الجمعة 16 اغسطس 2024

الصيف والبحر والحب ثلاثية الجسد والروح

مقالات15-8-2024 | 14:39

يحتل الصيف مكانة كبيرة في نفوس الشعراء، لما يتمتع به من رحابة النهار، وسعة وقته، وجمال لياليه. ففيه يحلو السهر بين الأصدقاء والأهل والأقرباء والجيران، وفيه يكتسب البحر سحرا لا يقاوم، وفوق رماله تبنى القصور. فالطبيعة في الصيف تتزين بصفاء السماء وأشعة الشمس وجمال البحر، و”إن السماء تبكي بدموع الغمام، ويخفق قلبها بلمعان البرق وتصرخ بهدير الرعد، وإن الأرض تئن بحفيف الريح وتضج بأمواج البحر، وما بكاء السماء وأنين الأرض إلا رحمة بالإنسان، ونحن أبناء الطبيعة فلنجارها في بكائها وحنينها”وقد جارى الشعراء بكاء السماء وأنين الأرض في فصل الصيف فقال محمد الأسمر  

إن بين السماءِ والبحرِ بالمصطاف قربا يُحير الأفهاما

فكأنَّ السحابَ موجٌ تسامى وكأنَّ الأمواجَ سحبٌ ترامى

ولقد تحسبُ الغمامَ سفينا ولقد تحسب السفين غماما

ثم لا تعدم العيون على الأمواج شمسا بها وبدرا تماما

ونجوما من العذارى وشهبا من لِحاظِ الحِسَانِ تهوى سهاما

ويتجلى سحر البحر إذا وقفت على الشط تتأمل الخالق سبحانه وقد أوحى بيانه للناس وللشعراء والرسامين والمصورين يصورون الجمال نابعا من كل حدب وصوب، فيقول الأسمر في ذلك:

قف على الشط وقفةً وانظر

البحر تجده بما على الشط هاما

وانظر الموج كلما أبصر

الغيد ترامى يقبل الأقداما

جلّ من أودع العيونَ من السـ

ـــــــحر فنونا وصوّر الأجساما

لا عدمتُ المصطافَ أسعى إلــــــــ

يه أستمد البيان عاما فعاما

وللرافعي في البحر وجماله وسحره واصطخابه وحركته لمسة دينية تأملية نابعة من أعماق حسه الديني؛ فالشاعر يرى أن صخب البحر وارتفاع عبابه وتقلبه موعظة يتعظ بها الناس، وضجة البحر ليست غير إنذار ونذير للناس، وهي رؤية غير التي يراها الشاعر محمد الأسمر الذي يرى في البحر والمصطاف وحيا يوحي بالجمال والمتعة والحركة والنشاط بما يضفيه على الحسناوات من زيادة المتعة وجمال المنظر، بينما يرى الرافعي أن نشاط البحر وتقلبات أمواجه ما هو إلا إنذار للبشر وموعظة حسنة، وآية من آيات الله في الأرض  فيقول: 

يا أيها الناسُ إنَّ البحرَ موعظةٌ

وضجّةُ البحرِ ليستْ غيرَ إنذارِ

فكم عليكم بهِ للهِ من حججٍ

هل يغفرُ الذنبَ إلا بعدَ أعذارِ

البحرُ ألين شيءٍ ملمساً فإذا

خاشنتموهُ بلوتمْ أيَّ جبَّارِ

ولو تساندَ كلُّ الخلقِ ما قدروا

أنْ يحبسوا موجةً من موجه الجاري

فكيفَ يُجحدُ ربُّ البحرِ قدرتهُ

وذلكم أثرٌ من بعضِ آثارِ

آمنتُ باللهِ ما شيءٌ أراهُ سُدى

لكنها حكمٌ تجري بأقدارِ‬ 

يرى أمل دنقل في عيون البحر عيون محبوبته، فكما يطفئ موج البحر حرارة الجو الملتهبة، تطفئ عيون المحبوبة حرارة جوف المشتاق، وكيف يبحر فيهما ولها ويبني زورق الحب الظامئ لهاتيك العيون المضطربة.فيقول:‬‬

العينان الخضراوان

 مروّحتان

في أروقة الصيف الحرّان

سنتان

 وأنا أبني زورق حبّ

 يمتد عليه من الشوق شراعان

كي أبحر في العينين الصافيتين

 إلى جزر المرجان

ما أحلى أن يضطرب الموج!

