مرحة طروبة تملأها الحياة كسائر الفتيات اللواتي في سنها لهذا وجدت في أخ زوجها "ن" صديقا طيبا لطيفا وفيا، تداعبه وتشاكسه في غير كلفة ولا حرج، والويل له منها إذا هو عاد يوما من المدرسة لا يحمل لها في جيبه "باكو الشوكولاتة" التي تحبها.. لن تجعله يجلس إلى مكتبه أو حتى يدخل غرفته، فإذا فتشته عند الباب ولم تجد ضالتها في جيبه انتزعت منه كتبه ولا تزال به تعاكسه وتضايقه في لطف ودعابة حتى يخرج ليشتري ما تريد، فإذا "خانه" جيبه مرة وأعلن لها افلاسه وإمحاله سارعت إلى دولابها "تبرطله" بما يعمر جيبه الخاوي ويكفل لها الكثير من الشوكولاتة.

 تحب مشاهدة السينما أو المسرح كسائر الفتيات، فإذا ألحت على زوجها بالذهاب، وجد في ذلك فرصة ليسري عن أخيه عناء عمله ودراسته، فيحيلها عليه ويمدهما بما يحتاجان، ولا يلبث الأخ الصغير أن يخضع لإرادة أخيه وإلحاح زوجه، فيأخذها ويذهبان وحدهما إلى المسرح أو السينما، بينما يجلس الأخ الكبير لمراجعة بعض أعماله أو يخرج في شأن من شؤونه وهكذا إذا شاءت "ز" الخروج إلى السوق أو المخازن التجارية لا تجد من يصطحبها إليها غير "ن".

يوحد بين طبيعتهما الفتية المرحة اللعوب، تقاربهما في السن، ويزيد رباط صداقتهما وودهما الجو المحيط بهما، فهو يلاطفها ويدللها وهي تداعبه وتعتز به، والشباب عابث مرح طليق..

***

كان "ن" جالسا إلى مكتبه يذاكر دروسه ذات يوم، فسمع لأول مرة في الخارج حوارا يشتد بين أخيه وزوجه، وسمع أخاه يعنفها ويغلظ في القسوة عليها لأمر من الأمور، كما يحدث دائما بين الأزواج ولأتفه الأسباب.. فأحس "ن" احساسا غريبا، ثار شعوره، وأحس بأنه يثور ممزوجا بالعطف عليها و.. بالنفور من أخيه، فتحرك من مكانه وهم بالخروج من غرفته لينتصر لها على أخيه، ولكنه عاد فتراجع وتخاذل.. وذهب يجلس ثانية إلى مكتبه.

لم يلبث الحوار أن انتهى، ولم تلبث العاصفة أن هدأت، خرج الأخ إلى شأنه، وجاءت "ز" تفتح باب الغرفة باكية مهدمة، واقتربت من "ن" تقص عليه ما كان بينها وبين أخيه في ألم عميق، تملكه التأثر فرق لها قلبه ومد يده يمسح دموعها وهو يحاول أن يخفف عنها فتخونه الكلمات، وأية كلمات يقولها وهل ينضم إلى رأي أخيه أم ينقلب عليه فيحبذ رأيها..؟ قاربها يقبلها ليسري عنها ويطيب خاطرها.. فامتنعت عليه القبلة، أو هو قبلها، ولكن الرعشة الشديدة التي سرت في أعضائه فهزته هزة عنيفة، حيرته وأذهلته كان يلاعبها قبل اليوم، كان يضاحكها ويداعبها في غير كلفة ولا حرج، وكان يقبلها.. ولكنه لم يحس يوما هذا الإحساس الغريب، ولم يشعر بهذا الشعور الخفي العميق

 

عاد إلى مكتبه خائرا فجلس صامتا ساكنا وهي قبالته، وكلاهما ذاهل وكلاهما حائر حيرة عجيبة طال الصمت.. طال السكون.. وتحركت هي تهم بالخروج فلم يتكلم، وخرجت فلم يستبقها أو يستوقفها وهكذا ظل جامدا في مكانه يطيل النظر إلى كتبه، ولكنه.. ولكنه لاه عن ذلك كله لا يبصر ولا يرى ولا يسمع.. ما هذا الشعور الذي يحس به اليوم، وما معنى هذه الخلجات التي اختلجت في صدره، وما معنى هذه النبضات التي ارتفع بها قلبه، وما سبب هذه الرعدة التي عرته..؟

