السبت 7 سبتمبر 2024

جُرجي زيدان في كتابات بعض مؤلفي التراجم والسير وكبار الكُتّاب والشعراء


د. رامي عطا صديق كاتب وباحث- أستاذ تاريخ الصحافة

مقالات7-9-2024 | 00:52

د. رامي عطا صديق

للكاتب الصحفي والمؤرخ الكبير جرجي زيدان، الذي عاش بين 14 ديسمبر 1861م و21 يوليو 1914م، مكانة كبيرة ومتميزة بين رواد الصحافة المصرية، الذين برزت أعمالهم خلال نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وهو يقف في الصف الأول بين رواد التنوير الذين عرفتهم مصر والمنطقة العربية، بفضل ما أصدره من مؤلفات تاريخية وأعمال أدبية، بالإضافة إلى عمله الأكبر والأهم، ونقصد مجلة (الهلال)، وهي مجلة علمية تاريخية صحية أدبية صدر أول أعدادها في سبتمبر 1892م، وهي واحدة من المجلات الثقافية الرائدة، خاصة وأنها تُعتبر أقدم مجلة ثقافية عربية ما زالت توالي الصدور إلى اليوم. 

وحسب البعض فإنه "لو لم يؤسس جرجي زيدان غير دار الهلال وحدها لدخل تاريخ الثقافة في مصر من أوسع أبوابه، فقد وهبه الله عبقرية ثقافية نادرة مكنته من وضع الثقافة المصرية على بداية المسار الصحيح، في وقت كان فيه المستعمر الإنجليزي الغاصب يحتل مصر بالكامل، من أرضها إلى نيلها، ومن لقمة خبزها إلى جلابية أبنائها. وكانت مصر فى تلك الحقبة المتقدمة من تاريخها مركزًا ومنارة للحركة الثقافية في محيطها العربي والشرق أوسطي، ومكانًا وملجأ آمنًا يقصده الكتاب والمثقفون من الشوام وغيرهم من أجناس ومذاهب شتى" (رمضان رمضان متولي، جرجي زيدان ودوره التنويري في مصر، مجلة الهلال، يناير 2012م).

وقد تنوعت مؤلفات جرجي زيدان بين التاريخ والتراجم والسير واللغة وآدابها وأدب الرحلات والعلوم الطبيعية والتراجم والسير والروايات، ونذكر من تلك المؤلفات: العرب قبل الإسلام، تاريخ التمدن الإسلامي "خمسة أجزاء"، تاريخ مصر الحديث "جزآن"، تاريخ الماسونية العام، تراجم مشاهير الشرق "جزآن"، الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية، آداب اللغة العربية "أربعة أجزاء"، اللغة العربية كائن حي، أنساب العرب القدماء، طبقات الأمم، عجائب الخلق، خلاصة تاريخ اليونان والرومان، مختصر جغرافية مصر، رحلة إلى أوروبا، الرحلات الثلاث الآستانة- أوروبا- فلسطين، علم الفراسة الحديث. ومن رواياته: فتاة غسان، أرمانوسة المصرية، عذراء قريش، 17 رمضان، غادة كربلاء، الحجاح بن يوسف، فتح الأندلس، شارل وعبد الرحمن، أبو مسلم الخراساني، العباسة أخت الرشيد، الأمين والمأمون، عروس فرغانة، أحمد بن طولون، عبد الرحمن الناصر، فتاة القيروان، صلاح الدين الأيوبي، شجرة الدر، الانقلاب العثماني، أسير المتمهدي، استبداد المماليك، المملوك الشارد، بيت القصيد، جهاد المحبين.

