الخميس 5 سبتمبر 2024

ديوان الثقافة ومعقل الهوية الوطنية

مقالات5-9-2024 | 20:52

حتى في أصعب السنوات التي مرت بها مصر خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، لم تُحرم الثقافة الوطنية من دعمها الأساسي، أي المجلة الثقافية، ذلك لأنه بدون المنشورات الأدبية، ستصبح الثقافة هاوية بلا قرار.

وبدون الوجود الثقافي والمعرفي عبر مجلاتٍ رصينة ستكون الأوساط الأدبية خالية من أي معايير للقيمة. وبعبارة أخرى، فإن روح الاختيار النقدي أمرٌ حيوي لوجود أي ثقافة.

وهذه الروح تدعمها بشكل رئيسي مجلة ثقافية راسخة. لا يمكن الاعتماد على التلفاز، ناهيك عن الراديو. وانطلاقًا من أهمية دعم الثقافة المكتوبة، تصدر المجلات الأدبية والثقافية، لتكون وسيطًا مهمًا بين المثقفين والباحثين في مجال المعرفة والقراء الذين يهتمون بالعلوم والمعارف والإبداع بشكل عام.

بتركيبة مميزة، جاءت مجلة "الهلال" الصادرة في 1 سبتمبر 1892، لمساعدة القراء على فهم أنفسهم والعالم من حولهم ومن في كل مكان. والأهم من ذلك، أن "الهلال" حرصت على تعزيز الهوية الوطنية التي تحافظ على قوتها الداخلية الضرورية للتعبير، مع توفير السحر والعمق والإبداع في صفحاتها وملفاتها والقضايا والأبحاث التي تتطرق إليها. هذا الأداء المهم وهذه الرسالة الثقافية التي حملتها "الهلال" على عاتقها هو في حد ذاته عمل فني، وهو إبداع لا يتطلب جهدًا خلاقًا فحسب، بل يتطلب بشكل خاص الكثير من الإلهام نيابة عن الشخص الذي يقود دفة المجلة بدءًا من جرجي زيدان، الذي يعد واحدًا من الأعلام في الأدب العربي، وأحد هؤلاء الذين وضعوا اللبنة الأولى لفن السرد القصصي في الوطن العربي، فضلًا عن كونه من أوائل رواد الثقافة في الوطن العربي، وصاحب إصدار أقدم مجلة ثقافية عربية على الإطلاق.. "الهلال"، المجلة الوحيدة التي تصدر بصفة منتظمة منذ أكثر من قرن، ومنذ عددها الأول، تركت أثرها في تاريخ العالم العربي بصفة عامة وتاريخ مصر بصفة خاصة، كما لعبت دورًا رائدًا في تحديث الفكر العربي والتعاون من أجل التطور الثقافي.

 إن "الهلال" تعد أطول المجلات الثقافية العربية عمرًا، فهي المجلة العربية الوحيدة بين المحيط والخليج التي توالي الصدور بلا انقطاع منذ عام 1892، وكان لتاريخ الصدور هذا دلالة خاصة طبعت هذه المجلة بطابع فريد، وأهلَّتها لأن تكون رمزًا لمرحلة جديدة في التاريخ العربي بعامة، واتجاهًا جديدًا في الثقافة العربية.

البداية من الفجالة

من مطبعة متواضعة في دكان صغير بشارع الفجالة بقلب القاهرة صدر أول أعداد مجلة "الهلال" العريقة، خرج ذلك العدد في 32 صفحة. جاء صدور العدد الأول من المجلة بعد مرور 10 أعوام على هزيمة الثورة العرابية والاحتلال البريطاني لمصر، وقد أسهم ذلك في إفساح مجال التطور الفكري بين المدارس المتعددة، وبرزت الحاجة إلى وضع اليد على أدوات العصر الحديث من العلوم والمخترعات، لكي تتم الاستجابة لتحدي الإنجليز الذين يحكمون البلاد بخمسة آلاف عسكري، وجاءت مجلة "الهلال لتلعب دورًا رائدًا في تحديث الفكر العربي، وتفتح آفاقًا جديدة لثقافة التطور.