ذلك كان أول وتر من أوتار العاطفة بدأ يتحرك ويلتهب مضت فترة قصيرة، وهو لا يزال جامدا في مكانه، يفكر فيغلبه الذهول، ويتجاهل فتغلبه الحقيقة، حتى يعود أخوه وما يزال أثر العنف مرتسما على جبينه عنه، وهو يدخل البيت فتعروه الدهشة، ويحس بانقباض نفسه لهذا السكون الشامل، فيهرع إلى غرفة أخيه متألما حانقا، فيجده مكبا على مكتبه.. ويتنبه "ن" لدخول أخيه فيقف يستقبله في احترام، ولا يلبث "م" أن يقترب ويجلس إليه، ويسائله عن "ز" وهل أفضت إليه بما كان بينهما ويكون بينهما حديث خافت، يقر فيه "م" بأنه أساء إلى نفسه وأساء إلى زوجه بهذا الحوار، وأنه كان عصبيا أكثر مما يجب في احتدامه وفي ثورته، فهو مخطئ فيما قال متألم لما صدر يلتمس الى أخيه، أن يقوم إليها فيوقظها من نومها، ويزيل ما بنفسها ويقودها إلى غرفة المائدة حيث ينتظرهما لتناول العشاء، ثم يطلب أن يزيل بدعابته ما بينهما من سوء تفاهم، وأن يصلح بينهما في مهارة غير ملحوظة، لا تتعارض مع كرامة الزوج ولا تتنافى مع كبريائه ومكانته.

يذهب "م" إلى غرفة المائدة، ويذهب "ن" متثاقلا حائرا ثائر العاطفة إلى غرفة أخيه، فيجد "ز" نائمة في فراشها تخفي وجهها بالغطاء، فيتقدم في رفق وحنان ليرفع الغطاء عن وجهها، فيجدها يقظة تبكي بكاء أليما، وقد بللت وسادتها الدموع، يتفطر قلبه اشفاقا عليها، فيقف بجوارها يحدثها ويحنو عليها فيكفكف عبراتها، فتزيد كلمات الاشفاق والحنان ألم نفسها فتسترسل في البكاء، تغلبه عاطفته فيتهدم ويتخاذل ويضطرب فيبكي لبكائها، وتملك عليها دموعه عاطفتها وتزلزل قلبها، فتتنبه فجأة لحرج الموقف فتقبله وتهدئه، ويقبلها ويهدئها، فيهدأان

وهي تقبل عليه شاكرة له رقته واحساسه وشعوره، وهو يحترق لهذه الكلمات ويطلب إليها ويلح في الطلب، أن تزيل ما علق بنفسها من ثورة أخيه وأن تتناسى ما كان بينهما من حوار فتعده بذلك فيطلب إليها أن تقدم له البرهان، فتقول أن أفعل ما تشاء، فيتوسل إليها أن تقوم إلى غرفة المائدة كعادتها لاهية ضاحكة فتحيي أخاه تحية حارة صافية، أن تقبله وتعتذر إليه عن تعنتها في ذلك الحوار، فتتردد، فيتوسل، فتقبل الرجاء ويخرجان معا إلى غرفة المائدة مبتسمين ضاحكين، فإذا دخلاها ذهبت "ز" مبتسمة إلى زوجها فتقبله وتستسمحه، فيسامحها ويقبلها هادئا. وتخرج مسرعة لإعداد الطعام، فيخرج إثرها "ن" إلى غرفته ليمسح الدموع التي فاضت بها عيناه.

***

مرت الأيام على هذا الحادث، فتلاشى أثره من النفوس، ونبت مكانه الأثر الذي خلفه في القلوب.. بدأت الصداقة التي تربط "ن" بزوجة أخيه تتحول إلى مجرى آخر، وذهب الوفاء البرئ الذي بينهما يتجه إلى ناحية جريئة خطيرة، يحسانها تنمو وتشتعل، فيتجاهلانها ويسخران منها تارة، ويحاولان قتلها وإخمادها تارة أخرى، والجو المحيط بهما يزيدها نماء واشتعالا يجلس إلى مكتبه فيراها أمامه، يسرع بالهرب إلى مدرسته، فيخيل إليه أنه يرى عينيها في كل عينين يراهما، ويسمع صوتها في كل صوت يتردد في أذنيه، يحاول الهرب من نفسه فيلاحقه طيفها حيث يذهب، ويغلبه الحنين إليها في النهاية، فيعود إلى البيت مهدما متخاذلا، فإذا أسرعت تفتح له الباب وترحب بمقدمه، حول عينيه عن عينيها، وناولها باكو الشوكولاتة الذي تعودته منه وحرص جهده على إحضاره لها، فتتناوله منه بيد مرتجفة، وهي تتلعثم لا تدري أتشكره أم تمتنع عن قبوله أم تعنفه على إحضاره.

يدخل غرفته واجما فيرتمي على مقعده، وتمر عليه اللحظات والدقائق، وهي واقفة في الخارج مكانها، بها مثل ما به، لا تجرؤ على دخول غرفته، ولا تقوى على محادثته وسؤاله عما به يريد أن يناديها، يريد أن يحادثها، يريد أن يلاطفها ويداعبها ويدللها كما اعتاد أن يفعل، ولكنه.. لا يستطيع، فهذه النار التي تشتعل في قلبه، هذا اللهيب الذي يحرق فؤاده، يخذله ويمنعه.

