الأربعاء 7 اغسطس 2024

قصص دار الهلال النادرة| «الرهبان» قصة قصيرة لـ أنطون تشيخوف

الرهبان

كنوزنا7-8-2024 | 14:59

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر في 1 يوليو 1937، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة بعنوان "الرهبان" للكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، وهي قصة رمزية عن دير منعزل يعيش فيه رهبان في سلام وتناغم تحت قيادة كاهن موهوب، يزور الدير رجل من المدينة ويثير شكوك الكاهن حول حياتهم المنعزلة.

نص القصة

كل ما يجري اليوم صباحا ومساء، كان يجري في أثناء القرن الخامس عشر: فكانت الشمس في بدء النهار تشرق من مستقرها، وفي نهايته تأوى إلى مضجعها، وإذا ما أشرق الصباح ومس ضوءه الندى، صحت الدنيا مرحة منتشية، وتبدت الحياة بهيجة مستبشرة، حتى يقبل الليل فتتبدل الدنيا الصاخبة الضاحكة دنيا هادئة واجمة ظلماء، وكانت السماء تغيم من آن لآخر بسحائب قائمة كثيفة، أو تدوي برعود قاصفة هائجة، أو تقذف ببعض شهبها إلى الخلاء، أو كان يقبل أحد الرهبان إلى الدير راكضا لاهثا لينبيء إخوانه عن ذلك النمر الضاري الذي رآه يتربص بهم عن كثب، هذا كل ما كان يجري حينذاك، فكانت الأيام تتوالى على نسق واحد، تتبعها الليالي متشابهة متماثلة

أما رهبان الدير فكانوا يمضون سحابة النهار وزلفا من الليل في العمل والصلاة، بينما ينصرف رئيسهم الكاهن إلى عزف الناي ونظم الأغاني وتأليف الموسيقى، وكان الرجل على ملكة فذة، وهبة نادرة، فقد مهر وأفتن في عزف الناي حتى إن الرهبان المعمرين الذين ضعف سمعهم لطول ما أنصتوا، كانوا لا يملكون حبس دموعهم المنهمرة كلما مس آذانهم صوت الناي المنبعث من صومعة الكاهن، أما إن تحدث فما كان في وسع أحد يصغي إليه إلا أن يفتر ثغره عن بسمة بهيجة، أو أن تذرف عينه عبرة سخينة، حتى ولو كان موضوع حديثه تافها مألوفا، ذلك إن نبرات صوته كانت تنبعث من قرارة نفسه حيث تنبعث أنغام الناي، فتنفذ كلماته إلى صميم الروح حيث تنفذ الموسيقى الشجية الحنون، وسواء أكان الكاهن يتميز غيظا وحنقا، أم يضطرب فرحا وطربا، وسواء أكان يتحدث عما يفجأ ويروع، أم عما يستخف ويزدهي، فثمة شعور عنيف دافق كان يتملكه ويسيطر عليه، فإذا بعينيه الموقدتين تسفحان شئونهما، وإذا بوجهه المشرق تتجهم أساريره، وإذا بصوته الوادع اللين يدوي كالرعد القاصف.. فيحس الرهبان أن الكاهن قد امتلك أرواحهم وصرف وجهتها إلى حيث يشاء، ففي هذه الفترات الرائعة المهيبة لم يكن هناك ما يصد تيار قوته الدافق، فلو أنه أمر الرهبان المعمرين أن يلقوا بأنفسهم في اليم، لنهضوا إليه سراعا خفافا، طوع أمر رئيسهم ووفق إرادته