أسس مجلة "الهلال" جرجي زيدان المولود في بيروت عام 1861 والمتوفى بالقاهرة عام 1914، وكان يتولى أمورها بنفسه من إدارة وتحرير ومكاتبات وغير ذلك، ولما لقيت نجاحًا عهد بإدارتها لمن جاء بعده. كان زيدان موفقًا في اختيار حي الفجالة لإصدار مجلته، خاصة أن موقعه في مواجهة محطة قطارات السكة الحديد، الأمر الذي ساعد على انتشار مجلته في أنحاء وربوع مصر.

خرج العدد الأول بغلاف ورقي تتصدره كلمة "الهلال" بخط بارز، يحمل تعريفًا بالمجلة على أنها: "مجلة علمية تاريخية أدبية" لمُنشئها جرجي زيدان، وقيمة الاشتراك السنوي بها خمسون قرشًا، وكتبت هذه العبارات باللغتين العربية والإنجليزية. وكانت أبواب المجلة 5 أبواب: "أشهر الحوادث وأعظم الرجال"، و"الروايات"، و"تاريخ الشهر"، و"المنتخبات من الأخبار"، و"التقريظ والانتقاد".

صدر العدد الأول يحمل افتتاحية بقلم مؤسسها جرجي زيدان أوضح فيها سياستها التحريرية، وغايته من إصدارها: "أما فاتحتنا فحمد الله على ما أسبغ من نعمه وأفاض من كرمه، والتوسل إليه أن يلهمنا الصواب وفصل الخطاب، أما خطتنا فالإخلاص في غايتنا، والصدق في لهجتنا، والاجتهاد في وفاء حق خدمتنا، ولا غنى لنا في ذلك عن معاضدة أصحاب الأقلام من كتبة هذا العصر في كل صقع في مصر.

أما الغاية التي نرجو الوصول إليها فإقبال السواد على مطالعة ما نكتبه، ورضاؤهم بما نحتسبه، وإغضاؤهم عما نرتكبه، فإذا أتيح لنا ذلك كنا قد استوفينا أجورنا، فننشط لما هو أقرب إلى الواجب علينا".

وأوضح زيدان أسباب اختيار "الهلال" اسمًا لمجلته في افتتاحية العدد الأول: "وقد دعونا مجلتنا هذه (الهلال) لثلاثة أسباب.. أولًا: تبركًا بالهلال العثماني الرفيع الشأن، ثانيًا: إشارة لظهور هذه المجلة مرة في كل شهر، ثالثًا: تفاؤلًا بنموها مع الزمن حتى تتدرج في مدارج الكمال. فإذا لاقت قبولًا وإقبالًا أصبحت بدرًا كاملًا بإذن الله".

وكان جليًا حرص جرجي زيدان على كسب القراء عن طريق الثقة والنزاهة والإخلاص والابتعاد عن التهويل أو الزيف أو الخداع، والسعي إلى الأمانة والإنصاف والاعتدال. كما اهتم المؤسس جرجي زيدان بإعادة اكتشاف التاريخ المصري والعربي باعتزاز ودون عاطفة وكبرياء مجروح، وكان له دور مؤثر في تشكيل الهوية الوطنية المصرية عبر مقالاته وكتاباته العميقة.

ديوان لتاريخ مصر

حرصت "الهلال" على الحياد التام، وتجنب الخوض في المسائل السياسية المباشرة، والابتعاد عن التيارات السياسية، وتحاشي الاصطدام مع سلطات الاحتلال الإنجليزي، والتركيز على تنمية الثقافة العامة ونشر الموضوعات والأخبار العلمية والأدبية والتاريخية.

وبنظرة على أعدادها على مدار نحو 132 عامًا، تعتبر مجلة "الهلال" سجلًا وديوانًا لتاريخ مصر، فقد عاصرت كبرى الحوادث في تاريخ مصر والعالم، فأصبحت أعداده وثائق تاريخية بالكلمات والصور.

