الأحد 6 اكتوبر 2024

نحو رد الاعتبار لكتابات جرجي زيدان في تاريخ الإسلام وحضارته

مقالات8-9-2024 | 10:13

في سنة 1995م قدمت بحثًا ضمن متطلبات السنة التمهيدية للماجستير في جامعة القاهرة اعتمدت فيه ضمن عشرات المصادر والمراجع على كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) لجرجي زيدان، وفوجئت حينها بأستاذ المادة التي قدمت هذا البحث ضمن متطلباتها يقوم بشطب الكتاب في مواطن الاستشهاد به داخل البحث، وكذلك في قائمة مصادر البحث ومراجعه، على الرغم من إبقائه على كتب أخرى أقل منه في القدر والأهمية. ولما سألت أستاذي عن السبب في ذلك قال لي إن جرجي زيدان لا يوثق بكتاباته في التاريخ الإٍسلامي، ولما حاولت بحماس الشباب حينها أن أجادله في ذلك، وقلت له إن المحك في ذلك هو النظر إلى ما ذكر من آراء والحكم عليها في ضوء المصادر أسكتني بإشارة من يده قائلًا بجزم وحسم إن جرجي زيدان مسيحي متعصب ولا يمكن الاعتماد عليه في أي شيء. 

وبعد هذا الموقف بأكثر من عشرين عامًا، وتحديدًا في فبراير سنة 2016م، عرضت بحثًا لي في أحد السيمنارات العلمية بجامعة عين شمس، وكان البحث محاولة لرصد معالم معركة فكرية وثقافية مجهولة في معظم تفصيلاتها دارت في الربع الأول من القرن العشرين حول كتاب جرجي زيدان سابق الذكر نفسه، وأثناء مناقشة البحث فوجئت أيضًا ببعض أساتذة هذه الجامعة الكبار يكررون الكلمات ذاتها التي قالها أستاذ جامعة القاهرة. وقد جعلني هذا الاتفاق لبعض أساتذة التاريخ الإٍسلامي في اثنتين من جامعاتنا أعتقد أن هناك اتفاقا ضمنيا شائعا يفيد نظرة متربصة بكتابات جرجي زيدان حول تاريخ الإسلام وحضارته؛ الأمر الذي كان أحد الأسباب التي جعلتني أقوم بتطوير بحثي، وظللت أعمل فيه عدة سنوات قبل نشره العام الماضي في كتاب.

 وأثناء إعدادي لهذا الكتاب اكتشفت شيوع هذا الرأي المنتقص لقدر كتابات جرجي زيدان في التاريخ الإسلامي شيوعًا كبيرًا، بل وجدت كتبًا كثيرة تعمل على الترويج لذلك. وتوجد ملاحظة جديرة بالاعتبار في هذا السياق، تتمثل في أن كثيرين من المنتقصين للأهمية العلمية لكتابات زيدان في التاريخ الإسلامي يبنون حكمهم على الروايات التي كتبها زيدان المعروفة ب (روايات تاريخ الإسلام)، وهي روايات لايمكن اعتبارها من المراجع التاريخية بأي حال من الأحوال؛ إذ أطلق فيها زيدان لخياله العنان متجاوزًا الحقائق التاريخية من وقائع وأزمنة وأشخاص وأماكن. ولهذا كله لايمكن اعتبار هذه الروايات الخيالية تاريخًا أو كتابة علمية تاريخية، ومن ثم فإن من يريد الحكم على الإسهام العلمي لجرجي زيدان في الكتابة عن تاريخ الإسلام وحضارته أن ينحيها جانبًا، وأن يكون أساسه في الحكم ممثلًا في كتابات زيدان العلمية فقط، والتي على رأسها كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي).

ويمكن بسهولة للمتتبع لحركة كتابة التاريخ الإسلامي أن يرصد غلبة الكتابات التاريخية في النواحي السياسية دون النواحي الحضارية؛ إذ أن المكتبة العربية افتقرت لفترات طويلة إلى كتابات خاصة جامعة عن الحضارة الإسلامية وتاريخها، ولم يظهر هذا المنحى في الكتابة على نحو جلي إلا مع بدايات القرن العشرين، وذلك بنشر الجزء الأول من كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) لجرجي زيدان؛ وعليه فإنه يُعتبر رائدًا في ذلك. ويؤكد د. حسين مؤنس (1911 - 1996م) ريادة جرجي زيدان بقوله إن جرجي زيدان تهيب التأريخ للحضارة الإسلامية، وأنه كان محقًا في ذلك لأن الميدان كان مجهولًا على أيامه، بل كان فن التأريخ للحضارات جملة فنًا جديدًا في طور التكوين في العالم كله.