والواقع أن السيرة أو الترجمة، وباعتبارها قصة تاريخية، فإنها "قصة تتعلق بحياة إنسان فرد ترك من الأثر في الحياة ما جذب إليه التاريخ، وأوقفه على بابه.. وأبرز ما في السيرة هو العمل الكبير الذي قام به صاحبها، والأثر الفعال الذي تركه بعمله في الحياة الإنسانية، وبقدر ما يعظم هذا العمل ويعظم تأثيره، بقدر ما يحفل به التاريخ فيقص خبره ويروى سيرة صاحبه"، كما أن السيرة (الصحفية هنا تحديدًا)- وباعتبارها جزءًا من الكل التاريخي للإنسانية جمعاء، فإنه يمكن القول أيضًا إنها "النتاج الحقيقي الرائع للتفاعل بين الزمان والمكان معًا" (حسين فوزي النجار، التاريخ والسير، القاهرة: دار القلم- المكتبة الثقافية، 1964م)، وبالتالي ما ينتج عن ذلك التفاعل من أعمال ومواقف ورؤى إزاء قضايا وأحداث مختلفة يمر بها المجتمع. حيث تمثل التراجم جنسًا أدبيًا تتطلب دقة العلم وجمال الفن والحقيقة الشعورية للرواية وحقائق التاريخ، حسب الكاتب والأديب أندريه موروا Andre Maurois، (أندريه موروا، فن التراجم والسير الذاتية، ترجمة وتقديم وتعليق: أحمد درويش، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة- المشروع القومي للترجمة، 1999م). وهو ما يتضح بشكل صريح عند تبني هذا النوع من الكتابة وممارسة التأريخ لشخصية فذة ومتميزة في مجال ما. 

وإذا كان المجتمع المصري قد عرف عددًا من الزعامات الصحفية، بتعبير د. عواطف عبد الرحمن ود. نجوى كامل في كتابهما المشترك (الصحافة المصرية: دراسة تاريخية، القاهرة: مؤسسة الطوبجي للتجارة والطباعة والنشر، 2004م)، فإننا لا نبالغ إذا قلنا إن جرجي زيدان كان واحدًا من "الزعامات الصحفية" التي عرفتها مصر نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
من هنا كان من الطبيعي أن يحتفي كُتّاب التراجم والشخصيات بسيرة جرجي زيدان، باعتبارها قصة نجاح رائدة ومُلهمة، الغرض منها كتابة حياته وتوثيق مسيرته الأدبية وبيان أعماله أمام الأجيال المتعاقبة.
في هذا المقام نستعرض هنا بعض هذه الكتابات..

واحد من الأعلام

أشار إليه المؤرخ والأديب الدمشقي الأصل البيروتي المولد سعودي الجنسية خير الدين الزركلي (1893-1976م) في الجزء الثاني من كتابه الشهير (الأعلام) وهو "قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين"، وكان الزركلي قد بدأ عمله هذا عام 1912م واستمر فيه إلى قرب وفاته.

ذكر الزركلي المعلومات الأساسية عن جُرجي زيدان، فقال إنه "منشىء مجلة (الهلال) بمصر، وصاحب التصانيف الكثيرة. ولد وتعلم ببيروت، ورحل إلى مصر، فأصدر مجلة الهلال (اثنين وعشرين عامًا) وتوفي بالقاهرة"، ثم أشار إلى بعض عناوين مؤلفاته، بالإضافة إلى رواياته التي بلغت نحو "22" رواية.

أنشأ الهلال وانقطع إلى التأليف 

كتب عنه المؤرخ الموسوعي- السوري الأصل- عمر رضا كحالة (1905-1987م) في الجزء الثالث من كتابه (معجم المؤلفين)، حيث قال إنه ""مؤرخ. صحافي. قصصي. لغوي. مشارك في بعض العلوم. ولد ببيروت.. وأخذ مبادئ العلم في بعض مدارسها الابتدائية، وانتسب للكلية الأميركية لتعلم الطب، ثم غادرها إلى مصر ولم يكمل تحصيله، فتولى تحرير جريدة الزمان، ورافق الحملة إلى السودان كمترجم بقلم المخابرات، ثم عاد إلى بيروت فدرس فيها اللغتين العبرانية والسريانية، ورحل إلى لندن، ثم رجع إلى مصر، فحرر في المقتطف، وأنشأ مجلة الهلال، وانقطع إلى التأليف، حتى توفي فجأة بالقاهرة.."، ثم أشار عمر كحالة إلى بعض مؤلفات زيدان. 

