الأربعاء 7 اغسطس 2024

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الأول «نظافة سيدات بيروت» (7-6)

جرجي زيدان

ثقافة4-8-2024 | 15:07

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.

يتناول الفصل الأول من هذه المذكرات، أصل أسرته، وعصامية والده ووالدته، وما كانا عليه من جد ونشاط، على الرغم مما أحاط بهما من ظروف قاسية.

الفصل الأول: نظافة سيدات بيروت

فسكنى العائلة المؤلفة من رجل وامرأة وبضعة أولاد في غرفتين فقط، يدل على توسط الحال وليس على الفقر، وقد تسكن هذه العائلة في غرفة واحدة، ولا يظهر عليها المسكنة والذل، لأنك لا تدخل تلك الغرفة إلا رأيتها نظيفة، وقد أرخيت الستائر البيضاء من البفتة المغسولة غسلا نظيفا على الفرش "اليوك"، وترى على المقعد غطاء مثله قد نظف وسوى، وقد مسحت الحصر مسحا نظيفا، وأصلح كل شيء فى تلك الغرفة إصلاحا حسنا، تستنشق رائحة النظافة من مجملها، ولا أعنى رائحة الأطياب أو العطور، وأنما هي رائحة لا يعبر عنها بغير رائحة النظافة، يشمها الرجل إذا تنشق ثوبا خارجا من بين يدي الغسالة الماهرة، وربما غلبت فيه رائحة الصابون، فتشتهى إذا دخلت تلك الغرفة (ولا تدخلها إلا بعد نزع الحذاء) أن تجلس على مقعدها أو على حصيرها، وأن تشرب القهوة التي تقدمها لك صاحبة البيت بيدها، إذ يندر عند هؤلاء اقتناء الخدم، فترى صاحبة المنزل في وقت الطبخ والتنظيف والغسل، مشمرة أردانها، تكنس، وتغسل، وتنشر، وتطبخ، وتعجن، والصحة والنشاط باديان في كل حركة من حركاتها، فإذا فرغت من عملها، أصلحت من شأنها على أبسط زي، ولبست ثوبا بسيطا نظيفا، وأخذت تستقبل ضيوفها وزائريها، وهى تصنع لهم القهوة، وهى تقدمها، وإذا كان لها ابنة تقدر على تقديمها قدمتها عنها.

وهي مع ذلك لا تغفل لحظة عن تربية أولادها، وترتيبهم من حيث الملبس والطعام، وتعلمهم النظافة، وتعودهم النشاط، وكان أغلب النساء في ذلك العهد أميات لا يعرفن القراءة، ولا تعلمن في المدارس، ولكن لهن من ذكائهن وقوة إرادتهن أفضل وسيلة لتربية أبنائهن على النشاط والعمل والمحافظة على الوقت، ويبغضن إليهم الجبن والكسل، ويحمسنهم، ويربين فيهم البسالة والإقدام.