وتقف هي في الخارج وبيدها الباكو تتأمله مصدوعة القلب مصهورة النفس، تستجمع شجاعتها وتفكر في اختلاق أي موضوع تحدثه عنه، فإذا تصيدت من الهواء سببا تافها، تكلفت الابتسام وتصنعت الهدوء، وتهم بالدخول إليه، فيصطدمان عند باب الغرفة.. ذلك أنه كان مثلها يتشجع ويحاول اختلاق أي سبب لمحادثتها.. وتمر لحظة صمت قاسية، تذهلهما فيها المفاجأة فيقفان حائرين وقد نسي كل منهما ما يريد قوله للآخر.. تبتسم فيبتسم، ولكنها ابتسامة متكلفة تخفي وراءها ما في قرارة نفسيهما من ألم وهما يفهمان ذلك دون حاجة إلى الحديث والافصاح.

وينتهي الأمر بهما إلى الفونوغراف في غالب الأحيان، فتدير بعض أسطوانات غنائية غرامية لها مساس بما يحسان ويشعران، فتعبر الأغاني عن عواطفهما تعبيرا صادقا يثوران له ويتألمان ویزفران، ولكن في هدوء مصطنع متكلف، فإذا بلغ الاشتعال منهما غايته، أسرع كل منهما إلى غرفته، يخفي دموعه عن الآخر..

يعود الأخ من الخارج فيلقى كل منهما منصرفا إلى ناحيته يناديهما فيقبلان عليه مبتسمين، يحييهما ويحادثهما، فيحادثانه، ولكنها أحاديث مجردة من الروح بعيدة عن الحياة، ولا يزالون يتسامرون ويتحادثون حتى يبرحوا المائدة فيستأذن "ن" منهما لكثرة عمله وينصرف إلى غرفته مهتاجا ثائرا، ولا يلبث الآخران أن يذهبا إلى غرفتهما فيعمدا إلى النوم مبكرين، اقتصادا منهما في إزعاج "ن" وصرفه عن دراسته ومذاكرته.

وتنقضي الساعات الطويلة المملة المسئمة، وهي قلقة في مضجعها تحترق بنار الحب وتفزع لشبح الحقيقة المخيفة، حائرة ذاهلة لا تدري كيف تقاوم وماذا تفعل وهناك.. على قيد خطوات منها يظل "ن" جالسا في غرفته إلى مكتبه، لا يحس بمرور الزمن، وهو جامد ساكن كالتمثال لا يتحرك، يسترسل في تفكيره، ويحترق بين عاطفته وعقله يقاوم استسلامه تارة، يقاوم عاطفته وشعوره ووجدانه، يقاوم حبه فيتناسى كل شيء، ويعمد في عزيمة صادقة إلى الدرس والمذاكرة فإذا رفع الكتاب إلى عينيه وذهب يتصفح درسه رأى شبح الحب الجميل المغري يتراقص بين السطور، فيلقي بالكتاب ثائرا حانقا، ويسرع إلى فراشه ليهرب بالنعاس من نفسه، فإذا احتواه الفراش وأغمض عينيه طلبا للنوم، تخيل صاحبته نائمة بين ذراعي أخيه، فيقفز من الفراش ملذوعا محترقا، وقد ضاقت به غرفته، لا يدري كيف يخرج ولا إلى أين يقصد ويذهب يعود فيرتمي على مقعده مهدما خائرا، محزونا مضطرم النفس والقلب، فتحس وهي في غرفتها بحركته، فتأخذها الشفقة عليه، وتعجب كيف ظل ساهرًا إلى الآن وقد قارب الفجر على البزوغ فتدفعها عاطفتها، يدفعها حبها إلى القيام من فراشها، فتقوم متسللة إليه: وتجيء في خفة وهدوء تسترق الخطى إلى غرفته لتنهره وتعنفه على طول هذا السهر فاذا أحس هو بوقع أقدامها تقترب، انكفأ فوق مكتبه يغمض عينيه ويتظاهر بالنعاس، تفتح الباب وتدخل في رفق، فتتألم لرؤيته نائما على هذا النحو، فتسير إليه في هدوء مضطربة الأعصاب هائجة الشعور، فإذا قاربته حنت عليه، وطبعت فوق جبينه قبلتها الحارة، قبلة حبها وغرامها، وهي تحترق وتتقد وتنصهر، فإذا تمالكت نفسها عمدت إلى إيقاظه، وهو يمعن في التظاهر بالنوم، حتى إذا وثق من إتقان تمثيل دوره، رفع رأسه يعتذر لما سببه لها من قلق وانزعاج، فقد كان يدرس ويذاكر فغلبه النعاس دون أن يحس أو يشعر..