طبيب أفكار

اعتبره الكاتب والأديب اللبناني مارون عبود (1886-1962) واحدًا من رواد الصحافة في كتابه (رواد النهضة الحديثة)، الذي صدرته طبعته الأولى سنة 1952م، حيث كتب يقول "أدرك زيدان البستاني وتأثر بأسلوبه، فكان في هلاله من الرواد الأركان. أراد أن يكون طبيب أجساد وشاء القدر أن يكون طبيب أفكار. فنشر رواياته التاريخية التي صادفت رواجًا عظيمًا فطبعت مرات. وتُرجمت إلى لغات عديدة. لقد سبق إلى مثلها سليم البستاني، ولكنها لم تكن كروايات زيدان فنًا، وإن لم تكن هذه في المستوى القصصي الرفيع".

ويضيف أنه "لزيدان كتاب تاريخ الأدب العربي الحديث، فهو أول من فصله على غرار الكتب الأوروبية، وقسم عصوره على غرار تاريخ الأدب الإنكليزي. وله أيضًا كتب عديدة أخرى في التاريخ وغيره، كتاريخ التمدن الإسلامي، والعرب قبل الإسلام، والفلسفة اللغوية، وعلم الفراسة، وغير ذلك"، ويختتم بقوله "إن لزيدان فضلًا جزيلًا على النهضة الحديثة، فهو من أركانها الكبار، قد علّم الناس تاريخهم، وسلاهم في وقت معًا".

من صفوة العصر ومشاهير رجال مصر

قدمه الكاتب والشاعر المصري زكي فهمي في كتابه المعروف (صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر) باعتباره "فقيد التاريخ والعلم والأدب"، ونقل عن مجلة (الهلال) بعض كلمات الرثاء والمديح. 

وكان جرجي زيدان يتولى كل أمور مجلته في أول نشأتها بنفسه، "من إدارة وتحرير ومكاتبات وغير ذلك مما لا يستطيعه إلا نفر من الرجال ولكنه كان يواصل العمل بلا ملل ولا إهمال توصلًا إلى النجاح حتى إذا اتسع نطاق المجلة عهد بإدارتها إلى حضرة شقيقه متري أفندي زيدان واستخدم آخرين للأشغال الأخرى وانقطع هو إلى التأليف والتحرير فكتب بعد نشأة الهلال مؤلفات عديدة.. وقام في أثناء عطلة الهلال الصيفية بعدة رحلات".

وتحدث صاحب (صفوة العصر في تاريخ ورسوم مشاهير رجال مصر) عن مولد جرجي زيدان ونشأته، ومؤلفاته التاريخية واللغوية والعلمية. وهو يصفه ويصف أخلاقه قائلًا "كان الفقيد ربعه ممتلىء الجسم أسمر اللون متوقد العينيين تظهر عليه ملامح الصحة والنشاط وكان رحمه الله بسيطًا في جميع أعماله ثابتًا صادقًا لطيف الحديث قريبًا إلى الناس لا يأنف من مجالسة من هم دونه ولا يلقى إلا والبشاشة تملأ وجهه. ولعل الصفة الغالبة في أخلاقه كبر النفس وقد كان مُخلصًا في عمله نزيهًا عن الأغراض لا يهمه إلا الوقوف على الحقيقة والتمسك بأذيالها ومن أقواله المأثورة "لا يصح إلا الصحيح ولا يبقى إلا الأنسب" وتجد إخلاصه هذا واضحًا في كل عمل شرع فيه وفي كل حرف خطه قلمه". 

زيدان ونهضة القومية العربية 

ومن خارج مصر والمنطقة العربية، كتب عنه آرثر جولد شميث "الابن"، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه (قاموس تراجم مصر الحديثة) الذي صدر باللغة الإنجليزية عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2000م، وترجمه إلى اللغة العربية وحققه الدكتور عبد الوهاب بكر، وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة عام 2003م.

يقول جولد شميث "الابن" عن جرجي زيدان إنه "قصصي، ومتفقه في اللغة، ومؤرخ، ومؤسس ورئيس تحرير (الهلال)"، ثم يذكر جانبًا عن مسيرته منذ ميلاده في بيروت ونشأته وتعليمه، وانتقاله إلى القاهرة، وعمله بالصحافة والتأليف وكتابة الروايات، وكيف أن زيدان دُعي للتدريس في الجامعة المصرية التي أُنشئت عام 1908م عن فجر الإسلام، لكنه تنحى بسبب خشية مديريها من رد فعل إسلامي مناوئ لتكليف مسيحي بتدريس التاريخ الإسلامي، حيث "قبل فصله بطريقة حافظة للكرامة".