فقد واكب صدور مجلة "الهلال" عام 1892 وفاة الخديو توفيق بقصره بحلوان وتولي عباس حلمي الثاني عرش مصر الذي حظي بتعاطف الحركة الوطنية. كما وثقت "الهلال" بالأعداد التذكارية التي كانت تصدر احتفالا بأعياد ميلادها لأحداث مهمة، فقد واكب الاحتفال باليوبيل الفضي لها عام 1917 حينما كانت الحرب العالمية الأولى تعتصر البشرية، وجاء العيد الذهبي لها عام 1942، حينما كانت الحرب العالمية الثانية في أخطر مراحلها، وحاصرتها أزمة مالية لكنها لم تتوقف، بل صدرت كل شهرين ما بين أعوام 1940 و1947 ومنذ ذلك الحين لم تتوقف عن الصدور أول كل شهر.

أما "العيد الماسي" لها فواكب عام 1967 وكانت مصر تعيش مأساة نكسة 5 يونيو. وصادف عيدها المئوي عام 1992 انحسار الحرب الباردة وحزن المصريين على أثر الزلزال الذي ضرب مناطق واسعة منها، وخلف عددًا كبيرًا من الضحايا.

تطورت مجلة "الهلال" لتكون نبتة لمؤسسة صحفية كبرى، فتحولت المطبعة الصغيرة في الفجالة إلى دار كانت تطل على ميدان التحرير، ثم انتقلت إلى موقعها الحالي في شارع "المبتديان" في بداية الأربعينيات. صدر عنها عشرات المطبوعات الدورية أهمها: مجلة "المصور"، وسلسلة كتاب "الهلال"، و"روايات الهلال"، ومجلة "الكواكب" الفنية، ومجلة "حواء"، ومجلة "سمير" للأطفال وسلسلة "ميكي جيب".

وعلى مدار 132 عامًا، استكتبت المجلة أعلامًا مثل د.زكي مبارك، ومي زيادة، وخليل مطران، وزكي طليمات، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وعباس العقاد، وبنت الشاطئ، وسهير القلماوي، وأمينة السعيد، وأحمد بهاء الدين، ونجيب محفوظ وغيرهم من أعلام مصر والعالم العربي. وتناوب على رئاسة تحريرها أعلام الصحافة والأدب، فتولى رئاسة تحريرها جرجي زيدان من عام 1892 إلى 1914، وبعده ابنه إميل زيدان، ثم الدكتور أحمد زكي، وعلي أمين، وكامل زهيري، ورجاء النقاش، ود. علي الراعي، وصالح جودت، ود. حسين مؤنس، وكمال النجمي، ومصطفى نبيل، ومجدي الدقاق، وعادل عبد الصمد، ومحمد الشافعي، وسعد القرش، وخالد ناجح، وطه فرغلي.

صيغة جديدة

قدَّمت "الهلال" صيغة جديدة، في الشكل الصحفي والمضمون الثقافي والتوجه النقدي والإبداعي، تتناسب مع المتغيرات الثقافية والسياسية والفكرية التي تواجه العالم العربي، التي تحمل في جوانبها كل ما هو مقلق على المصير العربي، أمة وثقافة وكيانًا. صيغة تحمي شخصية هذه الأمة، وتدعم حركة الإبداع وحرية الرأي والتعبير بقوة وثقة.

وينبغي أن يكون هذا مدخلًا نحو فهم الدور الثقافي لمجلة "الهلال"، التي حرصت على أن تُظهِر احترامًا عاليًا للهوية الوطنية، كما عملت دومًا على أن تُكِن احترامًا عميقًا لثقافات الجيران بل والعالم أجمع. بدا لسان حال "الهلال" وكأنه يقول إن العولمة والهوية الوطنية هي حقائق العالم المعاصر. بالثقافة الحقيقية نستطيع أن نقاوم، وبالإبداع وإعادة قراءة التاريخ نستطيع حماية وجودنا الفكري والثقافي والحفاظ على هويتنا.

بدون الثقافة والمجلات الثقافية، وفي مقدمتها مجلة "الهلال"، فإن قرونًا من المعرفة والفكر والإبداع ستُحذف تمامًا من ذاكرتنا الجماعية ومن الروح المصرية، وسيكون مستقبلنا غير آمن.