ولا تزال به تلاطفه حتى يخضع لإرادتها فيقوم إلى فراشه وهي تحييه وتدعو له بالنوم الهادئ الهنيء تتنازعه شتى العواطف المجتاحة الهادمة، فيسائل نفسه، لم لا يكاشفها بحبه ويطارحها الهوى والغرام، ما دامت تحبه كما يحبها، وأي مانع يقف في سبيل هذا الحب، وأخوه لا يلحظه ولن يدركه يوما من الأيام..؟

فإذا اطمأن لهذا الخاطر، واعتزم مكاشفتها في الغد بكل شيء، جاء العقل يسلط شعاعه على المستقبل فينير الغد المجهول، ويوضح له نتيجة هذا الخاطر إذا هو اعتزم مكاشفتها به، فيفزع ويتراجع أمام الحقيقة المؤلمة، يفزع إذ يرى بعيني بصيرته شبح الخيانة الأسود المخيف في نهاية هذا الطريق، فيعود أشد هما وحزنا مما كان.

تهتاج عاطفته ويثور قلبه من جديد، فيؤكد لنفسه أنه ستكون له عزيمة فولاذية تقهر شبح الإثم والخيانة، سيكاشفها بغرامه، سيفضي إليها بحبه، ولكن على أن يظل حبا طاهرا نقيا شريفا.. فيعود العقل يسلط شعاعه على الماضي، فيرى على ضوئه حسنات أخيه إليه، يرى فضل أخيه على حياته حسنات وأفضالا لا تقع تحت حصر، أليس هو الذي يقوم بتربيته والإنفاق عليه، أليس هو الذي يأويه في بيته ويأتمنه على شرفه وعرضه،أليس هو.. أليس هو.. هو إذًا كل شيء له، فهل تكون الخيانة جزاءه.. وهل يكون هذا رد الجميل، والثمن الذي يكافئه به، هل يجرؤ بعد ذلك كله أن يحب زوجه، أن يغرم ويتدله بها ويجيء في نذالة وجبن فيكاشفها بحبه وغرامه..؟ إذًا لا مفر من الصمت، لم يبق إلا أن يخنق حبه وينتزع قلبه فيسحقه بقدميه.. لن يحبها بعد اليوم، لن ينظر إليها بعين المغرم المدله، سينسى الحاضر، وسيعاود في عزيمة ثابتة نظرته الماضية إليها، هي صديقته، هي أخته، وأخيرا هي.. هي الثمرة المحرمة..!

***

مضت الأيام تجري سراعا..

أما "ن" فقد تغير تغيرا ظاهرا باديا لكل من يراه، فقد نحل نحولا كبيرا، ذبل عوده، وانطفأت جذوة عينيه اللامعتين، وتهدمت صحته فأصبح عصبيا إلى حد بعيد لا يستطيع المذاكرة ولا يقوى على مواصلة الدرس، وهو دائم الهرب من البيت، فإذا عاد إليه اقتصد جهده في محادثة أخيه وزوجه، وأسرع إلى مخدعه يقضي فيه ساعات الليل فإذا انبثق الفجر قام يتأهب للخروج ليس يدري الى أين تحمله قدماه.

إذا ذهب إلى مدرسته مل الدرس ومل زملاءه، فيتركها ويتركهم غير آسف ويخرج يتسكع في الطرقات النائية البعيدة حتى ينتهي به المطاف إلى حديقة من الحدائق العامة، فيدخلها ويظل جالسا فوق أحد مقاعدها سابحا في خياله مستسلما لتفكيره راضيا بما اعتزمه، قانعا بهذه الحال القاسية المؤلمة

أليس هو الذي سعى إليها بنفسه؟ أليس هو الذي اعتزم الصمت والبعاد عن صديقته درءا للخطر وأمنا من الفضيحة والخيانة والسقوط، هو لا يزال يحبها فلم يستطع ولن يستطيع تحطيم قلبه أو سحقه بقدميه، بل لقد أصبح اليوم حبها يجري في دمه ويتغلغل في عروقه وكيانه، أصبح يحبها حبا عميقا جنونيا قاتلا وهي أمامه، وهي بقربه وجواره في كل يوم يخشى مواجهتها، يخشى محادثتها، يخشى الجلوس إليها والإنفراد بها لحظة خوف أن يفقد شجاعته وتنهار مقاومته، فيأثم في حق أخيه..

يحبها.. وبقدر هذا الحب الصادق العميق، بقدر ما هو مطالب أمام نفسه بالوفاء لأخيه، الوفاء لعهده وشرفه وكرامته، الوفاء لأياديه البيضاء التي أسبغها عليه في ماضيه ويسبغها عليه في حاضره ومستقبله.. هو يحترق بين الكفتين، هو يذوب وينصهر، ولكنه وطد العزم على أن يذهب في طريقه إلى النهاية، لا.. لن يريد أن يرجح كفة على الأخرى، فإن كان ولابد فالوفاء أولا..