ويختتم المؤلف كلامه عن جرجي زيدان قائلًا "ساعدت كتاباته عن التاريخ الباكر للعرب، إذا صححت تواريخه الآن، في إثارة نهضة القومية العربية في السنوات الأولى من القرن العشرين"، وقد "كانت وفاته في القاهرة غير متوقعة". 

الشعراء يرثون زيدان

لما توفي جُرجي زيدان في سنة 1914م، رثاه الشاعر الكبير أحمد شوقي (1868-1932م)، المُلقّب بأمير الشعراء، بقصيدة شعر امتدح فيها زيدان ومجلة (الهلال) التي أسسها، فهو يقول في قصيدته: 

(زيدان) إني مع الدنيا كعهدك بي
رضى الصديق مقبل الحاسد القالي
لي دولة الشعر طول الدهر وائله
مفاخري حكمي فيها وأمثالي
أن تمش للخير أو للشر بي قدم
اشمر الذيل أو أعثر بأذيال
قد أكمل الله زياك (الهلال) لنا
فلا رأى الدهر نقصًا بعد إكمال
ولا يزال في نفوس القارئين لــه
كرامة الصحف الأولى على التالي
فيه الروائع من علم ومن أدب
ومن وقائع أيام وأحـوال
وفيه همة نفس زانها خلـق
هما لباغي المعالي خير منـوال
علمت كل تؤوم في الرجال به
أن الحياة بآمال وأعمال
ما كان من دول الإسلام منصرما
صورته كل أيام بتمثال
وهل نحن إليه بعد فرقته
كما يحن إلى أوطانه الجالي
هضاب لبنان من منعاتك اضطربت
كأن لبنان مرمي بزلزال
كذلك الأرض تبكي فقد عالمها
كالأم تبكي ذهاب النافع الغالي
ومن جانبه رثاه الشاعر اللبناني المُلقب بشاعر القطرين خليل مطران (1872-1949م) قائلًا: 
لحقت بمن أرختهم فكأنكم
لذات العهد لم تفرقه أدهر
على الحي دون الميت تحسب أحقب
توالت وتحصى في التعاقب أعصر
ورب عليم لم يجيء متقدمًا
أتم علاه أنه متأخر
كما رثاه أيضًا عدد كبير من الشعراء منهم: شاعر النيل حافظ إبراهيم (1872-1932م)، والشاعر المصري تركي الأب شركس الأم ولي الدين بك يكن (1873-1921م)، والطبيب والأديب المصري الدكتور إبراهيم شدودي (ت 1931م). 
كتابات الهلال

كانت طبيعيًا أن تهتم مجلة (الهلال) بتأبين مؤسسها الكاتب والمؤرخ والأديب مؤسها جرجي زيدان، حيث أخذت تنشر أقوالًا مأثورة له في الأعداد التي تلت وفاته، كما نشرت (الهلال)، نوفمبر 1914م، موضوعًا عنوانه "جرجي زيدان. آراء الكتاب في الرجل وآثاره"، حيث امتدح خليل مطران "جرجي زيدان"، وقال إن من يُقدّر صنيع زيدان هو من ألقى نظرة على خزائن كتبه، ومن شهد غاراته على دور المطالعة في الشرق والغرب، ينهب فوائدها، ومن رقب عيشته الجافية عيشة التفكير الدائم والاستقراء المستمر، والزهد وتصفح الأسفار واستطلاع القديم من الأخبار، ومن قرأ كتبه في التاريخ وآثار الأقدمين، وكل عارف بدوره في التأليف القصصي، "أولئك دون سواهم يُقدّرون صنيع زيدان أحسن الله إليه بقدر ما كان له من الإحسان".