 فينسدل الجفنان

وأنا أبحث عن مجداف عن إيمان!

في الصيف تزدهر الأشجار وتعانق أكباد السماء، وتطاول أعناقها، وتزدهي بالأوراق بيد أن للشاعر المدني عبد السلام هاشم حافظ قصيدة بعنوان “الأشجار الحزانى” حيث هي تصوير لطبيعة حية نابضة بالحياة، وقد اتخذ من شجرة (الصفصاف) التي وصفها بالشجرة الحزينة، استنادا إلى انحناء أغصانها إلى الأرض، فقال عنها: 

 تَدَلَّـتْ شُعُورُكِ لِلأرْضِ شوقــاً لأصلكِ أم خجـلاً من رفيقة؟

  وما أمْـرُ سِرِّكِ بيـــنَ الرفــاق 

منَ الشَّجَرِ المنتشي يا صديقةْ؟

غصونُـكِ تحنـو على بعضِهــا 

وتدنو تُلامــسُ ظِـلَّ الحقيقــة

وتروي انحناءتُهـا هَمْـسَ حُبٍّ 

ونجوى ابتهالٍ وذكـرى عميقـةْ

تَراها منَ العِشْقِ أدنتْ ذُرَاهـا 

يُعَانقُ فيها مشــوقٌ مشــوقَةْ ؟

أم الدمـعُ غالبَهـا في هَوَاهــا 

فأرْخَتْ ذَوَائبهــا للحديقة ؟))

فالقصيدة برمتها صورة لهذه الشجرة التي تدلت أغصانها في شوق وشغف إلى الأصل، وقد يكون انحناءً ينم عن خجل واستحياء، وفي كلٍ تبدو الشجرة في صورة حزينة تتآزر في حزنها عناصر الطبيعة الأخرى، فللرياح صفير (كأن الصفيرً أنين الجراح)، وقد وجد الشاعر متنفسا لحزنه وبثَّ في مظاهر الطبيعة - ممثلا في شجرة الصفصاف – شكواه فحلت مشاعره الحزينة في الشجرة الحزينة، فلم نستطع أن نفرق بين الحزنين، حزن الشاعر وحزن الطبيعة. فالشجرة الحزينة هنا تجسيد لمشاعر الحزن لدى الشاعر، وليست وصفا عاريا من مشاعر ذاتية للشاعر. 

ونحن في مجال عرض الصورة الوصفية في شعر عبد السلام هاشم حافظ لا نستطيع إغفال صورة المرأة، محبوبة كانت أو قريبة. ولكن الأمر اللافت هنا أن الصورة الوصفية للمرأة احتلت حيزا كبيرا من شعره؛ لأنه شاعر رومانسي، قدّر المرأة قَدْرَها، ورأى فيها ملاذا من نأمة الحياة وقتامتها، ومن ثم قلّت الصورة الوصفية للطبيعة إذا ما قورنت بصورة المرأة.

وللشاعر أيضا في وصف البحر وجمال الحسناوات الحوريات فوق شطآنه ورماله قصيدة بعنوان”سندريلا على البلاج” يصف فيها جمال الحسناء وفاتنة الدنيا فيقول وقد اتخذ من جلسته على الشاطئ المعطر بعطرها مجلسا يرى فيه جمالها ودلالها وسحرها: 

ماذا أرى ؟ حـــــــــــوريةٌ مِنْ جَنـــــَّةِ الفِرْدَوْسِ قَدْ هَبَطَتْ لنَــا ؟

في الشَّطِّ تحتضِنُ الرِّمَالَ وتسْكُبُ السِّحْرَ المعطَّــرِ حَوْلَنـا

والبحرُ سَكــــــْرانٌ.. يراقِصُ مَوجَةَ الجــسدِ البديعِ معَ السَّنا

يا شاطئَ الأَحْــــــلامِ رِفقــاً بالجــــــــمَــالِ، وفتنـــــــــةُ الدُّنــــيا هُنَا

