الثلاثاء 13 اغسطس 2024

التجديد وخطبة الجمعة

مقالات5-8-2024 | 14:55

يحتاج المجتمع العربي والإسلامي إلى خطاب ديني متميز، غير تقليدي، ولا روتيني رتيب، وذلك الخطاب يتطلب تغييرا نوعيًّا في بنيته الأساسية، وشكله، وأطروحاته، ومستوى أداء حاملي هذا الخطاب وناقليه إلى عامة المتلقين وخاصتهم؛ ليلبيَ حاجةَ المجتمع، الذي يواجه تحديات متلاحقة ومتطورة في الوقت ذاته، متفاعلا بذلك مع معطيات عصر الثورة الرقمية والاتصال الجماهيري الكثيف والمتداخل.

تجديد الخطاب لا تجديد الدين

عندما نطالب بتجديد الخطاب الديني فإن ذلك لا يعني تجديد الدين، فالدين في الحقيقة يحمل في أهدافه ومقاصده كل مقومات التطور والتجديد، والدين صالح لكل زمان ومكان، وقادر على مواجهة كل التحديات، ومعالجة كل القضايا، ومن هنا فإن الله عز وجل يقيض لهذا الدين من يحمل تعاليمه ومبادئه؛ ويفهمها فهما جيدا، لينقلها إلى الناس من خلال هذا الفهم المستنير، معالجا به مشكلات فردية وجماعية، لا تستقيم حياة الناس في ظلها، وشواهد التاريخ تقفنا في كل عصر على نماذج من هؤلاء المستنيرين الذين استوعبوا أهداف الدين ومقاصده، وراحوا يعالجون هموم الناس، ويأخذون بأيديهم ليقفوهم على طريق الرشاد، ففي الحديث النبوي الذي رواه أبو داود في سننه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها" وفي الحديث الذي رواه ابن القيم في (مفتاح دار السعادة): "يحمل هذا العلم من كل خلف عدو له...".

ومن المسلم به، أن ما يقوم به هؤلاء المجددون من جهد، وما يقدمونه من طرح في التجديد الديني، لا يعني أنهم يغيرون في أصول الدين وثوابته، وإنما يأخذون بأيدي الناس؛ ليقفوا بهم على دروب الفهم الصحيح، ويعيدوهم إلى صفحة الإسلام الناصعة البيضاء، التي جاء بها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم، يوم كان الناس ناسا، وكان الالتزام بأصول الدين والأخذ بمبادئه متجذرا في النفوس.

فالتجديد على هذا ليس تجديدا في الدين، وإنما هو تجديد في علاقة المنتسبين إلى الدين به، تفاعلا مع أصوله وتلمسا لهديه، واقتداء برموزه.

خطبة الجمعة

وبالنظر في أشكال الخطاب الديني ووسائله نجدها تتمثل في عدة أنماط دعوية متفقة في الهدف، وإن اختلفت في أشكال الأداء، وأبرز هذه الأنماط الدعوية: خطبة الجمعة، ودروس الوعظ، والندوات والمحاضرات والمناظرات وغيرها، وهي كلها وسائل تضع الداعية في مواجهة الجمهور المستقبِل للرسالة الدعوية. وتتفوق خطبة الجمعة على الوسائل كلها في تكرارها الأسبوعي الثابث وشيوعها وشعبيتها في كل الأوساط وعلى مختلف الأصعدة والمستويات الثقافية، كما أن ارتباطها بالمسجد يعطيها قداسة وروحانية عالية، تضمن لصاحب الرسالة الدعوية توافر التهيئة الدينية والنفسية لاستقبال رسالته وتلقيها بشكل جيد.