وكان جرجي زيدان مدركًا لهذه الريادة وأنه نتيجة لها سيقع في بعض الأخطاء الموجبة للانتقاد، فذكر في صدارة الجزء الثاني: "عمدنا إلى تأليف هذا الكتاب وهو تاريخ الإسلام الحقيقي، لأن تاريخ الأمة لا يقوم بسرد حروبها وفتوحها، وإنما هو تاريخ نشوئها وتنظيم حكومتها وتاريخ ثروتها وعلومها وآدابها ونظامها الاجتماعي ومصيرها، أو هو تاريخ تمدنها. ولنا فيما بسطناه من وعورة هذا المسلك عذر على ما قد يعتور مشروعنا من النقص. والكمال لله وحده". وطلب زيدان صراحة ممن يقرأ كتابه مده بالملاحظات التي يمكن له الانتفاع بها فقال: "نتقدم إلى أهل الفضل أن يؤازرونا بملاحظاتهم وآرائهم للانتفاع بها". أي أن زيدان كان مؤمنًا بأهمية النقد وجدواه وصعوبته في الوقت نفسه، فيقول: "الانتقاد يحتاج إلى مشقة في تصفح الكتاب، وتفهمه، والتنقيب عن مواضع الخطأ، ومراجعة الكتب للتثبت والاستيثاق".

والجدير بالذكر أن هذا الخلق العلمي القويم الذي يرى أن "الانتقاد أكثر فائدة من التقريظ" كثيرًا ما كان زيدان يدعو إليه ويرجو ممن يقع في أحد كتبه على خطأ أن ينبهه إليه ليستدركه، ويلح على قرائه أن ينبهوه إلى أخطائه، ليستوجبوا بذلك شكره وثناءه. 

والملاحظ أن جرجي زيدان قام بالرد والتشابك الفكري مع بعض وجوه الانتقادات التي دارت حول كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي)، وهو الأمر الذي يبين أنه كان حريصًا على متابعة الملاحظات النقدية الكثيرة التي طالها كتابه، واتسمت ردوده بالأدب وسعة الصدر وعفة اللسان وعدم توجيه الإهانات أو تجريح مهاجميه. وعلى الرغم من ذلك وجه له البعض انتقادات قاسية أخذت طابع الانتقادات الشخصية.

ومن أبرز هذه الانتقادات التي صارت قبلة الناقدين ومعينًا للمنتقصين من قدر جرجي زيدان حتى الآن تلك المقالات التي كتبها المؤرخ الهندي شبلي النعماني (1857 - 1914م).  وقد قام النعماني بنشر انتقاداته سنة 1912م في  مجلة (المنار) وجريدة (المؤيد) ثم نُشرت في كتيب خاص بعد ذلك، وهي انتقادات سيطرت عليها عشرات الاتهامات التي منها: الجهل، والتناقض،  والتحريف، والتدليس، والتشويه، والكذب، والخداع، والخيانة، والحقد، وسوء الطوية، والشعوبية... إلى غير ذلك من اتهامات تظهر غلبة النزعة الذاتية لدى النعماني، وامتلاء تفكيره نحو جرجي زيدان بروح الريبة والشك والهجوم الشخصي، هذا فضلًا عن اتباعه في نقده آليات  السخرية والاستهزاء، والإهانة، وتوافر النية على الإجهاز الفكري على جرجي زيدان.

والحقيقة أن انتقادات النعماني شاعت شيوعًا كبيرًا، وطبعت في مصر والهند وباكستان مرات عديدة، ونقل عنها عشرات الباحثين ما وجهوه من اتهامات تجاه جرجي زيدان، حتى بات الأمر وكأن هذه الانتقادات هي الحقيقة المطلقة التي لامجال لأي كلام آخر معها، وباتت وكأنها أطلقت على صاحبها رصاصة الإعدام العلمي التي تنفي أي قيمة علمية لما كتبه في التاريخ الإسلامي.

 غير أن رؤية الإنصاف العلمي تخالف ذلك، وهي الرؤية التي يجب أن تؤسس على أن أي كتاب علمي له ماله، وعليه ما عليه، وأنه لايخلو كتاب من نقص، وأن النقد أمر طبيعي يتوافق مع تراكمية العلم، وأنه ينبغي عدم التعميم وإصدار أحكام عامة على كتاب عن طريق نقد بعض مواطنه. وهذا الأمر الأخير يؤكده ما قمت به من حصر مواطن انتقادات شبلي النعماني في كتاب جرجي زيدان فوجدتها  أقل من عـشر صفحات من كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي)، فهل هذا القدر الضئيل يلغي قيمة باقي الكتاب الذي يتكون من خمسة أجزاء، عدد صفحاتها يزيد على ألف (1000) صفحة؟!.