ولا يتحرج الشاعر في وصف (البلاج) وقد غدا أنشودة غنت بها للحسن والشطآن آلهة الخيال فقال: 

 هذا البلاجُ غدا مشَاعِرَ عاشِقٍ فَنَّان يَنْظِمُ في الجمالْ

أنشودة غنت بها للحسن والشطـآن آلـهــة الخـيــال

وترنم الإحساس يدعو (سندريلا) للتناجي والوصال

من لا يود عناق هذا الطيف يغمر فيه أشواق الليال ؟

ولم يفته أن يصف الجسم البض وهو يتلوى دلالا وجمالا ويصف المايوه فوق الجسد في صورة حسية لا تخلو من نزق الشباب وفتنته الطاغية فيقول:  

يا هيكـــلَ الحســنِ البـَهِيِّ آثرتَ الخـواطرَ والحنـينْ

ولجسـمِكِ الفتـانِ ثورتُــه الطليقـةُ بالزوايا والفنــون

(مايوهك) العربيدُ يشْرَبُ منه كاسات المحبةِ في جنونْ

ومياهُ هذا البحرِ تشرقُ من ملامـسةِ الروائـعِ والفتونْ

يمتلئ إحساس الشاعر المدني بمفاتن الحسناء فلا يتورع عن وصف المفاتن قطعة قطعة، فيذكر الظهر العاري، والصدر الممتلئ، والساعدين والخصر المتأود، والحسن البهي، والشعر البليل، وقد غطى الجسد النابض بالفتنة بقطرات الماء..    

الظهرُ والصَّدْرُ الملــيءُ وساعـداكِ وخَصْرُك المتأودُ

ومفاتنُ الجسدِ الطَّرِيّ وحسنُكِ الباهي الذي يتجددُ

وَتموُّجُ الشعــرِ البلـيلِ وناظـراكِ وثغـرُكِ  المتــوردُ

رحماكِ هـذي كُـلُّهـا نـارٌ نشعللها، ويطفئـها الغـدُ

لم يأل الشعراء جهدا في إضفاء لمسات السعادة و مدارات الحبور  وحكمة العظة، ولحظات التأمل في آيات الله في مخلوقاته، فراحوا يخلعون على البحر قلوبهم وأرواحهم لتلتقي بملكوت الله تعالى حلولا واتحادا في نزعة أقرب ما تكون إلى الصوفية منها إلى الروح النزقة، والجسد الشارد، والشبق المارق، فهذا الشاعر البيومي محمد عوض ينزع إلى البحر نزعة صوفية فيها حلول واتحاد وفناء فيقول:        

أَنَا وَالبَحْرُ وَالسَّمَا وَحَبِيبِي

وَحَنَانٌ يَسْتَفْتِحُ الأَوْرَادَا

وَرَحِيلٌ فِي سِدْرَةِ الجَذْبِ حَتَّى

يَنْفَدَ البَحْرُ لِلْحَنِينِ مِدَادَا

فَاصْدَحِي يَا نَوَارِسَ اللهِ تَوْقاً

وَاشْرَحِي العِشْقَ خُلَّةً وَاتِّحَادَا

ويبدو أن الشاعر البيومي مولع بمزج المادي الحسي بالروحي الإيماني، فنراه يصوغ “كهرمان” بحس النزق المشتهي الجمال الفاتن في ثوب العفة والورع والطهر.. معادلة صعبة أجاد الشعر نسج طرفيها بلسان المفتون تارة، وروح الصوفي تارة أخرى، فانفجرت كهرمان من قمقم الجسد لتصعد إلى عليا السموات، وهي تردد:     

تَمَدَّدَ شَعْرُ اللَّوَافِحِ

مَسَّ القُلُوبَ الجَرِيحَةَ

غَنَّتْ لِمَنْ هَفْهَفَاتُ القَمِيصِ عَلَى شَاطِئِ البَحْرِ

وَالقَامَةُ المَلَكُوتُ تُرَتِّلُ شَجْوَ الأَمِيرَةْ؟

تَفُورُ وَتَغْتَسِلُ الزَّقْزَقَاتُ بِهَا

لِمَنْ قَمَرَا النَّغْمَتَيْنِ عَلَى رَمْلَةِ الوَجْدِ؟!