وفي عدد (الهلال)، ديسمبر 1914م، كتب الأديب والسياسي السوري رفيق العظم (1867-1925م) عن جرجي زيدان مؤرخًا، حيث قال "إن من يطالع كتب جرجي زيدان ويطالع كتب المؤرخين قبله لا يسعه إلا الاعتراف بفضله على التاريخ والافراد بأنه عانى من المشاق في وضع كتبه هذه ما لم يعانه مؤرخ من قبل وأنه اختط طريقًا خاصًا للمؤرخين من العرب في تقسيم التاريخ وترتيبه يشهد أنه كان من خيرة مؤرخي العرب وأطولهم باعًا في انتقاء المواضيع الاجتماعية التي لم يسبقه إلى التخصص بمثلها أحد من مؤرخينا الأقدمين.. لم أر أحسن من الأسلوب الذي اتبعه في كتبه المرحوم جرجي زيدان ولا أدق ترتيبًا للمواضيع واختيارًا للحوادث خصوصًا فيما يتعلق بالمدنية الإسلامية. فحق على كل مؤرخ أن يعترف بأن جرجي زيدان مؤرخًا بالمعنى الصحيح وأن له فضلًا على التاريخ العربي ببيان ما لم يسبق إليه من آثار المدنية العربية وتاريخها ينبغي أن يذكر له ما عرف التاريخ". 

وعن الفقيد كاتبًا تحدث الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924م) وقال كنت أرى عذوبة نفسه في عذوبة لفظه. وطهارة قلبه في طهارة لسانه وصفاء ذهنه في وضوح أغراضه ومراميه. وجمال ذوقه في جمال ملاحظاته واستنتاجاته. وكان خير ما يعجبني منه ترفعه عن مجاراة المتكبرين من الكتاب في كبريائهم ونزوله في كثر من مواقفه إلى منازل العامة ليحدثهم بما يفهمون لأنه كان من كتاب المعاني لا من كتاب الألفاظ. ولأنه كان يؤثر أن يتعلم عنه الجاهلون، على أن يرضى عنه المتحذلقون"، ويضيف "إن كان الرجل هو الكتابة كما يقولون فلا أعلم أحدًا في هذا البلد كان أولى بهذا الوصف من المرحوم جرجي بك زيدان فوارحمتاه له ووأسفاه عليه". 

وعن الفقيد صحفيًا أشاد الكاتب الصحفي يوسف الخازن (1871-1944م)،  بحسن إدارة جرجي زيدان لمجلة (الهلال)، حيث يقول إنه أصدر من مجلته -في حياته- اثنين وعشرين مجلدًا حيث "صدرت اثنتين وعشرين سنة متوالية بلا انقطاع ولا ارتباك كل جزء منها أوسع نطاقًا من سلفه وأغزر مادة وأدق بحثًا وأعم فائدة وأكثر اتقانًا وأدعى للمطالعة وأشهى. وشهرة بلغت أقصى المغارب والمشارق ورواج قلما تجد له مثيلًا في الصحافة العربية"، وهو يضيف أن "كل ذلك يشهد بطول باع الفقيد في فن الصحافة وصحة نظره فيه ويحفظ له مقامًا رفيعًا بين أهله وذويه ولا سيما إذا نظرت إلى رأس ماله المادي والأحوال المعاكسة التي تحدق بأمثاله في هذه الديار والمجلات العديدة التي توافر لها من أسباب الارتقاء والرواج ما لم يتيسر للهلال ومع ذلك ما كاد نجمها يطلع في سماء حتى أفل والهلال ينمو ويكفل".

ويشير الخازن إلى بعض السمات والصفات الصحفية التي تمتع بها جرجي زيدان، فيقول "أما المزايا الصحافية التي امتاز بها هذا الفقيد وكانت السبب في هذا النجاح الباهر فهي حسن الإدارة، واختيار المباحث، وسهولة الإنشاء، والإدارة، ينطوي تحتها أمورًا كثيرة مادية وأدبية كضبط المواعيد وحسن الطباعة وإتقان الوجه التجاري وحفظ النسبة اللازمة بين واجبات الصحافي وأميال الجمهور فلا يجاريها مجاراة عمياء ولا يصدمها صدمة تبعد القراء عنه وتورثهم النفور. وتاريخ الهلال يدلك على أن فقيدنا برع في هذا الوجه فإن الهلال ما تأخر يومًا عن ميعاده ولا جاء سقيمًا في حروفه أو رثًا في ورقه ولا وقع بينه وبين الرأي العام نفور مع وعورة بعض المسالك التي سلكها ومحاولة بعض ذوي المآرب إيغار الصدور عليه".