 ما يهمني هنا ليس عرض الانتقادات حول الكتاب وردود جرجي زيدان عليها؛ إذ تعرضت لذلك تفصيليًّا في كتابي (معركة كتاب تاريخ التمدن الإسلامي في مصر 1902 - 1914م)، وإنما ما أهدف إليه هو عرض بعض شهادات المعاصرين لجرجي زيدان من العلماء والمؤرخين والأدباء، التي تحمل تقديرًا وإنصافًا للجهد العلمي الذي قدمه في كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) وذلك لتكون هذه الشهادات الموضوعية في مقابل ما يظنه الكثيرون من أن مواقف المعاصرين- ممثلة في شبلي النعماني- لم تكن تحمل غير التنقيص من قدر كتابات زيدان في التاريخ الإسلامي وأهميتها. وأيضًا حتى تكون مثل هذه الشهادات خطوة أولى نحو رد الاعتبار لما كتبه جرجي زيدان في التاريخ الإسلامي من كتابات علمية.

الشهادة الأولى- شهادة المؤرخ الكبير عبد الوهاب النجار (1862-1941م)، صاحب كتابي (قصص الأنبياء)، و(تاريخ الخلفاء الراشدين): كتب النجار أربع مقالات بجريدة المؤيد قدم فيها خلال نقده لكتاب جرجي زيدان بعض ومضات التقدير، وأثنى عليه قائلًا: "وجدته كتابًا يحتاج التاريخ العربي إلى مثله في الأسلوب والوضع. ذلك أن حضرة كاتبه الفاضل قد خالف أساليب التواريخ العربية... يقدم بين يدي الموضوع المهم مقدمة أو مقدمات يدمج فيها البواعث التي أنتجت تلك الحادثة ويفيض في الظروف التي اقتضتها وما احتف بها من الأمور الجوهرية التي تعتبر من أكبر الفواعل فيها معللًا ذلك بما يراه مع التدرج إلى نتائجها وآثارها في النفوس". كما أن النجار يُقدم شكره "لحضرة المؤلف إبرازه لهذا الكتاب الذي نتمنى أن يكون نموذجًا لما يتلوه من الكتب في التاريخ".

الشهادة الثانية- شهادة المؤرخ والقانوني أتربي أبو العز (ت1955م) مؤلف كتاب (الدر المنتخب في تاريخ المصريين والعرب): كتب أبو العز مقالتين في جريدة المؤيد نقد فيهما كتاب زيدان، والملاحظ فيهما أنه لم يغمط الكتاب حقه فقال عنه: "الكتاب والحق يقال جدير بالاعتبار قد توخى فيه مؤلفه الفاضل طريقة يحمد عليها خصوصًا وهو أول من طرق هذا الموضوع من كُتَّاب العربية". كما قال: "الكتاب جليل يستحق مؤلفه الفاضل عليه جزيل الشكر ووافر الثناء والعصمة لله وحده". 

الشهادة الثالثة- شهادة  المؤرخ الكبير رفيق العظم (1867- 1925م) مؤلف كتاب (أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة). بدأ العظم نقده لكتاب جرجي زيدان بالثناء على الكتاب فقال: "لا أجد فيه إلَّا ما يوجب الثناء عليك والإطراء بجليل عملك والكتاب شاهد على ذلك بنفسه لنفسه لا يحتاج لإطراء مثلي". وأبرز العظم ريادة جرجي زيدان في الكتابة العلمية عن الحضارة الإسلامية؛ فقال: "(تاريخ التمدن الإسلامي) الذي أتحفت به عالم العلم فكان برهانًا على فضلك يغنيك عن الإطراء لكنه يوجب علينا الشكر لك والثناء على جميل عملك. نثني عليك لأنك ولجت بابًا أوصد دون غيرك. ولأنك وضعت تاريخًا لم يسبقك من علماء العربية أحد إليه". 

   كما ذكر العظم في مقالة له سنة 1914م أنه لم ير أحسن من الأسلوب الذي اتبعه جرجي زيدان في كتبه ولا أدق ترتيبًا للمواضيع واختيارًا للحوادث خصوصًا فيما يتعلق بالمدنية الإسلامية، وأضاف قائلًا "حق على كل مؤرخ أن يعترف بأن جرجي زيدان مؤرخ بالمعنى الصحيح وأن له فضلًا على التاريخ العربي ببيان ما لم يسبق إليه من آثار المدنية العربية وتاريخها". 