أجل.. لينتصر الوفاء وإن ذهب هو ضحية انتصاره، وإن ذهب هو ضحية حبه، فما يستطيع أن ينكب أخاه في عرضه وشرفه وأما "ز" فتحمل بين جنبيها أضعاف ما يحمل صديقها، فهي تبادله حبه، ولا تقل عنه احتراقا وانصهارا، وهي مثله مطالبة بالوفاء لعهد زوجها، وهي مطالبة إلى هذا أيضا بتمثيل دور مسرحي دقيق مجهول أمامه، يجب أن تشعره دواما بهنائها وسرورها، يجب أن تلقاه دائما باشة مبتسمة، يجب أن ترعاه بحنانها وتغمره بحبها وتقوم نحوه بواجباتها الزوجية، يجب أن تقوم أمامه بتمثيل هذا الدور المتقن خوف أن يفطن إلى الأمر، فإذا خلت إلى نفسها، فإذا خلعت هذا القناع الذي تستر به حقيقة نفسيتها الحزينة المحطمة، استسلمت لضعفها، وروت الأرض بدموعها وهي لا تدري كيف تنقذ صاحبها وحبيبها من هذا الشر الذي ابتلي به، تذوب حسرة وألما لما آل إليه أمره، فقد تبدل بشخص آخر حتى لينكره من يراه، تحبه.. تحبه كما يحبها وتقدر موقفه، تقدر عذاب نفسه وجراح قلبه العميقة، فهي تشاركه فيها وتشاطره بؤسه ويأسه، وإن تظاهرت بغير الحقيقة، تريد انقاذه.. تريد انقاذه بأي ثمن، إلا أن تفرط في كرامتها، ولن يبلغ الأمر بينهما هذا الحد، تريد أن تعيد إليه هدوءه وترد إليه نعمة الحياة الهانئة التي سلبتها منه وما كان لها يد في ذلك كله..

تريد أن تحادثه، تريد أن تجلس إليه جلسة طويلة يتصارحان فيها بما يخفيان، تريد أن يتصارحا بحبهما الصادق العميق فيتخذا منه قوة للحياة وسببا لهناء النفس وهدوء البال تريد انقاذ الموقف قبل أن يتفاقم الخطب، فماذا يكون مصيرهما في الغد لو تكشفت الحقيقة أمام عيني الزوج..؟

ماذا يقول عنهما، وبماذا يتهمهما، وإلى أية بؤرة سحيقة يقذف بهما، وإلى أي قرار عميق يسقطان ويترديان وهما بريئان طاهران.. تريد أن تحادث صديقها وأن تصارحه بكل شيء، تريد أن يعملا معا على انقاذ الموقف وأن يخطتا خطة رشيدة حكيمة تعيد إليهما هناءهما المسلوب، ولكنه يباعدها كلما قاربته، يروغ منها كلما حادثته، وهي في هذا الآتون المستعر تحترق وتحترق، والابتسامة الزائفة على شفتيها تطالع بها زوجها كما واجهته وأما الزوج فقانع بحياته الهادئة، هانئ بحب زوجه مطمئن لوفاء أخيه غافل عما يدور حوله، جاهل كل شيء.. وهل هناك أي شيء.

لحظ على أخيه تغيره وتبدله، لحظ عليه إهماله لنفسه، فلما سأله في ذلك تخلص من الموقف بسهولة فهو يستعد للامتحان، والدراسة تطلب جهدا كبيرا، والتمرين في المستشفى يستغرق ساعات النهار، واقتنع الأخ بذلك فذهب يدعو له بالنجاح والتوفيق ويشجعه على الجهاد والمثابرة ويمده بكل ما يستطيع ليوجه جهوده للدرس والتحصيل فإذا خلا إلى زوجه طلب إليها في إلحاح ورجاء أن تتعهد أخاه بعنايتها وأن تغمره بحنانها وحبها، وأن تسهر على راحته وتهتم بشؤونه فليس له غيرها تعطف وتحنو وتشفق عليه، لهذا يريدها أن تحرص على راحته وتعنى بأمره عناية تامة وتوفر له أسباب الراحة، حتى تسهل عليه الدراسة فيكمل الله سعيه بالنجاح.

تقع هذه الكلمات من نفسها كطعنات الخناجر تمزق صدرها وتدمي قلبها، فتحتمل غصة الألم صامتة مبتسمة، وهي تعده بذلك كله وتؤكد له أنها حريصة على راحته راغبة في نجاحه مثله، فيطمئن لذلك ويشكرها على وفائها وحسن صنيعها، وهل لهما غيرها في الوجود...؟

وتنقضي الأيام.. والحال تزداد شدة، والخطب يتفاقم، والنهاية تقترب، ويجيء القدر الساخر فيعجل في إسدال الستار، وهو يفتن في خلق الحوادث ويبالغ في تصوير عنفها حتي يجعل منها مأساة مؤلمة وفاجعة محزنة، يظل أثرها باقيا في النفوس إلى ما شاء الله..

