الأحد 18 اغسطس 2024

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الأول «والدة عصامية» (7-7)

جرجي زيدان

ثقافة7-8-2024 | 14:27

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.

يتناول الفصل الأول من هذه المذكرات، أصل أسرته، وعصامية والده ووالدته، وما كانا عليه من جد ونشاط، على الرغم مما أحاط بهما من ظروف قاسية.

الفصل الأول: والدة عصامية

وكانت والدتي واحدة من أولئك، وهي قوية البنية، صحيحة العقل، دقيقة الإحساس، كتومة قليلة الكلام، كثيرة العمل، لا تهدأ ليلا ولا نهارًا، للقيام بكل ما تقدم من لوازم البيت، خصوصا لأن والدي لم يكن يعود إلى البيت ولا يرى أولاده إلا وهم نيام، لأن شغله في المطعم كان يشغله من الصباح الباكر إلى منتصف الليل كل يوم، لا أحد عنده ولا عيد، فلم يكن يستطيع مساعدة والدتي في تربية أولادها، ولعل أكثر متوسطي الحال في ذلك العهد كانوا على نحو ذلك، وأن كنت أجد والدتي أكثرهن نشاطًا وعملا فقد كانت عائلتنا مؤلفة من سبع أنفس أو ثمان، هي وحدها مديرتها بكل ما تحتاج إليه العائلة من طعام ولباس ووقاية وتربية.

وقد رأت في وقتها متسعًا للاتجار وهي في بيتها، من ذلك أنها رأت والدي يبتاع الخبز لأجل مطعمه من الخبازين، وعلمت طبعا أن هؤلاء يكسبون بهذا العمل، فعرضت عليه أن تخبزه له وتبيعه بسعر الخبازين، فعلت ذلك عدة سنوات، واقتصدت منه دنانير قليلة كانت تنفقها في الضرورات، وكانت تشغل فراغ وقتها أحيانا فى تطريز "العرقيات" و"تسليك الحرير" أو غير ذلك، لا تجد في ذلك تعبا ولا عيبا.

نشأت في صباي وأنا أرى والدي يخرج إلى دكانه من الفجر، ولا يعود إلا نحو نصف الليل أو قبيله، وأرى والدتي لا تهدأ لحظة من الصباح إلى المساء، لا تعرف الزيارات ولا الاحتفالات ولا المجتمعات حتى الدينية، فإنها لم تكن تذهب للصلاة في الكنيسة إلا نادرًا، وإنما همها تدبير بيتها وتربية أولادها، شببت على ذلك وآلفته، فغرس في ذهني أن الإنسان خلق ليشتغل، وأن الجلوس بلا عمل عيب كبير، بخلاف الأبناء الذين يفتحون أعينهم على والدين يقضون معظم أيامهم في اللهو وشم الهواء، ولا يهمهم إلا ماذا يأكلون وماذا يشربون، وإذا فرغوا من الطعام عمدوا إلى اللعب بالورق وغيره يقتلون الوقت، ولا يقدمون على العمل إلا مكرهين، يحسبون العمل عيبا أو تعبا، ولو عولوا عليه لكفاهم مؤونة المرض والضعف، فالأبناء الذين يربون بين أولئك الآباء لا غرو إذا شبوا كسالي، ومالوا إلى الملاهي والرذائل.