السبت 7 سبتمبر 2024

مقالات7-9-2024 | 00:51

يعد جرجي زيدان صاحب المواهب المتعددة من الذين أثروا الصحافة والأدب والتاريخ مما ساهم في إثراء العقول لكل ناطقي اللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى فهو من أعظم كُتَّاب الشرق وهو مؤسس مجلة الهلال العريقة التي مازالت تشع أنوارها في عالم الصحافة والأدب والتميز.

جرجي زيدان من مواليد 14 ديسمبر عام 1861 في بيروت بدولة لبنان لأسرةٍ مسيحية فقيرة من قرية عين عنب في جبل لبنان وكان والده حبيب زيدان رجلا أميًا يملك مطعمًا في ساحة البرج في بيروت يتردد عليه رجال الأدب واللغة وطلاب الكلية الأمريكية وقام والده بإرساله إلى مدرسةٍ متواضعة لتعلم القراءة والكتابة والحساب ليتمكن من مساعدته في إدارة المطعم وضبط الحسابات والتحق بعدها بمدرسة الشوام وتعلم اللغة الفرنسية ثم التحق بمدرسة مسائية لتعلم اللغة الإنجليزية وكانت والدته ترفض أن يعمل في مطعم والده وأرادت منه أن يتعلم مهنة فاتجه إلى صناعة الأحذية لكنه لم يستمر فيها لعدم رغبته في هذا العمل.

بدأ جرجي زيدان يميل إلى المعرفة والاطلاع وظهر شغفه بالأدب بعد أن احتك بالمتخرجين في الكلية الأمريكية ورجال الفكر والصحافة ممن كانوا يرتادون مطعم والده حيث كان يستمع لأحاديثهم وأفكارهم ويجلس معهم فشكلوا وجدانه وفكره وتوسعت مداركه.

رغب جرجي زيدان في تعلم الطب وقد تحقق له ذلك بعد اجتيازه لاختبار القبول فدرس الطب لعامٍ واحد في الكلية السورية البروتستانتية (الجامعة الأمريكية) وانتقل بعدها إلى دراسة الصيدلة.

زار جرجي زيدان لندن وتردد على مكتباتها ومتاحفها ومجمعاتها العلمية وعاد بعدها إلى القاهرة ليتولى إدارة مجلة المقتطف حيث بقي فيها ما يقارب العام ونصف العام وقد قدم استقالته من المجلة ليعمل في تدريس اللغة العربية في المدرسة العبيدية الكبرى لمدة عامين وقرر إلى جانب نجيب متري إنشاء مطبعةٍ خاصة لكن الشراكة لم تستمر أكثر من عام.. انفصلا بعدها ليحتفظ زيدان بالمطبعة حيث أطلق عليها اسم الهلال فيما أسس متري مطبعة أخرى وهى مطبعة المعارف واحتفظ جرجي زيدان باسم الهلال.

قرر جرجي زيدان أن يسافر إلى القاهرة فاقترض بعض المال من أحد جيرانه في بيروت وحضر إلى القاهرة وحاول أن يلتحق بكلية الطب في القاهرة إلا أنه غيَّر رأيه وبدأ يبحث عن عمل وبالفعل تحقق له ذلك وبدأ العمل في تحرير جريدة الزمان التي كان يمتلكها رجلٌ أرمني الأصل وكانت هذه الجريدة هى الوحيدة في القاهرة بعد أن أوقف الاستعمار البريطاني جميع الصحف في تلك الفترة ثم عمل مترجمًا في مكتب المخابرات البريطانية في القاهرة ورافق الحملة البريطانية التي توجهت إلى السودان لإنقاذ القائد الإنجليزي جوردن من حصار جيش المهدي وبعد رحلةٍ استمرت عشرة أشهر عاد إلى بيروت عام 1885، وانضم إلى المجمع العلمي الشرقي الذي أُنشئ عام 1882 كما تعلم اللغة العبرية واللغة السريانية الأمر الذي مكّنه من تأليف أول كتاب وهو فلسفة اللغة العربية عام 1886م.

تزوج جرجي زيدان وأنجيب ابنًا وابنتين وعندما أصدر جرجي زيدان مجلة الهلال في القاهرة كان يحررها بنفسه وبعد أن كبر ولده إيميل كان يساعده في ذلك وصدر العدد الأول من مجلة الهلال عام 1892 وحمل افتتاحيةً بقلم جرجي زيدان موضحًا من خلاله خطته وهدفه من إنشاء هذه المجلة وبسبب نشاطه وعمله المتفاني تمكن من جذب الأنظار إليه حتى غدت المجلة خلال خمس سنوات من أوسع المجلات انتشارًا وقدَّم جرجي زيدان من خلال مجلة الهلال مجموعةً من كتبه وأعماله الأدبية على شكل فصولٍ متفرقة وقد خلفه في رئاسة تحريرها عام 1914 ابنه إميل زيدان.
تطورت مجلة الهلال لتكون نبتة لمؤسسة صحافية كبرى فتحولت المطبعة الصغيرة في الفجالة إلى دار كانت تطل على ميدان التحرير ثم انتقلت إلى موقعها الحالي في شارع المبتديان في بداية الأربعينيات وصدر عنها عشرات المطبوعات الدورية أهمها: مجلة المصور وسلسلة كتاب الهلال وروايات الهلال ومجلة الكواكب ومجلة حواء ومجلة سمير للأطفال وسلسلة ميكي جيب.