***

أعلنت الصحف نتيجة الامتحان.. فنشرت أسماء الطلبة الناجحين في مدرسة الطب، في هدوء واطمئنان، قرأ الأخ عنوان النشرة في جريدة الصباح، ولم يعن بمطالعة أسماء الناجحين، وأي داع لمطالعة الأسماء وهو واثق من نجاح أخيه ثقة لا يداخلها شبه شك كان دائما أول الناجحين في كل امتحان، ولكم تألم وحزن يوم علم أن ترتيبه "السابع" في البكالوريا، ولكنه عاد فشحذ عزيمته الماضية واعتزم أن يعوض هذا التأخير في الترتيب يوم ينال دبلوم الطب فيظفر على أقرانه بالأولية

وعاد حب الاستطلاع، بل لذة الفخر والاعتزاز بأخيه تدفعه إلى مطالعة الأسماء.. فلم يكد يمضي في مطالعتها، حتى عرته الدهشة وهزته الصدمة، اسم أخيه لم يرد بين أسماء الناجحين..! شك أنها غلطة مطبعية، وإلا فهل معنى ذلك أنه رسب في الامتحان أثر هذا المجهود العنيف الذي بذله حتى بدأ أثر الإجهاد والضعف عليه محال أن يكون رسب، محال أن يكون أخفق، وما رسب ولا أخفق مرة في جميع سنين دراسته.

كان لحظتها في طريقه إلى "الديوان"، فأذهلته الصدمة، وهو غير مصدق ما يقرأ ولا مؤمن بما يرى، فثارت نفسه ثورة عنيفة يريد أن يعرف الحقيقة ويتبين صحة النتيجة.. إذا يعود إلى البيت ليستجلي أخاه الحقيقة، ولكنه عاد فتذكر أن أخاه سبقه الى الخروج،

كيف يطمئن إذًا وكيف يريح نفسه من لهب هذا الشك..؟ وفي لحظات كان في طريقه إلى المدرسة.

***

أخي أنا لم يتقدم للامتحان..؟

أخي أنا لم يواظب على دراسته، وقل أن يرى بين جدران المدرسة..؟! ما معنى هذا..؟ وأين يمضي وقته إذًا..؟ وما سر نحوله وضعفه..؟ وما سر هذا الانقلاب الذي طرأ على حياته..؟ لا.. مستحيل.. لست أفهم.. لست أرى شيئا، فهذه الغشاوة السوداء التي تغشي بصري تفقدني عقلي وصوابي.

وعاد إلى الديوان ذاهلاً تحتويه غصة الألم، وتزلزله هذه الحقائق تجيء فتتكشف له فجأة ودفعة واحدة.

لم يستطع البقاء طوال ساعات العمل وسارع إلى البيت لعله يلقاه.. فلم يجده ولم يكن بد من مفاتحة زوجه، ومكاشفتها بالحقيقة، لعلها تعلم عنه ما يجهله.. والزوجة محزونة صامتة تستمع إليه وهي ذاهلة وهي تحترق لا تدري ماذا تقول ولا بم تدافع عنه أو تبرر موقفه، كلمات تخرج من فمها لتهدئة ثورة أخيه، لتبديد سحائب الحزن العميق الذي يخيم عليه، وهي لا تدري معنى ما تقول ولا تجد من الكلمات ما يطاوعها فيخفف مصاب هذا المنكود، يريد أن يكتشف الحقيقة، يريد أن يعلم كل شيء، فأي طريق يسلكه وأي سبيل يوصله إليها..؟

لينتظر أولا عودة أخيه، لينتظره على مضض ليرى ماذا يقول وماذا يزعم ويدعي والزوجة في كل ذلك تحترق وتنصهر باسمة مكابرة تحاول تهدئته وهي تشتعل، وهي تخشى أن تظهر الحقيقة، وأن تنقض الصاعقة، تريد أن تلتقي بصاحبها أولا، تريد أن تشجعه على الدفاع واختلاق المعاذير والأسباب لهذه النتائج، فهي غير مطمئنة لما سيقول غير واثقة من شجاعته فقد يضعف وقد يعلن لأخيه حبه الدفين وتنقضي الساعات متباطئة طويلة حتى إذا خيم الليل وأحرقهما الانتظار ظهر "ن" بالباب، ودخل مكتئبا حزينا يلقي عليهما تحيته ويسرع إلى غرفته كعادته.

