الخميس 29 اغسطس 2024

التراث الصوفي في روايات نجيب محفوظ

مقالات29-8-2024 | 19:27

يمثل التراث الصوفي اللغة التي تلفظ بها الصوفيون على مر العصور؛ مفردات وتراكيب ونصوصا؛ تعبيرا عن مكنونات نفوسهم وصلتهم بالذات العليا وعلاقتهم بالناس.

ولقد استقرت هذه اللغة وجودا؛ بحيث شكلت معينا لغويا خاصا بها، له مفرداته الخاصة ومصطلحاته المميزة ونسقه في التعبير.

ولقد وردت لغة التراث الصوفي (45مرة) في (15رواية) من روايات نجيب محفوظ دون (20رواية) .

والملاحظ من جملة الاستدعاءات:

1 - عدم ورودها في الروايات التي لم تزخر بشخوص مفترض فيها أن تنطق بملفوظ صوفي؛ لما تتمتع به من حس صوفي كالروايات التاريخية ماعدا العائش في الحقيقة، وبعض الروايات التي تنطلق من بيئات شعبية أو توجهات فكرية وفلسفية وإيديولوجية مثل: زقاق المدق والسراب والسمان والخريف والطرق والشحاذ وثرثرة فوق النيل والحب تحت المطر والكرنك وحكايات حارتنا وحضرة المحترم وأفراح القبة ورحلة ابن فطومة ويوم قتل الزعيم وحديث الصباح والمساء وقشتمر.

2 - زيادة نسبة وجودها في الروايات التي زخرت بشخوص صوفية التوجه والتكوين؛ كاللص والكلاب (5مرات) وليالي ألف ليلة (12مرة) وبين القصرين (6مرات) وقصر الشوق (4مرات) وقلب الليل (4مرات)والعائش في الحقيقة (4مرات) .

3 - قلة نسبة وجودها في بعض الروايات ؛ بوصفها بقايا متنحية في أسلوب الكاتب؛ مما يؤكد انتماءه إلى معين الثقافة الإسلامية في بعدها الصوفي؛ دون أية دلالات سياقية مثل ما ورد (مرة واحدة) في كل من: القاهرة الجديدة وخان الخليلي وبداية ونهاية وأولاد حارتنا وميرامار والمرايا وملحمة الحرافيش والباقي من الزمن ساعة .

وفي تتبعنا لطبيعة انخراط لغة التراث الصوفي في روايات الكاتب لم نجد لها وجودا في المرحلة الأولى، والتي مثلتها الروايات التاريخية الأولى، أما في المرحلة الثانية والتي تمتد من القاهرة الجديدة حتى السكرية فقد أدخل فيها الكاتب لغة التراث الصوفي بصورة ليس لها مسوغ ظاهر.

ومن السياقات التي تمثل ذلك ما ورد في القاهرة الجديدة على لسان محجوب عبد الدايم؛ الأفاك ، الوصولي، الديوث، وهو في أشد حالات فقره، عندما لم يجد شيئا يقتاته؛ حين راح يتذكر متصوفي الهند ومفردات المتصوفة: الجوع - الألم - الصبر – اللذة:

" وراح - وهو يتناول طعامه – يذكر ما يقال عن سير متصوفي الهنود، وعجب كيف يقاومون الجوع تلك المقاومة الخارقة، وكيف يصبرون على الألم ذلك الصبر المر ويجدون في هذا وذاك لذة عالية .. رباه .. لشد ما احتارت هذه الكلمة البديعة: اللذة بين أمزجة البشر، أما هو فلذته بينة وحرمانه بين كذلك؟ (القاهرة الجديدة ص50)

ولنا أن نتساءل: ما علاقة متصوفي الهند بالسياق وبمحجوب عبد الدايم ؛ لدرجة أن يستدعي مفرداتهم ؟ هل هو الجوع فقط أم ذهن الكاتب وثقافته التي يحاول استعراضها؟ فلا جوع محجوب عبد الدايم يرقى لجوع المتصوفة؛ منطلقا وانتهاء وشخصية وتكوينا، ولا حالته النفسية ترقى لحالتهم، ولا السياق يستجلبهم. ثم، لماذا يذهب محجوب عبد الدايم بذاكرته إلى الهند ويكبدها وعثاء السفر حيث المتصوفة، ولا يذهب بها إلى القناطر؛ حيث فقر والده الضارب حتى النخاع؛ مرشحا إياه لحمل لواء الصبر دون متصوفي العالم أجمع.

ولا حاجة بنا للتأكيد أن الرابط تم هنا في ذهن الكاتب؛ محاولة منه لاستعراض ثقافته وإثبات معلومة عنت له أثناء سرده الروائي دون حاجة سياقية.

وفي المرحلة الثالثة والتي امتدت من أولاد حارتنا حتى قشتمر، انخرطت لغة التراث الصوفي في سياقات تطلبت وجودها ، وتمثل ذلك واضحا جليا في اللص والكلاب وليالي ألف ليلة.