ولما كانت خطبة الجمعة بتلك الأهمية، وكان تأثيرها في المتلقي بالغا، تَوَجَّبَ على الخطيب أن يُقدِّرَ تلك الأهمية، ويتهيأَ لخطبته تهيؤا حسنا، شكلا وموضوعا، قلبا وقالبا، قولا وفعلا وسلوكا، وكم تربى على هذا اللقاء الأسبوعي أجيال وأجيال من الناشئة! ولا أزال أذكر المسجد الكبير بقريتي (لقانة) من أعمال البحيرة، وكيف أني أدركت فيه صبيا ويافعا وطالبا نفرا من هؤلاء الأئمة الذين حافظوا على رسالة المسجد، وبذلوا من أجل تلك الرسالة الكثير من وقتهم وجهدهم وعلمهم، فكانت النتيجة متمثلة  في الأثر الطيب الذي تركوه في نفوس الناس، تمر الأيام وتنقضي السنون ولا ينتهي هذا الأثر الذي تركوه.

وعندما يسرح الخيال ويطوِّف مع آفاق الأمس، فإنه يرتد حسيرا؛ ذلك أن البون بين الأمس واليوم أضحى شاسعا، وأقل ما يمكن أن يقال في الفرق بين أداء الأمس وأداء اليوم -إلا من رحم ربي- إن خطيب الأمس كان صاحب رسالة، بينما خطيب اليوم أضحى صاحب وظيفة، يحرص على دفتر حضوره؛ من أجل تأمين راتبه وحافزه وإرضاء مفتشه، أما الرسالة الدعوية فتأتي بعد ذلك، أو لا تأتي. ولا شك أن الحكم بتردي المستوى وتدني الأداء لا يمكن أن ينطبق على عموم القائمين بالدعوة، وإلا لغمطنا حق المجيدين والمؤمنين بعظم رسالتهم وأهميتها، وهم كثيرون، لكن ظاهرة تراجع المستوى استفحلت، فصار الناس  يستمرئون ما يستقبلونه من أداءات متواضعة لكثرتها وشيوعها، حتى لا تكاد تعثر في كل مدينة أو قرية على واحد من هؤلاء المجيدين.

من سلبيات الخطباء                                                     

عندما يعرض كاتب المقال بعض سلبيات الخطباء، فإنه يعتمد في ذلك على الملاحظة والمراقبة الذاتية لأداءات شريحة عريضة منهم، وهو يؤكد في الوقت نفسه على أن ذلك لا ينطبق على الجميع وإنما هو صدى لأداءات البعض ممن لا يستشعرون عظم المهمة المنوطة بهم في هذا الشأن.

وأهم ما يمكن ملاحظته من سلبيات، تفت في عضد الخطاب الديني، يتمثل في الآتي:

 إن توحيد موضوع الخطبة من قبل وزارة الأوقاف، ونشرها مكتوبة على موقع الوزارة كل جمعة، لمما يساعد الخطباء في الحصول على المعلومة الصحيحة، الموثقة من مصادرها المعتمدة والآمنة، ورغم ذلك فإن بعض الخطباء لا يلتزمون بالموضوع، ويذهبون في اختيار موضوعاتهم كيفما اتفق، ولو أحسن هؤلاء لتناغموا مع اختيارات الوزارة، وأفادوا مما تقدمه لهم عبر موقعها، من نماذج مكتوبة ومنضبطة، وفق الفهم الصحيح لجوهر الدين. 

 كما أن بعض الخطباء يفتقر إلى أسلوب الأداء الجيد، حتى مع التزامه بموضوع الخطبة، فتفاعل الخطيب -كشأن كل متحدث إلى جمهور من الناس- مع جمهوره والتوجه إليهم بكل ملامحه ومعالم جسده يساعد في نقل رسالته نقلا صحيحا، فالخطيب الجيد هو من يحسن توظيف تلك الملامح والمعالم لخدمة موضوعه ونقل رسالته، بينما يكون بعض هؤلاء في واد وجمهورهم في واد آخر؛ لرتابة أدائهم ومضيهم فيما يُقَدِّمون للناس على نمط أدائي واحد، فتسقط الأفكار منهم في عرض الطريق، ولا يمسك المستمع منها بشيء.

الثقافتان اللغوية والأدبية لخطيب الجمعة

إذا كانت الثقافة الدينية لازمة للداعية أو الخطيب بالدرجة الأولى، فإن الثقافتين اللغوية والأدبية لازمتان له كذلك، ولكن الأولى تلزمه لزوم المقاصد والغايات، والثانية تلزمه لزوم الوسائل والأدوات.

