الجمعة 6 سبتمبر 2024

محاضرات مكيافيلي| التجارب التاريخية في إدارة الممالك المحتلة (3_50)

نيقولا مكيافيلي

ثقافة3-9-2024 | 22:36

إٍسلام علي

يستكمل نيقولا مكيافيلي في بدايات الفصل الثالث من كتابة "الأمير" طرق التحكم في الممالك الحديثة والذي قصد بها الولايات التي كانت جزءا من مملكة أكبر في المساحة وانفصلت عنها عن طريق سيطرة أحد الأمراء أو الملوك.

ويواصل حديثه موضحا أن الولايات التي انفصلت عن ممالك كبيرة، إذا شعرت بظلم حكامها وسوء معاملتهم، فإنها ستعتبر أي احتلال من قبل قوة معادية أخرى بمثابة أمل للخلاص ودعما ضد حكامها الذين لا يحترمون حقوق الشعب.

وأشار نيقولا أن تلك الممالك من السهل على المستعمر الجديد أن يثير فيها الثورات ضد الحكام القدامى، كما يسهل إقناع الشعوب بأن القادم يحمل الخير وأن المستعمرين الجدد قادرون على إصلاح ما أفسده الحكام السابقون.

ويواصل نيقولا قائلا: "كثيرا ما نسمع عن تلك الولايات التي تسن السيوف في وجه حكامها السابقين، وفي مثل هذه الأحوال لا تكون الأوضاع في ظل الحكم الجديد الذي يفرض على الناس قادرة على تحسين الأوضاع، بل غالباً ما تزداد الأمور سوءا".

وينتقل نيقولا في موضع أخر ليوضح لنا أحوال الرعية الذين ثاروا ضد حكامهم القدامى طلبا للعون من المستعمرين الجدد وأن الأمير أو الملك الجديد لا يستطيع أن يوثق الوئام بين رجال جيشه وأهل الولايات المغتصبة ولن يستطيع الحاكم أبدا أن ينقذ الولاية التي استعمرها للتو من المصائب التي تجلبها طبيعة الاغتصاب للأرض.

ويذكر مكيافيلي العديد من الأسباب الأخرى والتي تجعل الحكام الجدد على غير وئام مع أهل الولاية المفتوحة، مهما كانت قوة الجند والعتاد ومهما كان الملك نفسه عادلا في أحكامه، وذلك لأن أهل الولاية المغتصبة يرون الحكام الجدد مستعمرين لها وفي نفس الوقت، فإن الملك المغتصب للأرض لا يستطيع اكتساب إخلاص جماعة الخائنين الذين مكنوه من بلادهم؛ لأنه لا يستطيع أن يرضيهم أو يقنعهم مهما منحهم وأعطاهم، ولا يستطيع أن يعمد إلى الشدة في معاملتهم؛ لأنه مدين لهم.

ويضرب نيقولا مكيافيلي مثالا على ذلك وهو لويس الثاني عشر والذي سبق له أن احتل ميلانو في زمانه ولكن لم يستطع أن يحتفظ بها طويلا، ليس بسبب ضعف قواته وعتاده العسكري، بل لأن أهل ميلانو لم يروا فيه ما ظنوه من العدل، هذا وبالإضافة إلى شره الذي تسبب في إبعاد قلوبهم عنه، فاستسلموا من تلقاء أنفسهم للأمير لدويج دي سفورزا.

ويوضح لنا مكيافيلي كيف يستطيع المغتصب للأرض أن يثبت أقدامه فيها بالرغم من عدم قبول أهل الأرض المغتصبة لسلطانه بقوله "أن الفاتح إذا ثارت عليه الولاية المفتوحة ثم عادت فقرها مرة أخرى يكون الفتح الثاني له ضامنا له إلى الأبد".

وذكر نيقولا أسباب تمكن المستعمر من ضمان احتلال الولاية التي يثور أهلها ويفشلون في ثورتهم، ومنها أن الحاكم المستبد يتعلم من الثورة دروسًا عن طبيعة الشعب الذي يحكمه، بالإضافة إلى ذلك، تكشف الثورة للحاكم من هم الأفراد الذين يثيرون القلاقل ويخلقون المشاغبات، مما يمكنه من التعرف على أعدائه والتعامل معهم بفعالية أكبر.

ويذكر مكيافيلي مثالاً على ذلك بدخول فرنسا إلى ميلانو في المرة الأولى، حيث كانت فرنسا في ذلك الوقت ضعيفة من الناحية السياسية، فما إن ظهرت أعلام الدوق "لودفيج" حتى انهزمت فرنسا في تلك المرة، ولكنها سرعان ما عادت مرة أخرى وتحالفت مع أمراء وملوك أوروبا، وتمكنت من الانتصار في تلك المرة، وقد ثبتت أقدامها بعد أن أدركت نقاط الضعف التي كانت موجودة في حكومتها في المحاولة الأولى.

وأمثلة من التاريخ على قمع الثورات

لإثبات صحة ما يقوله نيقولا، يمكننا الاستشهاد بالعديد من الأمثلة التاريخية، حيث تمكنت قوى استعمارية من احتلال أراض بالقوة، وعلى الرغم من مقاومة السكان المحليين وثوراتهم المتتالية، إلا أن المستعمر استطاع في النهاية قمع تلك الثورات وإخضاع تلك البلدان لسيطرته.

الاحتلال الروماني لبريطانيا

تمكن الاحتلال الروماني لبريطانيا، من قمع عدة ثورات من القبائل البريطانية المحلية، بما في ذلك تمرد بوديكا 60-61، ولكنهم تمكنوا من قمع الثورة واستمرت السيطرة الرومانية على بريطانيا لعدة قرون.

الاحتلال العثماني للبلقان

واجهت الإمبراطورية العثمانية عدة ثورات من شعوب البلقان المختلفة، بما في ذلك الثورة الصربية الأولى 1804-1813 والثانية 1815-1817، لكنها تمكنت من قمع هذه الثورات واستمرت سيطرتها لفترة طويلة.

الاستعمار البريطاني للهند

كان تمرد سيبوي 1857-1858 محاولة من قبل الجنود الهنود للثورة ضد الحكم البريطاني، ولكن البريطانيين تمكنوا من قمع الثورة واستمر استعمارهم حتى عام 1947.

الاستعمار الفرنسي للجزائر

واجه الفرنسيون عدة ثورات في الجزائر، بما في ذلك ثورة الأمير عبد القادر 1832-1847، لكنهم تمكنوا من قمعها واستمر الاستعمار الفرنسي حتى عام 1962.

الاستعمار الإسباني للفلبين

قامت ثورات مختلفة ضد الحكم الإسباني، مثل ثورة دييغو سيلانغ 1762-1763، لكن الإسبان تمكنوا من قمع الثورات والسيطرة على الفلبين حتى عام 1898.

الاستعمار الفرنسي في سوريا ولبنان

ثورة دروز جبل العرب "1925-1927" كانت محاولة للاستقلال، لكن الفرنسيين تمكنوا من قمعها واستمروا في السيطرة حتى عام 1946.

الاستعمار البريطاني في السودان

الثورة المهدية 1881-1899 كانت حركة مقاومة ضد الحكم البريطاني-المصري، وتمكن البريطانيون من قمعها واستمروا في السيطرة حتى عام 1956.

الاحتلال العثماني لمصر

واجه العثمانيون ثورات متعددة من قبل المماليك، بما في ذلك ثورة الأمير طومان باي "1516-1517"، لكنهم تمكنوا من قمع الثورة والسيطرة على مصر لعدة قرون.