وعلى مسير حياة الهلال استكتبت المجلة نخبة من المفكرين والكتاب والصحفيين منهم على سبيل المثال الدكتور زكي مبارك ومي زيادة وخليل مطران وزكي طليمات والدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم وعباس العقاد والدكتورة بنت الشاطئ والدكتورة سهير القلماوي وأمينة السعيد وأحمد بهاء الدين ونجيب محفوظ وغيرهم من أعلام مصر والعالم العربي. 

جرجي زيدان له مؤلفات كثيرة ومتعددة ومتنوعة ففي مجال روايات سلسلة تاريخ الإسلام نذكر على سبيل المثال: المملوك الشارد وأسير المتمهدي واستبداد المماليك وجهاد المحبين وأرمانوسة المصرية وفتاة غسان وعذراء قريش وغادة كربلاء والحجاج بن يوسف وفتح الأندلس وشارل وعبد الرحمن وأبو مسلم الخرساني والعباسة أخت الرشيد والأمين والمأمون وأحمد بن طولون وعبدالرحمن الناصر والانقلاب العثماني وفتاة القيروان وصلاح الدين الأيوبي وشجرة الدر.. وفي التاريخ نذكر: تاريخ الماسونية والتاريخ العام وتاريخ اليونان والرومان وتاريخ إنجلترا 1899 وتاريخ التمدن الإسلامي والعرب قبل الإسلام ومصر العثمانية (غير منشور والمخطوطة لدى الجامعة الأميريكية في بيروت) وفي اللغة والأدب نذكر: الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية وتاريخ اللغة العربية باعتبارها كائنا حيا خاضعا لناموس الارتقاء وتاريخ آداب اللغة العربية كما قدم مؤلفاته في مجالات أخرى ونذكر منها على سبيل المثال: مختصر جغرافية مصر وعلم الفراسة وطبقات الأمم وتراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر، أما في السيرة الذاتية فنذكر: مذكرات جرجي زيدان والمدرسة الكلية كما توجد مخطوطات لدى الجامعة الأميريكية ببيروت ومن ضمنها رسائل إلى ولده إميل زيدان.

كان جرجي زيدان أول روائي عربي ترجمت رواياته إلى لغات أجنبية مرد ذلك ربما لكونه ثاني روائي عربي سبقه سليم البستاني ابن المعلم بطرس الذي اعتمد نهجا تاريخيا في بدور وزنوبيا والهيام في جنون الشام وأسماء لكن هذه كانت محاولات أولى بسيطة في حين اكتسبت مؤلفات جرجي زيدان شكلا ينتمي إلى حد كبير إلى فن الرواية في العصر الحديث.

كانت  أول رواية عربية منقولة إلى اللغة الألمانية وترجمها مارتن تيلو وهو قس بروتستانتي تخصص في اللاهوت والدراسات الشرقية وكان قد طلب من جرجي زيدان الإذن بنشر ترجمته وردّ عليه جرجي زيدان يوم 6 يناير عام 1914 بالرسالة الآتية: 

(حضرة الفاضل القس تيلو حفظه الله، بعد السلام، أخذت كتابك العزيز الذي تخبرني فيه أنك نقلت روايتي "المملوك الشارد" إلى اللغة الألمانية وتستأذن في نشرها، فأشكر لكم حسن ظنكم في الرواية المذكورة، ولا مانع عندي من نشرها على يدكم في هذه اللغة... واقبلوا جزيل الاحترام..  جرجي زيدان).

كان جرجي زيدان يعمل بجدٍ وقد انكب على كتاباته أواخر أيامه يسابق الزمن في إتمامها إلى أن تُوفي مساء يوم الثلاثاء 21 يوليو عام 1914 وبرغم رحيله إلى دار الخلود لكن مؤلفاته وأعماله وإنجازاته ومآثره لا تزال معنا وتعد عمر ثان له، وقبل أن نفترق أذكر مقولة المعطاء الموهوب جرجي زيدان والتي وضعتها في برواز على حائط غرفتي: (ليس الإحسان غذاءً ولا شرابًا ولا كساءً بل هو مشاركة الناس في آلامهم).