الخميس 29 اغسطس 2024

حياة نجيب محفوظ وأدبه

مقالات29-8-2024 | 19:20

في صيف القاهرة اللاهب غادرنا نجيب محفوظ إلى العالم الآخر، 29 أغسطس سنة 2006، بعد حياة حافلة وممتدة، ترك لنا أعماله يعاد طباعتها وتجد إقبالًا حتى اليوم، وراح إنجازه الأدبي يترسخ في أدبنا وثقافتنا المعاصرة.

وإذا كان ديستويفيسكى وتولستوى وبوشكين شكلوا ثقافة روسيا المعاصرة، فإننا يمكن لنا قول الشيء نفسه عن أسماء عديدة فى حياتنا، أبرزهم نجيب محفوظ.. وباتت أعمال نجيب محفوظ وسيلة لدى العديد من الجامعات والمراكز البحثية لدول العالم للتعرف على مصر المعاصرة، أذكر حين شرفت بتحمل مسئولية وزارة الثقافة أن واحدة من أكبر جامعات جنوب إفريقيا طلبوا أن نوفر لهم نسخة من كل أعمال محفوظ لأنهم بصدد تأسيس قسم خاص به وبأعماله، وتكرر هذا الموقف أكثر من مرة مع دول وبلدان أخرى.

ولابد أن ننظر بتقدير إلى تنافس دور النشر المصرية على الفوز بنشر أعمال محفوظ، وفى ذلك دحض لمزاعم أولئك الذين رددوا أن كتبه لم تعد مقروءة وأن الموجات الأدبية الجديدة أطاحت بمحفوظ من دنيا الاهتمام والقراءة، كما يجب الثناء على خطوة المجلس الأعلى للثقافة بإعادة دورية نجيب محفوظ التي يتولى تحريرها الناقد المخلص د.حسين حمودة، وهى دورية تهتم بنشر الدراسات النقدية حول أعمال محفوظ.. غير أننا نلاحظ ندرة فى الدراسات التى تقدم المزيد من المعلومات والإحاطة حول مسيرة محفوظ وحياته، لقد عاش محفوظ يفصل بين حياته الخاصة وأعماله الإبداعية، لم يكن يسمح لأحد بالاقتراب من خصوصياته وهذا حقه، فقد أعفاه ذلك من الضوضاء الشديدة التى تحدثها وسائل التواصل، فى زمنه كانت الصحف والمجلات وبعض البرامج الإذاعية، حول مسائل شديدة الخصوصية بالنسبة لبعض المشاهير، ونحن لا نعنى هنا الأمور الذاتية جدا حول محفوظ، لكن ما يتصل منها بإبداعه وكتاباته، على غرار ما فعله هو فى حواراته الممتعة مع الناقد الراحل رجاء النقاش وجمعها فى كتاب يعد مرجعا مهما إلى اليوم وغدا عن محفوظ.

منذ فترة قريبة انتهيت من قراءة كتاب "أبى فيدور ديستويفيسكى" وضعته ابنة ديستويفسكي عنه وقام بترجمته د. أنور إبراهيم، وهو نفسه الذى ترجم لنا من قبل كتاب زوجة ديستوفيسكى عنه وكذلك كتاب عشيقته، تقدم لنا الابنة سيلاً من المعلومات حول بعض الأعمال والأزمات التى عاشها ديستوفيسكى، وبعضها يمكن أن يقدم لنا المزيد من الإضاءة حول المناخ السياسى والثقافى والإنسانى الذي عاشه والدها.

بعض الوقائع والمعلومات، قد تبدو فى لحظة معينة نوعا من النميمة أو المكيدة الشخصية، وهذا كثير فى الحياة العامة، خاصة في المجال الثقافى والأدبى، لكن بعد مرور السنوات والأجيال، ناهيك عن أن أطرافها المباشرين يكونون فى ذمة التاريخ، تصبح تلك الوقائع جزءا من التاريخ، تاريخ الشخصية وتاريخنا العام.