ذهب أخوه يلحق به وزوجه تمسك به وترجو منه متوسلة ألا يقسو عليه فهو مريض مضنى لا يحتمل عنفا ولا قسوة.. ويلتقي الأخوان فيكون بينهما حديث خافت هادئ فهو لا يريد إيلامه ولا إزعاجه، وإنما يريد أن يعلم علة مرضه ونحوله، أن يعلم سر تخلفه عن المدرسة، أن يعلم أين يقضي ساعات النهار، أن يعلم لماذا لم يتقدم إلى الامتحان والأخ محرج لا يدري ما يقول، يؤلمه شبح الحقيقة المزعجة، ويحطمه هذا الموقف الخطير .

والزوجة بالباب تنظر إليه مضطربة مشفقة لا تقوى على الدخول ولا تطاوعها نفسها على سماع اعترافه، تمر اللحظات مسرعة وهم حيث كانوا لا كلمة ولا جديد يجلو ما غمض من الحقائق.. يكرر الأخ أسئلته في لهجة ممزوجة بالحنان والاشفاق فهو يحاول تبديد اضطراب أخيه، يحاول تهدئته واطمئنانه لينتزع منه الحقيقة مجردة.. يريد أن يعرف كل شيء.

يضعف هذا أمام لهجة أخيه، تضعف نفسيته فيتلعثم ويبكي يبكي بكاء حارا وقد اهتاجت نفسه بشتى العواطف فتسرع إليه الزوجة وقد أحرقتها هذه الدموع تسرع إليه برغمها مدفوعة بعاطفتها مدفوعة بحبها العميق، فتمسح دموعه على مرأى من زوجها وهي تتكلف الهدوء فتحاول تشجيعه وتبديد آلامه خوف أن يتهدم فيعلن الحقيقة ويطلق القنبلة

يستجمع "ن" شجاعته يستجمع قواه وشوارد عقله فلابد من مخرج ينقذه وينقذها وينقذ كرامة أخيه.. فإذا اشتد به الحال هوى على يدي أخيه يقبلهما ويبللهما بالدموع وهو يعترف له.. يعترف له بأنه ذاكر وذاكر حتى أرهقته المذاكرة فذهبت بجلده ومثابرته فرأى أخيرا أن يتهرب من المدرسة وأن يتخلف عن الامتحان خوف أن يتقدم إليه فلا يحرز الأولية وهي كل أمله وهي غاية ما يطمح إليه في دراسته وامتحانه.

ويتأثر الأخ بالموقف، يتأثر بلهجته ودموعه فيعتقد بصحة هذا الإدعاء فلا يلبث أن يضمه إلى صدره فيقبله ويشجعه ويدعوه إلى الاطمئنان ويطلب إليه أن يعمد إلى إراحة أعصابه وعقله فهو مستعد أن يبذل من أجله كل ما يكفل راحته وهناءه، أليس هو أخوه الأوحد ويهمه أن يكون هانئا مغتبطا سعيدا؟

ويسرع الأخ الكبير بالخروج وقد آلمه الموقف، فآثار فيه شعوره وحبه الأخوي، وتقف الزوجة مصعوقة جامدة أمام صاحبها، لا يجرؤان على النظر، ولا يقويان على الحديث، فيهتاج شعورهما وتثور عواطفهما.. فيبكيان.. والدموع لغة الضعفاء تتشجع فتقترب منه وتمسح دموعه، ثم تقوده إلى الخارج صامتة دون أن تنبس بكلمة واحدة، وهو يطاوعها في ذهول.. فإذا خرجا وقفت تدعوهما إلى تناول العشاء، فيذهبون إلى غرفة المائدة.. ويتناولون العشاء.

***

تمر ساعات الليل الطويلة الحالكة وهو جالس إلى مكتبه يفكر وقد اعتزم الخلاص، هو لا يقوى على احتمال عذاب نفسه، لا يقوى على احتمال جراحات قلبه به، فلا بد له من الخلاص، لا بد أن يختصر الطريق الذي يحرقه ويصهره ويذيب قلبه ونفسه  وانتهى الأمر به وقد وطد العزم على الرحيل، الرحيل البعيد، فقد قرر الانتحار.

خرج في الصباح مبكرا كعادته، وقد ملك عليه اعتزامه كل واحي تفكيره، فسار إلى المدرسة في خطوات ثابتة، حتى إذا وصل في الموعد الملائم، دخل معمل الكيمياء ووقف يجول ببصره في زجاجات السم ينتخب من بينها أشدها فتكا وأسرعها عملا، حتى امتدت يده إلى زجاجة "سيانور البوتاسيوم".. في شجاعة وثبات أخذ الزجاجة وعمد إلى كمية منها فوضعها داخل "برشامة" ثم أعاد الزجاجة إلى مكانها وحمل البرشامة في جيبه وانصرف.

ذهب يجول في الحدائق قلقا مهتاجا، يعرض الماضي وينظر ببصيرته إلى المستقبل، وهو ثائر مضطرب مصدوع النفس ملذوع الفؤاد لابد من الخلاص.. لابد من الرحيل، وتدوي كلمة "الانتحار" في أذنيه فتهلع لها نفسه وترتعد أعضاؤه وهو حائر ذاهل بين الإقدام والإحجام.