وعن جرجي زيدان روائيًا وصفه الصحفي والشاعر اللبناني نقولا الحداد (1878-1954م)، بأنه كان عدة رجال في رجل واحد، موضحًا أنه كان واحدًا من قرائه "وكل قارئ لزيدان مهما بعد عن مزاره يعرفه معرفة الصديق للصديق، فعشرات الألوف من قراء العربية في جميع أقطار العالم الذين تزدان مكاتبهم بعشرات من مؤلفات الفقيد النفيسة الخالدة يعرفونه كما يعرفه عشراؤه. يعرفونه عدة رجال في رجل واحد".

وعند الحداد أن زيدان كروائي مثل الرسام رفايل الذي رسم المكان، أما زيدان فقد صور الزمان، حيث صور نحو أربعة عشر قرنًا مرت على الشرق مفعمة بتقلبات المدنيات الشرقية وحوادث الأقوام العربية، وان رواياته جمعت دقة الحقائق التاريخية وجمال الحوادث القصصية وسلامة الأسلوب، فلا يستطيع القارئ ان يترك رواية قبل ان ينتهي منها مهما كانت شواغله. 

"والفقيد كقصصي كان يرتب القصة والحوادث فيها مدهشة وآخذة بعضها برقاب بعض ومنساقة كلها إلى ملتقى واحد هو النتيجة التي تتهافت عليها عواطف القارئ ومندمجة اندماجًا يقررها في ذهن القارئ كحقائق راهنة وما هي إلا حقائق تاريخية راهنة اللهم إلا النزر مما يختلفه من الأشخاص والحوادث تتمة القصة. وهو كروائي مؤرخ يتناول جميع الحقائق التاريخية من مصادر التاريخ الموثوق بها وينسقها في قالب الرواية بحيث لا تستطيع أن تميز بين أن تقرأ قصة فكاهية أو تاريخًا مسجلًا. وفي حواشي رواياته مسندات المصادر التاريخية الأمر الذي يصور للقارئ القليل من معاناة التأليف لهذا النوع من الروايات. وهو كروائي وصاف يوهمك وهو يصف المدن والمنازل والمضارب والقوافل والمجتمعات والعادات والأخلاق أنه كان مخالطًا للقوم ومشاهدًا للحوادث.

وهو كروائي حكيم يقف عند كل عبرة معتبرًا ويتدفق فلسفة اجتماعية وحكمة. فالذي يطالع روايات الفقيد يطلع على تاريخ الشرق لعهد الإسلام ويستلذ هذا التاريخ ويستوعبه من غير أن يعنت ذهنه". 

وفي عدد مجلة (الهلال)، يناير 1915م، أعادت المجلة نشر مقال كان الشاعر اللبناني جبران خليل جبران (1883-1931م)، قد نشره في مجلة (مرآة الغرب)، يقول في بدايته "لقد مات زيدان وممات زيدان عظيم كحياته جليل كأعماله. لقد رقدت تلك الفكرة الكبيرة وحول مضجعها تحوم الآن سكينة لوحي الهيبة والوقار وتترفع عن الحزن والبكاء. قد تملصت تلك الروح الطيبة ورحلت إلى عالم نشعر به ولا ندركه وفي رحيلها عظة للباقين في قبضة الأيام والليالي". 

وهو يصف زيدان بأنه فكرة متحمسة لا ترتاح إلا إلى العمل وروح ظامئة لا تنام إلا على منكبي اليقظة وقلب كبير مفعم بالرقة والغيرة"، ويقول عن حياة زيدان إنها "ينبوع تدفق من صدر الوجود وسار نهرًا صافيًا يروي ما على جانبي الوادي من النبات والانصاب". 

ويقول في ختام مقاله "إذن فمن شاء أن يكرم زيدان فليرفع نحو روحه ترنيمة الشكر وعرفان الجميل بدلًا من ندبات الحزن والأسى. من شاء أن يكرم ذكر زيدان فليطلب قسمته من خزائن المعارف والمدارك التي جمعها زيدان وتركها إرثًا للعالم العربي. لا تعطوا الرجل الكبير بل خذوا منه وهكذا تكرمونه. لا تعطوا زيدان ندبًا ورثاء، بل خذوا من مواهبه وعطاياه وهكذا تخلدون ذكره".