فاللغة بمفرداتها ونحوها وصرفها لازمة لسلامة اللسان وصحة الأداء، فضلا عن حسن أثرها في السامع، فالأخطاء اللغوية إن لم تحرف المعنى وتشوه المراد منه يمجها الطبع وينفر منها السمع، فيقشعر البدن ويضطرب القلب ويتأذى السمع حين يسمع خطيبا يخطئ في كلمة أو أسلوب ويضعه في غير موضعه، كمن يقول مثلا: (البرِية) بتخفيف الراء مع كسرها وهو يقصد بها الصحراء، ومن يدعو للمرضى فيقول: (اللهم إني أسألك أن تُشفي مرضانا) بضم التاء من الفعل (شفي) والصواب(تَشفي) بفتحها، وكذلك من يرفع المنصوب وينصب المرفوع أو يجر ما يستحق الرفع كالأعرابي الذي سمع إماما يقرأ: " أن الله بريء من المشركين ورسوله" بكسر لام رسوله فقال الأعرابي: لئن كان الله قد برئ من المشركين ومن رسوله فأنا أبرأ ممن برئ منهم الله تعالى، فقيل له: إنه يلحن يا أعرابي وصحتها بضم اللام من (رسوله).

وكثيرا ما يؤدي اللحن إلى إفساد المعنى وإلى خلل في الشرع والعرف والذوق كخطأ الإمام في قراءة: "ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" فقرأها بفتح تاء المضارعة من الفعل الرباعي فقال أعرابي خلفه: ولا إن آمنوا أيضا لن ننكحهم فقيل له: إنه يلحن فقال: أخروه قبحه الله، لا تجعلوه إماما إنه يحل ما حرم الله.

فالمرء لا يستطيع أن يفهم كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بغير التمكن من اللغة وعلومها، ومثال ذلك ما قيل من أن واحدا من الخطباء راح يقرر أن حواء خلقت أولا ثم خلق منها آدم، معتمدا في تقريره على فهم خاطئ لمعنى الآية "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها" زاعما أن كلمة زوجها تعني: الرجل، أي: آدم، كما اعتاد العرف أن يسمي الرجل زوجا والمرأة زوجة، لكن الخطيب غفل عن التفسير اللغوي وأقر التفسير العرفي، ناسيا أن العرف يتغير بتغير المكان والزمان فلا يمكن الاعتماد عليه، بخلاف اللغة الثابتة على الزمان والمكان، واللغة التي نزل بها القرآن الكريم تسمي الرجل زوجا وتسمي المرأة زوجا أيضا، كما قال تعالى في قصة آدم: "اسكن أنت وزوجك الجنة"، ولم يقل وزوجتك،  وقال في شأن هاروت وماروت: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" وقوله: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله" ومنه قوله سبحانه: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير" وقال تعالى: "فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" فلقد أتى الخطأ للرجل من جهة اللغة وعدم فهم أصولها.

والأدب بشعره ونثره وأمثاله وحكمه ووصاياه وخطبه مهم جدا للداعية والخطيب، يثقف به لسانه ويجود أسلوبه، ويرهف حسه، ويقفه على أبواب من العبارات الجميلة والأساليب الفائقة، والصور المعبرة والأمثال السائرة والشواهد الكاشفة التي تقع في قلوب سامعيه أحسن موقع، وقد جاء في الحديث: "إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة" وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع رجلا يخطئ في اللغة كان يقول: "أرشدوا أخاكم فقد ضل" 

وكان صلى الله عليه وسلم يستمع إلى الشعر وربما كافأ عليه كما فعل مع كعب بن زهير فخلع عليه بردته حين أنشده قصيدته المشهورة (بانت سعاد....) ولا ننسى استماعه للخنساء واستزادته إياها من شعرها بقوله لها: "إيه يا خناس".