الشهادة الرابعة- شهادة العالم الإسلامي الكبير محمد رشيد رضا (1865-1935م): أثنى رشيد رضا على كتاب جرجي زيدان وكتابه غير مرة. ومن ذلك  قوله إن وضع الكتاب في العربية جديد بهذا الترتيب والتبويب، وبأن الأمة في افتقار إليه شديد، وبأنه مثال مفيد لقراء العربية. كما بين رضا ضرورة النقد النزيه للكتاب مدافعًا عن جرجي زيدان قائلًا: "أنا واثق بأن مؤلف الكتاب لم يكتب إلا ما اعتقده مع حسن النية وصحة القصد".

وذكر: "أقول هذا وأنا واثق بأن مؤلف الكتاب لم يكتب إلا ما اعتقده مع حسن النية وصحة القصد. وأوضح دليل على ذلك أحجُّ به من أساء به الظن من المسلمين؛ لأنه غير مسلَّم هو أنه أثبت أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قام بالدعوة وهو موقن بأنه مرسل من الله تعالى، وأنه لم يكن طالب ملك ولا مال ولا جاه بل طالب إصلاح ألهمه الله تعالى القيام به"   

ومن صور ثناء الشيخ رضا على كتابة زيدان إقراره بأن في كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) "فوائد كثيرة لا تجدها مجموعة في كتاب عربي". وقد أثنى رضا على بعض مباحث الكتاب مبينًا إنصاف زيدان وعدم تعصبه، فقال: "قرأنا نبذًا من الكتاب متفرقة فرأيناها شاهدة لما نعتقده في المؤلف من الإنصاف". بل إنه اتفق مع زيدان في بعض تحليلاته، مثل ما ذهب إليه زيدان في كتابه من ظلم الأمويين، وهو الأمر الذي وجه بسببه النعماني لزيدان الكثير من الاتهامات إذ علق رضا على ذلك بقوله: "إن السبب الصحيح في تمكن بني أمية من الظلم هو هدم قاعدة الشورى، وسيطرة الأمة على الحكام ... وقد تمكن بنو أمية من هدم هذا الركن الركين بعصبتهم المؤلفة من الموالي وغيرهم ممن لم يتمكن الإسلام من نفوسهم، واستعانوا على ذلك بالمال الذي أخذوه من غير حقه". أي أن رشيد رضا لم ينف  وجود المظالم  في زمن الأمويين بل أيد وجودها وقدم أسباب حدوثها. 

  كما أن رشيد رضا قدم اعتذارًا واضحًا لجرجي زيدان عما تضمنه نقد شبلي النعماني له ولكتابه من اتهامات مثل الخيانة والتحريف والاحتيال والكذب والحقد وغيرها، وتأكيده على معنى رفضه للطعن الشخصي في انتقاد شبلي النعماني؛ إذ قال: "كتبنا مقدمة لانتقاد الشيخ شبلي إذ طبع على حدته بيَّنا فيها ذلك، وإننا لو اطلعنا على ما فيه من الشدة قبل نشره، لراجعنا الكاتب فيه واستأذناه بحذف الطعن الشخصي منه، وقد نشرنا تلك المقدمة في (المنار) تعزيزًا لدفاعنا السابق بالقلم واللسان، عن رجل عددناه صديقًا لنا، وعضوًا نافعًا في أمتنا".

وكان آخر ما كتبه رضا حول الموضوع  مقالته في تأبين جرجي زيدان التي قال فيها: "فقدت الأمة العربية بهذا الرجل ركنًا من أركان نهضتها الحديثة في العلم والأدب، بعد أن نضج علمه، واتسعت معارفه، وكملت تجاربه، وصار أقدر على إتقان خدمتها، ومساعدة نهضتها". وقال في المقالة نفسها: "وكان سلمًا نزيه القلم، يتقي كل ما يثير غضب أصحاب المذاهب الدينية، والأحزاب السياسية، ولكنه لم يسلم مع ذلك من اتهام بعض سيئي الظن من المسلمين والنصارى، فقد اتهمه بعض الأولين بتعمد الطعن في الإسلام بفرية يفتريها، أو دسيسة يدسها، وكانوا يستدلون على ذلك ببعض الأغلاط التي وقع فيها، أو تصوير بعض المسائل بغير الصورة التي يعرفونها، لفهمها بغير الصفة التي يفهمونها، ورد عليه بعض هؤلاء في (المؤيد). وطالما رددت على بعضهم مبرئًا له من سوء القصد، لما لي فيه من حسن الظن. وأشرت إلى ذلك في (المنار) غير مرة".