ومن حسن الحظ أن حياة محفوظ خصبة وثرية، بها الكثير الذي يحتاج منا التوقف عنده، من ذلك أن محفوظ الذي فتن بشخصية الزعيم سعد زغلول، ومن بعده النحاس باشا، وكان ميالا إلى الوفد – لم ينضم طوال حياته إلى أى حزب – تعامل فى مراحل حياته، مع خصوم الوفد، بل إن معظم أساتذته كانوا غير وفديين أو معادين للوفد، الشيخ مصطفى عبدالرازق أستاذه فى الجامعة، درس له الفلسفة الإسلامية، وكان هو المشرف على رسالته للماجستير، التى لم يتمها، هو أيضا منحه فرصة العمل فى وزارة الأوقاف، كان الشيخ وزيرا واختار تلميذه ليكون سكرتيره البرلمانى وهو موقع حساس، يتيح له التعامل مع نواب البرلمان بمختلف أطيافهم، الشيخ مصطفى كان من أقطاب "الأحرار الدستوريين" خصوم الوفد، من أساتذته د.طه حسين، الذى لم ينضوى رسميا إلى حزب الأحرار لكن كان من أشياعه، وكان فى داخله رفض عميق لسعد زغلول بعد أحداث الثورة، وهاجمه عدة مرات، أما سلامة موسى فكان اشتراكيا، وهكذا.. هذه الصلات والعلاقات، منحت محفوظ قدرا من الرحابة والمرونة السياسية والإنسانية، لم يعرف الانتماء ولا الوجد الأيديولوجى، إن صح التعبير، وفدى الهوى والميل  لكنه يرى القوى والتيارات الأخرى ويعرف ما تتمتع به من ميزات وسجايا، وقد انعكس ذلك في العديد من أعماله، لم يسيطر على رواياته الصوت الواحد والرأي الأحادى، بل آراء متعددة وأصوات متباينة ومتعادلة، وفى النهاية يمكن للقارئ أن يستشف أو يستنتج انحيازات الروائى، تأمل مثلا "الثلاثية"، خاصة الجزء الأخير منها "قصر الشوق".

ويساعدنا محفوظ نفسه على فهم واكتشاف الكثير من الأمور فى أعماله، هناك أحاديثه الصحفية الكثيرة، كان الرجل حانيا وكريما مع الصحفيين، لا يرفض إجراء حديث أو حوار ، موجود فى أماكنه والمعروفة للجميع، يكفى أن تذهب وتطلب إليه الحديث، فيجيب.. أحاديثه العديدة بها الكثير من الآراء والحكايات والوقائع فضلا عن أن عدداً من أصدقائه ومريديه كتبوا عنه.

كان الأستاذ نجيب دقيقا فى تنظيم وقته وجلساته، موعد الوصول محدد بدقة وكذا موعد الانصراف، الأهم المواقع والمجموعات التى يجلس وسطها، يوم الأربعاء كان مخصصا لمجموعة الأصدقاء الأقرب إلى اليسار والفكر القومى، فى هذه الجلسة تسمع كلمة "الكيان الصهيونى"، يوم الأحد مخصص للمعجبين بالعولمة والمطالبين بالتطبيع فورا وعلى جميع المستويات مع إسرائيل، وكنت تجد أن هؤلاء وأولئك لا يتصافحون إذا التقوا، لكنهم جميعا يجلسون مع وأمام الأستاذ نجيب.

حدث ذات مرة أن قرر سعد الدين وهبة رئيس اتحاد الكتاب التحقيق مع عضو بالاتحاد متهما بالتطبيع، فصاح هذا الكاتب "إذن حققوا مع محفوظ" ورد سعد وهبة "محفوظ لم يذهب إلى إسرائيل، ثم إنك لست نجيب محفوظ ...محفوظ رمز كبير.

ولما فاز نجيب محفوظ سنة ١٩٨٨ بجائزة نوبل تعرض لبعض الإساءات وعانى مشاعر الغيرة والحقد من البعض، لكنه تفهم كل ذلك وتسامح مع الجميع بضحكته المجلجلة وابتسامته الودودة، قال لأحد المعتذرين "لم أسمع شيئا".

بعد نوبل نصَّب البعض أنفسهم أوصياء عليه أو متحدثين باسمه، لكنه أفلت منهم جميعا، وكان قادرا ببعض نكاته اللاذعة وضحكاته أن يردع كلاً منهم.. كانوا كثر ومن فئات شتى، بعضهم كانوا يتعاملون معه ثم يخرجون للتقول عليه، وكان يستشعر كل ذلك، لا يجرح أحدا لكنه لا يتهاون فى قضية أو موقف.. الكثير والكثير من مسيرته وحياته.