في مثل هذه الظروف، وبالعودة إلى ملف الهوية الوطنية والثقافية، يأتي دور مجلة "الهلال" في الترويج للمعرفة والاهتمام بالإبداع والمبدعين، والعمل على تعزيز اللُحمة الوطنية.

لم تتوقف "الهلال" أو تحتجب عن قرائها شهرًا واحدًا أو تتأخر عددًا واحدًا، بل حرصت على الصدور بانتظام لا سابق له بين المجلات الثقافية في العالم، وعملت على الاستمرار تحت كل الظروف ورغم كل الصعوبات، مالية أو سياسية أو رقابية. وإذا كانت المجلات الثقافية في أرجاء العالم، لا سيما الفاعلة منها، لا تعمر طويلًا، وإنما تعيش فترة زمنية، تؤدي رسالتها وترحل، لأنها بطبيعة تكوينها كمجلة، تؤثر في جيل معين وفي فترة تاريخية معينة، فإن "الهلال" وبفضل مكانتها الريادية ودورها الثقافي المهم، استمرت وصمدت في وجه التحديات.

 إن بقاء المجلات الثقافية على قيد الحياة على مدار عقود أو لقرن فأكثر حتى الآن يعد إنجازًا بكل المقاييس، خصوصًا وأن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتغيرة تفرض تحديات كبيرة على المجلات الثقافية.

ولا شك أن "الهلال" نجت من هذه الأزمات وتجاوزتها بفضل رسوخها ومحاولتها الجادة لكي تواصل أداء رسالتها المهمة، بل والضرورية.

ويمكن القول باطمئنان شديد إن الثقافة لها مكانها ومكانتها في مجال الأمن القومي، وليس من المقبول والمعقول ترك المجلات الثقافية عُرضة للتحديات المالية والاقتصادية ورياح الضغوط المختلفة التي تهب عليها من كل حدبٍ وصوب.

عالم بدون الهلال!

لنتخيل الوسط الثقافي المصري والعربي بدون مجلة "الهلال". 

سيكون الجمود والتخشّب نصيب تلك المفاهيم الفكرية والأدبية التي لا تقبل بالمراجعة، ويرفض حرّاسها طرح الأسئلة بشأنها؛ لأنّ الأفكار تستمدّ قوتها من سيرورة الحياة وإنصاتها لحركة الواقع.

إن الفكر لا يقع خارج العالم، وما تتم معاينته في الواقع يؤكّدُ ضرورة فتح حلقة النقاش حول عدة مفاهيم في ضوء ما يمرُّ به المُناخ الثقافي من التحوّلات. وهذا بالضبط ما تضطلع به مجلة "الهلال" منذ نشأتها. لقد اهتمت المجلة دومًا بتشكيل الذائقة واختيارات القراء، كما نجحت في إيجاد لغة ثقافية مُتفاعلة مع واقع العصر ومُتطلباته المعرفية، وغامرت بارتياد مستوى مختلف في اختيار الموضوعات والإشكاليات العلمية، واهتمت بالنقد الأدبي وعقد المقارنات بين النصوص المترجمة وما يُكتب بالعربية، وانعكاس ما ينقلُ من اللغات الأجنبية في أجواء واتجاهات الأدب العربي.

لقد وقفت "الهلال" باستمرار مع إبداع الكُتَّاب وحرية الكتاب، ونجحت في استقطاب المثقفين والمبدعين والباحثين من أنحاء العالم العربي، وطرحت مختلف المسائل على بساط البحث العقلاني والتنويري، والعلماني المتفتح، الملتزم نهجًا نقديًا بناءً في قراءة المشهد الثقافي العربي.

الأحق أن نحتفي باستمرارية مجلة "الهلال" وقدرتها على تجديد أقلامها وخطابها مع التحولات الثقافية المتلاحقة على مدار أعوام صدورها، لتترك أثرها في الحياة الثقافية والأدبية والفكرية المصرية والعربية.