وهكذا كان غناؤه الآسر، وصوته النافذ، وأشعاره التي يرتلها صلاة وابتهالا، نبعا يستقي الرهبان من فيضه مرحهم ورضاهم، على أن هذه الحياة الراضية الهانئة لم تخل من فترات تراءت لهم في أثنائها الأشجار الظليلة عارية، والأزهار الناضرة ذاوية، والربيع البهيج خريفا كثيا، وتمثل لهم خرير الماء صحبا وقصفا، وتغريد العصافير نعيقا وعواء، ومع هذا فأنهم في غضون هذه الفترات التي كانت تصد أنفسهم وتثقل أرواحهم بهمومها، كانوا لا يجدون بدا من سماع أناشيد الكاهن وأحاديثه، إذ لا صبر لأرواحهم على افتقاده، إلا كصبر الأجسام على افتقاد الخبز والماء.. ومرت عشرون سنة على هذه الوتيرة، فلم يشذ فيها يوم واحد على نسق سائر الأيام، ولم يشهد أهل الدير في عرض هذا الخلاء سوى الوحوش الكاسرة والطيور الجارحة، إذ كان أقرب بيت إلى الدير يبعد بمسيرة أيام وسط الصحاري والقفار، حيث لا يغامر إلا أولئك الذين لا يقيمون للحياة وزنا، لأنهم أنكروها وازدروها وودوا الخلاص منها، فهجروها إلى هذا الدير كما يهجرها الموتى إلى القبور..

لهذا دهش الرهبان دهشة بالغة حين فوجئوا ذات ليلة برجل غريب يطرق أبوابهم، وقد وفد عليهم هذا الرجل من تلك المدينة النائية التي لا يسكنها إلا أولئك الذين يحبون الحياة حبا جما، فيجترحون في سبيلها شتى الخطايا والآثام، ويستبيحون مختلف المعاصي والذنوب، وقبل أن ينبس الرجل بكلمة دعاء أو صلاة، وقبل أن يلتمس من الكاهن أن يباركه كما جرت العادة، طلب إليهم أن يأتوه بطعام وخمر، ولما سألوه كيف اجتاز هذه الآماد وسط الفلاة القاحلة، قص عليهم قصة طويلة خلاصتها أنه ترك المدينة إلى الصحراء في التماس صيد الحيوان، ولكنه أسرف ذات يوم في احتساء الخمر حتى غاب عن رشده فضل الطريق.. ولما اقترحوا عليه أن يظل في ديرهم حيث يطهر ويتوب، ويتخذ حياة الرهبنة البريئة السامية، أجابهم باسما ساخرا هازئا: "كلا فلست منكم، ولست على رأيكم!!" وراح يلتهم الطعام التهاما، ويعب الخمر عبا، فلما امتلأ شبعا وريا نظر إلى الرهبان الذين يقومون على خدمته، وهز رأسه هزة الهزء والتأنيب، وقال لهم:

"أي عمل تؤدون أيها الرهبان؟ أليس كل ما يعنيكم هو ما تأكلون وتشربون؟ فهل هذا هو الطريق الذي يعصم القلب ويطهر الروح؟! فكروا معي مليا ترون أنه بينما تعيشون أنتم هنا راضين آمنين، تأكلون وتشربون، وتغنون وترتلون، وتحلمون بالجنة والنعيم، يعيش أخوان لكم في تلك المدينة عيشة الذنوب والآثام التي تشقيهم وتضنيهم في الحياة، ثم تلقى بهم في الأخرى في سواء الجحيم.. انظروا ماذا يجري في المدينة ترون ناسا يموتون جوعا وعريا، وناسا لا يدرون كيف ينفقون ذهبهم وفضتهم، فينغمسون في اللذائذ والمعاصي، ويعلقون بها إلى أن يموتوا في حماتها كما يعلق الذباب بالعسل إلى أن يموت فيه.. فليس لهؤلاء ولا لأولئك إيمان يعمر قلوبهم، ولا فضيلة تظهر أرواحهم، فمن الذي يجب عليه أن ينتشل هؤلاء من الوحدات التي تردوا فيها.. أيجب عليّ أنا الذي يمضي الليل كله ينهل الكؤوس، كي يظل طول النهار ذاهلا مخمورا؟؟ وهل منحكم الله إيمانا ثبتا وقلوبا طاهرة، وغرس فيكم الحب والرضا والتواضع، كي تحبوا أنفسكم وسط أربعة جدران صماء، حيث لا هم لكم إلا الأكل والشرب والنوم!"

