الأحد 18 اغسطس 2024

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الثاني «مع المعلم إلياس» (7-1)

جرجي زيدان

ثقافة11-8-2024 | 15:47

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.

ويروي جرجي زيدان في الفصل الثاني قصة السنين الأولى في حياته الدراسية وما تخللها من ظروف وملابسات ومشاهدات، وما تلاها من اضطراره إلى ترك المدرسة لمساعدة والده، ومحاولاته تعلم صناعة من الصناعات فترة من الوقت، وما كان للقصص الشعبية من أثر في نفسه، وماذا كانت عليه الآداب العامة في بيروت في ذلك الحين، وهو يصف ما شاهده من ذلك بأسلوب يمتاز بالبساطة والصراحة والإيمان بالنجاح.

الفصل الثاني: مع المعلم إلياس

كان والدي أميا، لكنه شعر بالحاجة إلى الكتابة والقراءة بعدما فتح دكانه، وكان من زبائنه من يحاسب شهريًّا أو أسبوعيًّا، فكثرت عنده الحسابات الجارية، فكان في بادئ الأمر يقيد ذلك بيده أرقامًا تعلمها، ويترك اسم المدين للقرينة والذاكرة، ثم وكّل التقييد إلى من استخدمهم في دكانه، فحملته حاجته إلى الكتابة على أن يبدأ بتعليمي القراءة مبكرًا، فأرسلني إلى المدرسة وأنا في الخامسة من عمري عند معلم اسمه إلياس أو «جرجس» شقيق قسيس عائلتنا الخوري موسى.

وكان العلم إلى ذلك الحين ما يزال محصورًا فى رجال الكنيسة أو من ينتمي إليهم، ولا يتبادر إلى الأذهان أن المعلم إلياس كان عالمًا، فإنه يكاد لا يحسن القراءة في الإنجيل، وكانت مدرسته لا تزيد عن قبو واسع في بناية ليعقوب ثابت، بجوار مدارس اليسوعيين، ثم صار القبو فرنًا بعد ذلك، فكان أشبه بالزريبة منه بالمدرسة، يجتمع فيه أبناء أهل الحي، من سن الرابعة إلى العاشرة، ذكورًا وإناثًا، يجلسون على حصير أو حصر، بسطها في أرض القبو، ويجلس هو في صدر القاعة، وبين يديه صندوق صغير يدعى (باشتختة) يضع عليه كتابه ودواته وأقلامه، ويجمع إلى يمينه عدة قضبان من العصى تختلف طولًا ودقة، يستخدم كلا منها في محله، حسب سن الولد وجنسه وبعده منه وقربه.

وأذكر أني كنت أتعلم عنده القراءة في المزامير، وهو أول كتب القراءة يومئذ بعد الهجاء، فكنا نحفظ المزمور من كثرة تكرار قراءته ونحن لا نفهمه، والقاعدة أن نقرأ بصوت عال، وهو ما يعبر عنه بالتسميع، وربما قرأ إثنان أو ثلاثة معًا، والمعلم جالس متربعًا وراء صندوقه، ورأسه يكبو على صدره من النوم، وشخيره يخالط أصواتنا، وكلما اشتد الضجيج استغرق في النوم، وحينما تتعب رقبته من التدلي، يلقي رأسه على الحائط، ويرفع رجليه على الصندوق بحيث يواجه أخمصاه وجوهنا، ونحن لا نبالي به، فاذا أخذ غفوة، أو حدث ما يوقظه، فتح عينيه وصاح ببرود: «اسكتوا يا أولاد» فإن لم يسكتوا، تحرك وتناول أحد القضبان وضرب بها أقرب الأولاد إليه، وإن لم يكن مذنبًا، فيصيح ويضحك الباقون منه، فيتناول قضيبًا أطول يضرب به سواه.

وقد يهم بالنهوض عند مسيس الحاجة، ويقبض على المتمرد من الأولاد، ويلقيه على الأرض، ويستعين بخادم أو غلام كبير وضع الفلق في رجله، أو وضع رجليه في الفلق، ثم يصفعه على أخمصيه عشر ضربات أو عشرين، أو أكثر أو أقل على ما يتراءى له.

والفلق أداة للقصاص أصبحنا في حاجة إلى وصفها الآن، لأنها زالت من المدن المتمدنة، وهي عصا غليظة، قد شد إليها حبل يتصل طرفاه بطرفيها، ويبقى وسطه مرخيا، ويمسك بالطرفين إثنان يدخلان قدمي الغلام بين الحبل والعصا، ويديران العصا، فيلتف ما زاد من الحبل عليها، وتنحصر القدمان، فيرفعانهما والغلام مستلق على ظهره، فيأخذ المعلم بالضرب على الأخمصين بالعصا.

لا أذكر أني ذقت طعم هذه الآلة في المدرسة، ليس لفضيلة فيّ، ولكنني كنت كثير الخجل، شديد الخوف من العقاب، أحب الابتعاد عن أسباب الشحناء.. كنت أشعر بهذا الخلق في نفسي منذ طفولتي، فكنت أبتعد عن كل ما يغضب المعلم، أو يبعثه على انتهاري أو ضربي.

قضيت في تلك المدرسة سنتين على ما أظن، حتى قال المعلم لوالدي: إن جرجي قد ختم درسه وصار يفك الحرف فسرّ والدي سرورًا كثيرًا، ومعنى ختم القراءة إني صرت أعرف أقرأ المزامير جيدًا، وهذا صحيح، كنت أقرأ جيدًا، لكنني لم أكن أفهم ما أقرأ.