صحيح أن نجيب محفوظ، لم يدون سيرته الذاتية، مكتفيا بأحاديثه مع رجاء النقاش، لدينا كذلك كتابى جمال الغيطانى "نجيب محفوظ يتذكر" ثم "المجالس المحفوظية"، وهناك جلسات فندق شبرد، التى سجلها ونشرها علينا الزميل الدءوب، المؤرخ الأدبى الكبير إبراهيم عبدالعزيز، وهناك كذلك بعض أعمال محفوظ، مثل "أحاديث فترة النقاهة"، وقبلها "أصداء السيرة الذاتية"، والعنوان واضح أنها ليست سيرة بل أصداء وثنايا السيرة فى الذاكرة والوجدان.

وفى تصورى أن روايته "المرايا" -نشرت سنة ١٩٧٢- تمثل تاريخا أدبيا وإنسانيا لمحفوظ نفسه، ولمصر منذ ثورة 19 وحتى حرب الاستنزاف، يمكن للقارئ المدقق أن يتبين من الرموز أسماء بعض الشخصيات فى المرايا، وفيها تعبير واضح ومباشر عن كثير من الأمور والطبائع، فى العديد من المجالات.

فى المجال الأدبى، نجد فى "المرايا" نموذج "عباس فوزى"، ذلك الرجل الذى يحفظ عن ظهر قلب الكثير من التراث شعرا ونثرا، لكنه دائما يهون من شأن الناجحين والمفكرين رغم قصوره عن بلوغ ما حققوه حتى فى ميدانه، ويحتفظ دائما بمدخر لا ينفد من المعلومات التى تشكك فى مواهبهم، وتزرى بسلوكهم الشخصى، هذا نموذج احتك به محفوظ وعرفه عن قرب، لكن المؤكد أن حياتنا الثقافية تعرف مثل هذا النموذج دائما وفى كل مرحلة، هنا لا يهم حقيقة الاسم، ولا إلى من أشار محفوظ، المهم المعنى والنموذج.

فى "المرايا" يقابلنا سيد قطب "عبدالوهاب إسماعيل"، ونجد كذلك د.منصور فهمى، شخصية مستقلة "إبراهيم عقل"، ثم يتناثر الحديث عنه بين بعض تلاميذه فى فصول أخرى، "لم يبق منه إلا مرتزق من المرتزقة"، نموذج للمفكر الذى بدأ متمردا ومجددا، ثم انقلب على نفسه، وانضم إلى جوقة السرايا الملكية.

وتقدم لنا "المرايا" عدة نماذج نكتشف من خلالهم أنه أثناء ثورة 19 وحتى ثورة 1952، كان هناك تيار منحاز كلية إلى الإنجليز ويرى أن احتلالهم مصر نعمة كبرى، كان هؤلاء يتواجدون فى الوظائف العامة وفى الشارع، باختصار لم يكن "أمين عثمان" وزير المالية الذى تم اغتياله سنة ١٩٤٤ لانحيازه المطلق للإنجليز حادثة فردية، كان تعبيرا  عن صوت له حضور وإن لم يكن صاحب أغلبية، كثير من الدراسات التاريخية تنكر وجود هؤلاء، أو تتجاهلهم، لكن الأدب لم ينسهم، بل وضعهم فى حجمهم الطبيعى، فيما بعد – داخل المرايا - سوى بتواصل  وجود هؤلاء ، أثناء العدوان الثلاثى على مصر سنة 1956 وبعد هزيمة يونيه 1967.

كل هذا وغيره كثير يجعلنا نواصل المطالبة والإلحاح على ضرورة تأسيس مركز علمى وبحثى لدراسة أعمال وأدب نجيب محفوظ ، يكون مستقلا أو تابعا لإحدى الجامعات، ومن حسن الحظ أنه بات لدينا أكثر من مائة جامعة رسمية وخاصة وأهلية.

والأمل معقود أن يتم تنشيط متحف نجيب محفوظ، ولا يصبح كما قالت ابنته فى حديث صحفى مؤخرا مجرد "مخزن للكتب"، نريده مركزا ثقافيا حيا وحاضرا، وأظن أن الإدارة الجديدة بالوزارة وبالمتحف يمكنها القيام بذلك.