وقد تطاول رجل المدينة السكير على الرهبان بكلمات زرية شائنة، ومع هذا فإن حديثه كان ينفذ إلى قلب الكاهن فيضيئه ويثيره، وراح الرهبان يتلفت بعضهم إلى بعض في حيرة ودهشة من أمر هذا الرجل ومن أمرهم، حتى رفع إليهم الكاهن رأسه وقد علت وجهه الصفرة والشحوب وقال: "إنه على حق يا أخواني! فالواقع أن الإنسان قد قذف به الغباء والعجز والقصور في حمأة من الآثام والذنوب، ومن الريب والشكوك، تغمره وتفرقه وتودي به.. بينما نحن هنا لا نلقي بالا إلى أولئك الضالين، كأن الأمر لا يهمنا ولا يعنينا.. فلماذا لا أدع الدير وأقصد إليهم كي أذكرهم بالمسيح الذي نسوه؟"

وهكذا نفذت كلمات الرجل إلى عقل الكاهن فأقنعته، فما أن أصبح اليوم التالي حتى حمله عكازته وودع أخوانه واتخذ طريقه إلى المدينة، تاركا الرهبان وراءه بغير أناشيد أو أحاديث أو موسيقى تطربهم وتشجيهم..

ومر عليهم شهران نفد في أثنائهما صبرهم على فراق الكاهن، حتى إذا انتهى الشهر الثالث سمعوا عن بعد صوت عصاه تدق الأرض دقاتها الوثيدة المألوفة، فخفقوا سراعا للقائه، وراحوا يسألونه عما جرى.. ولكن ما جرى لم يكن خيرا فيسمعهم أنباءه، بل لم يستطع أن ينظر إليهم إلا بعين عبرى باكية، دون أن ينبس بكلمة أو يلقى جوابا، ورأى الرهبان أن الرجل قد شحب وجهه ونحل بدنه، وأضناه الجهد وأذواه الأسى، فارتسمت على محياه شتى علائم الهموم والآلام التي كانت تضطرم من حناياه.

وكانت دموعه المنهمرة على وجهه المرتجف دلالة واضحة على أن الرجل قد أصيب في صميم روحه إصابة بالغة أليمة.. ولم يتمالك الرهبان أنفسهم أمام رئيسهم الباكي، ففاضت عيونهم بالدموع، وعلت أصواتهم بالبكاء، وهم يستوضحونه سبب همه وأساه، ولكن الرجل لم يجبهم بكلمة واحدة، بل تركهم إلى صومعته حيث سجن نفسه خمسة أيام سويا، لم يذق في أثنائها طعاما ولا شرابا، ولم يسمع له فيها كلام أو غناء، ولما طرق الرهبان بابه ورجوه أن يخرج إليهم عسى أن يشاطروه حمل همومه، كان رده عليهم صمتا عميقا محيرا..

وأخيرا خرج الكاهن من عزلته إلى الرهبان الذين اجتمعوا حوله واجمين خاشعين، فجلس وسطهم، وهو متجعد الأسارير مرتجف الأوصال، وراح يقص عليهم قصة ما لاقاه خلال هذه الأشهر الثلاثة، وقد بدأ الرجل حديثه بصوت وادع هادئ، وهو يصف لهم رحلته من الدير إلى المدينة وسط القفار، ثم تهلل وجهه وأشرقت أساريره وهو يذكر لهم ما رآه بعد أن اجتاز البيداء من طيور تصدح وجداول تجري، كانت تبث في نفسه آمالا حلوة بهيجة، وتشعره بأنه جندي مقبل على معركة حامية كتب له فيها النصر المؤزر، فسار في طريقه قدما، يؤلف الأشعار ويرتل الأناشيد ويحلم بما سيؤديه للإنسانية من خير جزيل، ولكنه لم يكد يبلغ المدينة حتى تبدد حلمه إثر ما سمع وما رأى..

وهنا اضطرب صوته وارتعد، وأبرقت عينه واتقدت، واضطربت نفسه بورة الغضب والغيظ، حين راح يتحدث عن المدينة وأهلها.. إنه لم ير من قبل بل ولم يتخيل أبدا أن في العالم شيئا مما لقيه في هذه المدينة، فقد أدرك لأول مرة في حياته، بعد أن بلغ من الكبر عتيا، ما للشيطان من القوة والسطوة، وما للعسف من المجد والفخار، وما للضعف والجبن والضعة من السيطرة على الإنسان والاستبداد بتفكيره وشعوره