ومن هنا يمكننا أن نقرر أن اللغة والأدب من أهم أدوات الخطيب والداعية؛ إذ هما من أكبر العوامل المؤثرة في أدائه وفهمه وتقييم مستواه بما يحكم له أو عليه في مستوى أداء رسالته الدعوية.
تقاعد الأئمة

في الجهاز الإداري للدولة، والوظائف القائمة على المجهود البدني، يكون من المعقول والمقبول تقاعد الموظف بعد بلوغه السن القانونية للمعاش، حيث يكون قد أدى ما عليه خلال عقود متواصلة مع جهة العمل، وبالتالي يحتاج إلى التفرغ للعناية بصحته والاهتمام براحته البدنية، لكن هناك وظائف تعتمد اعتمادا جوهريا على المجهود الذهني وإعمال العقل والفكر، وكلما تقدم صاحب الوظيفة في السن تحقق له من الخبرة ما يجعله محط الأنظار، ومرجعا في مجاله وتخصصه، قد لا يسد مسده ذوو الخبرات المحدودة من الذين لم تعركهم الحياة، ولم يتقلبوا في أفانينها، ومن هؤلاء: الأئمة والوعاظ وأصحاب الرأي من الكتاب والمثقفين وحملة الأقلام ومن على شاكلتهم، فجدير بفئة الأئمة أن يُمَدَّ في خدمتهم لمن يرغب، ويعاملوا ماديا كما لو كانوا مستمرين في الخدمة، وخصوصا من كان منهم مشهودا له بالكفاءة والخبرة والأداء المتميز، فهؤلاء جزء من المنظومة الدعوية وحملة رسالة سامية، والمجتمع بحاجة إلى علمهم وخبرتهم وتميزهم، ولو أن معالي وزير الأوقاف الأستاذ الدكتور أسامة الأزهري وضع ذلك في اعتباره واتخذ له من الأسانيد القانونية ما يدعمه لأدى للخطاب الديني ما يكفل له حيزا كبيرا من الموضوعية والدعم الفكري! فدور الإمام في المجتمع عظيم، ويرجى من ورائه الخير؛ لأن عطاءه -إن لم يزد- لا يقل عن عطاء الصانع والزارع والفارس في الميدان، وقد صورت بعض ما يؤديه الإمام شعرا فقلت:

قد كان طول الوقت يخدم مسجدا
فرقى به نحو الكمال كمالا
أدى الفروض به ولم يكسل لها
ملأ الرحاب خطابة ومقالا
ما ضاق بالنقد اللطيف تواضعا
وغدا له خفض الجناح مثالا
أدى الرسالة باذلا من جهده
للدين والدنيا فصال وجالا
ولذا التقاعد للإمام خسارةٌ
قصر الزمان بشيخنا أو طالا
إن جاز هذا في الوظائف كلها
إني لأحسبه لديه محالا

وإن هذا الطرح لا ينفك بحال عن تجديد الخطاب الديني، فإن هؤلاء الأئمة ممن بلغوا السن القانونية للإحالة إلى المعاش هم مشاعل للنور والهداية في المجتمع، بما لديهم من حس إيماني مستنير وبصيرة دينية راشدة، وعلم بأمور الدين وقضايا المجتمع وشواغله، إضافة إلى ما لهم عند الناس من تقدير واحترام وتثمين لدورهم وقناعة بما يصدر عنهم من نصح وتوجيه؛ لأن مصادرهم التي يمتاحون منها قائمة بالأساس على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الصحابة والتابعين والصالحين وأهل العلم والتقوى، فالناس لذلك يتلقفون بإذعان ما يصدر عن هؤلاء برحابة صدر وسعة أفق واطمئنان إلى ما يوجهون به، وحين يكون هؤلاء ممن تلقى علمه في مؤسسة عريقة لها تاريخ عظيم في حمل رسالة الإسلام إلى الدنيا كلها، وأعني بها مؤسسة الأزهر الشريف فإن ذلك يكون محل اهتمام وعناية من جماهير المتلقين؛ لأن ثقة الأمة في الأزهر غير محدودة.

فأرجو أن ينال هذا الطرح من معالي وزير الأوقاف ما يستحق، ففيه إكرام لحملة الرسالة الدعوية من ناحية، ومن ناحية أخرى فيه دفعة قوية للخطاب الديني، ودعم له من داخله بإحدى أدواته القائمة، المشهود لها بالثراء العلمي والخبرة الدعوية الطويلة، التي يرجى لها أن تمتد لأعوام.