سْتَفْتِحَانِ مُرَبَّى البَنَاتِ

فَتَصْعَدُ شَكْوَايَ لِلرُّكْبَةِ المُسْتَثِيرَةْ!

وَيَمْرُقُ فِي الصَّمْتِ صَمْتُ الكَلِيمَيْنِ

نَهْوِي..

إِلَى مُعْصِرَاتِ الحَنِينِ

لِمَنْ فَاصِلُ الخَمْرِ وَالجَمْرِ 

وَالجَمْرِ وَالخَمْرِ ..

فِي اللَّفَتَاتِ الأَخِيرَةْ؟

تَأَكَّدَ لَفْحُ المَدَائِنِ

فَابْتَدِرِ البَحْرَ؛ إِنَّ السَّمَاءَ عَلَى حَافَّةِ الكَهْرَمَانِ

تُنَسِّمُ فَجْرَ نُهُودٍ صَغِيرَةْ!

نلاحظ أن الصيف لصيق الصلة بالبحر، وهما مثيران لقول الشعر عند الشعراء، واختلفت زوايا الرؤية لدى الشعراء، كما أوضحنا، ولكنهم جميعا اتفقوا أن الجسد عامل مشترك في كل قصائد الصيف والبحر، وقد تناولنا شعراء من الخليج ومن مصر على اختلاف توجهاتهم، في فترة زمنية ليست بالقصيرة، ومن جغرافيا مختلفة، شاعر المدينة المنورة عبد السلام هاشم حافظ، وشاعر القاهرة مصطفى صادق الرافعي ومحمد الأسمر وأمل دنقل والشاعر البيومي محمد عوض.     

ولم ينس الشعراء الحب وتجاربهم العاطفية، فخلعوا أقنعة الحب على محبوباتهم، وبدت المحبوبات فيهن من البحر سيماء صفاء العينين، وطبعوا صورة البحر وزرقته على عيون المحبوبات. 

السمة التي لم يغفلها الشعراء في أشعار الصيف والبحر هي التأمل في مخلوقات الله، بدءا من وجوه المحبوبات وعيونهن، كآية من آيات الله تضاف إلى آيات الله الكبرى كالبحر والسماء والناس. وقد جمع إيليا أبو ماضي هذه السمات أجمعها في قصيدة لوم وعتاب على من رأى كل هذا الجمال والفتنة الساحرة دون أن يتأثر ويستجيب لنداء الطبيعة فقال:  

عادَ لِلأَرضِ مَعَ الصَيفِ صِباها

فَهيَ كَالخَودِ الَّتي تَمَّت حُلاها

صُوَرٌ مِن خُضرَةٍ في نَضرَةٍ

ما رَآها أَحَدٌ إِلّا اِشتَهاها

ذَهَبُ الشَمسِ عَلى آفاقِها

وَسَوادُ اللَيلِ مِسكٌ في ثَراها

وَنَسيمُ الفَجرِ في أَشجارِها

وَشوَشاتٌ يُطرِبُ النَهرَ صَداها

وَالسَواقي فِتَنٌ راقِصَةٌ

ضِحكَتُها شَدوٌ وَتَهليلٌ بُكاها

وَالأَقاحي صُوَرٌ خَلّابَةٌ

وَأَغاني الطَيرِ شِعرٌ لا يُضاهى

إِنَّها الجَنَّةُ فَاِعجَب لِاِمرِئٍ

هُوَ فيها وَقَليلاً ما يَراها

أَيُّها المُعرِضُ عَن أَزهارِها

لَكَ لَو تَعلَمُ يا هَذا شَذاها

أَيُّها النائِمُ عَن أَنجُمِها

خَلَقَ اللَهُ لِعَينَيكِ سَناها