وقد شاءت المصادفة أن يطرق أول ما يطرق بيتا من بيوت النكر والرذيلة، فرأى جمعا من الناس يناهز الخمسين فردا، ينفقون المال عن سعة، فيما يجرعونه من الخمر طول الليل، وقد انعقدت فوق رؤوسهم سحائب الدخان، وراحوا يضجون ويصخبون ويغنون، ثم صاروا لا يتهيبون إلقاء كلمات بذيئة شائنة أليمة، لا يجرؤ على أن يفوه بها رجل يخشى الله حقا... وقد كان الجميع أحرارا طلقاء في حركاتهم وكلماتهم، فما يصدهم عما هم فيه خوف من الله، ولا من الموت، ولا حتى من الشيطان.. فما كانت تخطر لهم أية كلمة إلا ألقوها مهما بلغت من القحة والبذاءة، وما  كان يتراءى لهم أي عمل إلا أقدموا عليه مهما كان وضيعا دنيئا، إذ لم يكن يعنيهم سوى أن يلبوا نزواتهم الطائشة، ويحققوا رغائبهم الخسيسة، أما الخمر فكانت تتألق في كؤوسها كالضوء اللامع، وكانت ولا شك سائغة شهية زكية الرائحة، فما يرشف الواحد منهم رشفة منها حتى يتهلل بشرا وفرحا، فإذا به ينهال عليها رشفا وعبا، كي يزداد اشراقا وابتهاجا، وكأنما كانت الكؤوس تبسم لشاربيها وتضحك، وكأنما كانت تدعوهم إليها وتجذبهم، وكأنما كانت الخمر تدرك ما يكمن في قطراتها من إغراء وإغواء

وهنا ثارت عواطف الكاهن ومشاعره، فاضطرب صوته بكاء ونحيبا، وراح يتم وصفه البليغ لما رأى وسمع في المدينة، فقال إنه رأى وسط هذا الجمهور الحاشد في ذلك البيت، امرأة فوق إحدى المناضد عارية إلا من غلالة رقيقة وأنه لعسير على المرء أن يتصور ما هو أبهى وأبهر وأفتن وأسبى من هذه المرأة، فهي شابة في ربيع الحياة، ساحرة العينين، ممتلئة الشفتين، ناصعة الأسنان، مسدلة الشعور، حتى ليكاد كل ما فيها يهتف ويصيح بالناس: "انظروا إليّ، لتروا مبلغ جمالي وفتنتي.. وانصتوا لي لتسمعوا أصوات تبذلي وبذاءتي!!" وكان يكسو صدرها الغض ثوب رقيق من الحرير الموشى، تتدلى فنائله الناعمة حول أعطافها فتبرز حسنها وفتنتها للعيان، وكانت المرأة لا تدرك شيئا اسمه الخجل أو الحياء، فقضت الليل كله تسكر، وتغني، وترقص، وتبذل نفسها لأولئك اللاهين العابثين

وراح الكاهن يلوح بذراعيه مغيظا محنقا، وراح يتم حديثه عما رأى من الملاهي والمباذل من مسارح ومراقص، ومن دور الميسر وحلبات للرهان، ومن متاحف للفن تعرض فيها تماثيل فاضحة للنساء العاريات، مصنوعة من المرمر الناصع اللامع، وكان الكاهن يتحدث في بلاغة آسرة، ولهجة نافذة، كأنما كان يوحى إليه بهذه الكتابات القوية، التي كانت أشبه شيء بأنغام ناي لا يرى.

فجلس الرهبان حوله ينصتون إلى صوته ونبراته في شغف ولهفة، حتى ليخيل للمرء أن حديث الكاهن قد انتابهم بنشوة وذهول، ولما انتهى الرجل من حديثه عن سطوة الشيطان وأعوانه، وضعف الإنسان وأهوائه، وعن هذه المباذل التي ينغمس فيها الرجال والنساء معا، راح يلعن إبليس ويسبه، ويحذر زملاءه شره، ثم تركهم وعاد إلى صومعته.. وقضى ليلة قائمة عابدة، حتى إذا أقبل الصباح خرج من صومعته فلم يجد أحد بالدير.. نعم! كان الرهبان جميعا قد اتخذوا طريقهم إلى المدينة!!..