الشهادة الخامسة- شهادة عالم الشام الكبير محمد كرد علي (1876 - 1953م). علق كرد علي على الكتاب إجمالًا بقوله إنه من الكتب النافعة التي عني بتأليفها، وأن من يطالع فهرس الكتب العربية والإفرنجية التي رجع إليها جرجي زيدان في وضع مصنفه يتجلى له قدر التعب والمعاناة. ثم نص كرد علي على أن الكتاب يحتاج إلى تصويبات واستدراكات، وقال: "أما وقد وضع الآن صديقنا المؤلف الخطوط المهمة من رسم هذا الموضوع الواسع فسيجيء يوم يستوفيه هو بنفسه فيزيد فيه أو ينقص منه أو يجيء غيره من متعاطي هذا الفن فيصلحون بعض ما وقع له منها مما لا نسميه هفوات بل اضطراريات لا مناص للواضع في فرع من فروع العلم من الوقوع فيها... فنهنئ المؤلف على هذا العمل النافع الذي جعله خلاصة علمه وزبدة ما وصل إليه اطلاعه على الفن الذي يمت به ونسأل الله أن يكثر فينا من أمثاله العاقلين الفضلاء".

الشهادة السادسة- شهادة الأديب الكبير مصطفى لطفي المنفلوطي (1872- 1924م). بعد رحيل جرجي زيدان  نشر المنفلوطي مقالًا يُعتبر وثيقة راقية في الدفاع عن زيدان  إزاء الطاعنين عليه؛ حيث قال عنه: "كان شريف النفس بعيد الهمة متجملًا بصفات المؤرخ الحقيقي الذي لا يتعصب ولا يتحيز ولا يداهن ولا يجامل، ولا يترك لعقيدته الشخصية مجالًا للعبث بجوهر التاريخ وحقائقه". وقال عن الناقدين المتربصين له ولكتاباته: "وقف له في طريق حياته كما وقف لغيره من قبله ومن بعده فريق المقاطعين في هذا البلد الذين لا ينطقون ولا يسكتون عن مقاطعة الناطقين، فلبسوا ثوب الانتقاد ليشتموه، وكمنوا وراء أكمة الدين ليرموه فيصموه. وقالوا إنه شوه وجه التاريخ الإسلامي وعبث بحقائقه، ولم يسألوه من أين نقل ولا كيف استند، بل سألوه لمَ لم يكتب كما كتبوا، ولم يستنتج مثل ما استنتجوا، كأنما لم يكفهم منه أن يروه بينهم مسيحيًّا متسامحًا حتى أرادوا منه أن يكون مسلمًا متعصبًا، يكتب التاريخ بلسان الدين كما يكتبون، وينهج فيه كما ينهجون، فلما لم يجدوه حيث أرادوا؛ رموه بسوء القصد في عمله وخبث النية في مذهبه، ولم يستطيعوا أن يروضوا أنفسهم الجامحة على أن يقولوا إن الرجل باحث مستنتج يخطئ مرة ويصيب أخرى أو يقولوا إن له في تاريخ الإسلام حسنات تصغر بجانبها سيئاته فيه فلتغتفر هذه لتلك".

هذه بعض الشهادات اليسيرة مما يقتضيه المقام في مقال محدود الصفحات، وهي شهادات تدل على ما تمتع به أصحابها من موضوعية علمية، تُعطي لكل ذي حق حقه من التقدير والإنصاف. وليس معنى هذه الشهادات أن أصحابها لم يقوموا بتوجيه بعض الانتقادات والملاحظات التي استقبلها  جرجي زيدان بصدر رحب شاكرًا أصحابها، كما أنه أفاد منها إفادة كبيرة ظهرت عبر عدة مستويات. منها أخذه ببعض المقترحات التي وجهت إلى الجزء الأول من كتابه (تاريخ التمدن الإسلامي) في الأجزاء التالية، ومنها كذلك أنه عندما شرع جرجي زيدان في إصدار الطبعة الثانية من كتابه استجاب لبعض الانتقادات التي وجهت إليه، وقام بإجراء تصحيحات وتعديلات تدل على أنه لم يستنكف الرجوع إلى الصواب الذي اقتنع به؛ ومعنى ذلك وجود الأثر الإيجابي للحركة الثقافية حول الكتاب من ناحية، وتوافر شروط النقد الذاتي عند جرجي زيدان من ناحية ثانية؛ وهو الأمر الذي يبين بجلاء طبيعة الشخصية العلمية عند جرجي زيدان وتكاملها.