عاد إلى البيت مبكرا على غير عادته، عاد مبتسما ضاحك السن، يداعب صاحبته ويصافح أخاه، يحادثهما ويأمرهما ويعمد إلى الفونوغراف فيدير أسطواناته الفكهة المضحكة، وهما سعيدان بهذا الانقلاب، سعيدان أن يرياه باسما يعاوده إشراق الحياة ولا يزال بهما يداعبهما ويسامرهما حتى تنقضي الساعات فينصرفوا إلى غرف النوم أما هي فترى في هذا الانقلاب المفاجئ غير ما يراه أخوه، هي تحس بالحقيقة وتشعر بمعنى هذه المفاجأة، هناك سر عميق يخفيه صاحبها وإلا ما ظهر اليوم بهذا المظهر الزائف المزعوم ويجلس هو إلى مكتبه فيبكي ما شاء له البكاء، ثم يتشجع فيمسك بالقلم ويبدأ بكتابة كلمة الوداع إلى أخيه.

لا سبب لا نتحاره غير ضيقه بالحياة، فهو حريص على كرامة أخيه، حريص على شرف زوجه، ضنين بكرامة نفسه، لهذا يعتذر لأخيه دون ذكر الحقيقة عما سببه له من حزن، فقد حاول كثيرا مقاومة فكرة الانتحار ولكنها غلبته بعد أن تشبع بها، ورأى فيها نور الخلاص من ضيقه الشديد المتحكم وتنقضي ساعات الليل وهو على حال محزنة تفتت الصخر، فإذا بزغ النهار كان قد انتهى من كتابة كلمته الأخيرة وهي أمامه وفوقها البرشامة.

ويمر برأسه خاطر، خاطر له أثره ووقعه العميق، ذلك أنه لم يذكر زوجة أخيه بكلمة واحدة في رسالته، لا عن سهو وإنما عن تعمد، حتى لا يخرجها ولا تحوم حولها شبهة، ولكنه يريد أن يذكرها وتذكره، يريد أن يترك لها كلمة مؤثرة عميقة ولكنها جامدة لا تكتب ولا تقرأ، فيبسم لهذا الخاطر ويرحب به، ويسرع إلى ارتداء ملابسه، وهي بعد في غرفتها مع أخيه، وتشغله هذه الفكرة الطارئة عن كل ما سواها، فيترك الرسالة وفوقها البرشامة، ويسرع إلى الخروج لشراء كمية من "الشوكولاتة" يتركها لها بعد انتحاره بجانب رسالة الوداع.. وتشاء المصادفة أن يدخل أخوه لتفقده، فلا يجده، ويقرب من المكتب فتقع عيناه على رسالة معنونة باسمه، فيفضها ويقف يقرأها تميد الأرض تحت قدميه، وتدور الدنيا به سوداء حالكة فلا يتمالك نفسه عن الصراخ.. صرخات المفجوع، صرخات المحزون أحرقة المصاب.

تجري زوجه هالعة مضطربة على صرخاته لتتبين الفاجعة ولتكتشف المصاب الذي توقعته، فيناولها الرسالة وهو يبكي ويندب أمله وحظه، ولكن هو.. أين ذهب.. وإلى أين ساقته قدماه؟ يقف مصعوقا يبكي ويندب كالأطفال لا يستطيع تفسير معنى هذا الانقلاب، لا يستطيع فهم ما يدور حوله.. والزوجة تبكي بكاء مرا وهي تقرأ سطور الرسالة، فاذا انتهت من مطالعتها وهي تحترق بهذه النيران المستعرة، أعادتها إلى المكتب، فتلمح عليه البرشامة، ويصدق حديث قلبها، فهي البرشامة التي ذكرها في رسالته.

تسرع إلى الخارج فتحضر كوبة  من الماء، وبينما يقف زوجها ذاهلا مصعوقا، تدخل هي في شجاعة وجرأة وثبات فتضع البرشامة في فمها وتشرب وراءها الماء دون كلمة أو حرف وفي لحظة تسقط على الأرض بين يدي زوجها جثة هامدة في هنيهة تنقض الصاعقة الثانية عليه، وقد فقد وعيه ورشده، وارتمى فوق جثة زوجه يبكيها صارخا كالمجنون، زائرا كالوحش وهو لا يدري ولا يفهم شيئا مما يدور حوله فجأة يظهر الأخ عند الباب، ويدخل ثائرا مضطربا على صرخات أخيه، وقد عاد وبيده ما ذهب لشرائه، فإذا تبين الأمر وأدرك الحقيقة ارتمى فوق جثتها يحتضنها ويبكيها وهو يصرخ: كنت أحبها.. كنت أحبها!.