     ولنختر ليالي ألف ليلة نموذجا حيث تتقاطر اللغة الصوفية على لسان الشيخ عبد الله البلخي؛ ردودا على مريديه، دون تكلف أو قسر في السياق؛ لدرجة تظن معها أن هذه الردود من تأليف الكاتب وليست مستقاة من لغة التراث الصوفي.

     وفي حديثه مع السندباد الذي أتاه مودعا بعد أن عزم على الرحيل مرة أخرى؛ لأنه لم يألف الاستقرار والدعة حيث الوطن والنعيم؛ تتبدى ردوده التي تصل التراث بالسياق الروائي محملة بالإجابة دون إفصاح وتوضيح:

" – ماذا دفعك إلىّ يا سندباد؟

فأطال الصمت كفاصل بين الادعاء والحقيقة ثم همس :

* القلق يا مولاي ..

فقال الشيخ :

* أفصح يا سندباد .

* كأنما تلقيت دعوة من وراء البحار !

فقال السندباد :

* رأيت في الحلم الرخ يرفرف بجناحيه ..

فقال الشيخ :

* - لعلها دعوة إلى السماء ..

فقال في تسليم :

* إني من رجال البحر والجزر .

فقال الشيخ :

- اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات؛ أولاها أن تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية أن تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة أن تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة أن تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة أن تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة أن تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت. ( ورد هذا النص في طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ص37-38).

فقال بأدب :

* لست من هؤلاء الصفوة ولكن باب الصلاح يتسع لآخرين ..

فقال الشيخ

- اطلع الله على قلوب أوليائه فمنهم من لم يكن يصلح لحمل المعرفة حرفيا فشغلهم بالعبادة. (ورد هذا النص في طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ص71)

فقال الشيخ :

* طوبى لمن كان همه واحدا ولم يشغل قلبه بما رأت عيناه وسمعت أذناه. (ورد هذا النص في طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ص74) .

فهوى السندباد على يده فقبلها  .... وكان السندباد قد شرب عشرة أطنان من الخمر . ( ليالي ألف ليلة ص260-261-262 ).

ويتضح من ضفر هذه الردود أنها انخرطت في النص الروائي وكأنها جزء منه، لا يختلف عضويا عنه؛ بحيث تواءمت مع ملفوظ شخصية البلخي الصوفية ومع اتجاه كلام الصوفيين المجازي، المرتبط بالواقع بخيوط واهية تحمل من معاني التورية الكثير.

ويلتفت يحيى حقي إلى صرامة مطابقة استدعاءات لغة التراث الصوفي في روايات الكاتب للسياق الروائي قائلا : "إني والله لحائر كيف استطاع (الكاتب) أن يستخرج من كتب التصوف المطولة هذه الخلاصة البديعة التي أجراها على لسان الشيخ وجعلها مطابقة لأحداث القصة". (الاستاتيكية والديناميكة في أدب نجيب محفوظ، الملحق الأدبي للمساء، ع 206 فبراير 1963م).

أشكال استدعاء لغة التراث الصوفي:

* استدعاء المتن دون تخريجه: مثل الأمثلة السابقة.

* استدعاء معنى المتن: مثل : - "مهلا يا باشا، لقد أخبرتني يوما عن الصوفي الذي تاب سبعين مرة. أليس معنى هذا أنه أذنب سبعين مرة ؟! (السكرية ص271)

ولا شك أن استدعاء النص كاملا، يشكل فرضا لهيمنته - ألفاظا وتراكيب – على السياق الروائي، وتأكيدا لمنطلقه الصوفي وأثره الدلالي، وشكا في معرفة الناس به إيماء .

ولا شك أيضا أن استدعاء معناه - كما سبق - يبين بعد كلتا الشخصيتين عن الانخراط في الصوفية الحقة وأن ما تم كان ادعاء

كيفية استدعاء لغة التراث الصوفي :

دائما يستدعي الكاتب التراث الصوفي على هيئة قول " قال سيدي " (اللص والكلاب ص70)، أو " ردد قول القائل "(اللص والكلاب ص32)، أو "يذكر ما يقال عن سير متصوفي الهند" (القاهرة الجديدة ص5) أو "قال الشيخ البلخي" (ليالي ألف ليلة ص261) أو "إليك قول رجل مجرب" (ليالي ألف ليلة ص271) .

ومما لا ريب فيه أن اختيار لفظ القول يدل على ما اتصف به التراث الصوفي في تاريخه الطويل ؛ من أنه جملة الأقوال التي تلفظ بها المتصوفة على اختلاف مشاربهم، كذلك في استخدام لفظة القول ما يصعب نسبة القول إلى صاحبه في التراث بطريقة تخريجية مؤكدة؛ مما يعمق اندياح الشخصية في القول أكثر من اهتمامها بالقائل.