الأحد 6 اكتوبر 2024

«الهلال» شاهد على العصر تاريخ من الثقافة والإبداع والإلهام والوطنية

مقالات7-9-2024 | 00:50

ما قبل الهلال كان ظلاما، ثمة ارتباط عضوي في تاريخ الثقافة المصرية بين (الهلال) وأحداث مصر الثقافية والفكرية، فبعد مرور  ما يقرب من قرن ونيف من السنوات على صدور (الهلال) أصبحت خلالها أيقونة من أيقونات تاريخ مصر المعاصر، وديوان العصر الثقافي الذي لايمكن لأي مثقف أو مؤرخ عبوره دون أن ينهل منه، وعلى الرغم من التأميم الذي طال كل شيء في الخمسينيات والستينيات إلا أن الهلال واظبت على الصدور  متمتعة بقدر كبير من الحرية، نتيجة مجهودات رؤساء تحريرها من علامات الثقافة المصرية.

لا يمكن أبدا الحديث عن تاريخ الثقافة المصرية دون الحديث عن الهلال، وكيف تم التفكير فيها وكيف تم اختيار اسمها، لم يكن جرجي زيدان مجرد كاتب أو رئيس تحرير لكنه كان من أعظم العقول التي تقدر قيمة الخيال في هذا العالم، وربما لا يتفوق عليه أي رائد ثقافي في تاريخ مصر المعاصر بل يقف بجانبه ثلة من المبدعين في التاريخ الثقافي المصري منهم طه حسين ونجيب محفوظ ويحي حقي وتوفيق الحكيم ومحمد التابعي بارون أو أمير الصحافة المصرية (الذي ولد بعد إصدار أول عدد من الهلال بأربع سنوات) ومحمد حسنين هيكل رائد تطوير الصحافة المصرية والأخوان علي ومصطفى أمين، ولا تتفوق أي مطبوعة دورية في تاريخ مصر الحديث أو حتى في التاريخ العربي المعاصر على الهلال التي ظهر عددها الأول في1 سبتمبر 1892، كان عمر جرجي وقتها 31 عاما، هل يمكنك تخيل ذلك، كيف لرجل مازالت خبراته في الحياة غير ناضجة بشكل كاف أن يصدر مطبوعة شهرية في بلد كانت الأمية ترتع في جوانبه؟، هذا هو الخيال الذي أتحدث عنه، فمن كان بلا خيال وروح المغامرة، فهو أيضا بلا وجود، وككل نشأة لمطبوعة تحوم حولها الكثير من الأقاصيص والحكايات، ويصبح استمرارها في بحور من الأنواء مدعاة لاستعادة ليس فقط التاريخ، بل أيضا القيمة.

متى بدأت المجلات الثقافية في مصر

المجلات الثقافية التي لها طبيعة عامة (بمعنى يمكن قرائتها من قبل جمهور عام) يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر، وبشكل عام يعود صدور أول مجلة في مصر إلى عام 1797 وهو العام الذي دخلت فيه الحملة الفرنسية مصر، حيث أمر نابليون بونابرت العلماء الفرنسيين بإعداد واحد من أهم الكتب عن مصر وهو كتاب وصف مصر أو Description de L’Egypte، وفي نفس الوقت  (عام 1799)  أي بعد الحملة بعامين قام هؤلاء بإصدار مجلة متعلقة بالأحداث التي يقابلونها على الأراضي المصرية، هذه المجلة بعنوان بريد مصر أو  Courrier de L’Egypte التي توقفت بخروج (الفرنجة) من مصر عام 1801، ليعود فراغ الصحف والمجلات ثلاثين عاما قبل أن يصدر الوالي محمد علي (الوقائع المصرية) أو الجريدة الرسمية لمصر. 

يستمر الحال سنوات، لكن تظهر مجلات وصحف عدة باللغات الفرنسية والإيطالية والإنجليزية والعربية، بل أصبح لكل الجاليات في مصر مجلاتها وصحفها، تواصل نشر الصحف والمجلات عبر العقود التالية.

يمكن القول بأن إجمالي عدد الدوريات (عدا الأكاديمية والجامعية) قد بلغ في مصر منذ ظهور أول دورية رسمية وهي الوقائع المصرية (1828) التي صدرت في حكم محمد علي ما يربو عدده على  750 دورية (تقريبا) إن لم يكن أكثر لكن هذا ما تم إحصاؤه حتى هذه اللحظة، يقول محمود قاسم إن الصحافة الثقافية بدأت بمجلة (روضة المدارس المصرية) التي صدر عددها الأول في أبريل نيسان 1870 عن ديوان عموم المدارس (وزارة المعارف - التعليم حاليا) وكانت تصدر كل أسبوعين ثم توقفت عن الصدور عام 1877.

أول مطبوعة عامة ثقافية في مصر

يمكن القول بأن العام 1876 يمثل الظهور الأول (الرسمي) للمجلات الثقافية في مصر، إذ ظهرت مجلة (المقتطف) ليعقوب صروف، واستمرت بين 1876 وحتى عام 1952، ويقول محمود قاسم عن ذلك في كتابه المهم "المجلات الثقافية في العالم العربي"، "إن القاهرة شهدت عام 1892 صدور مجلتي (الأستاذ) لعبد الله النديم الملقب بخطيب الثورة العرابية و(الهلال) لجرجي زيدان .. وفي حين واظبت الثانية على الصدور إلى الآن توقفت الأولى كما توقف كثير من المجلات الثقافية العربية طوال نحو 145 عاما  ولم يقدم قاسم تفسيرا لثنائية التوقف والاستمرار ولكنه سجل أن مجلة (الأستاذ) التي صدر عددها الأول يوم 23 أغسطس آب 1892 أراد لها النديم أن تكون “منبرا للأدب والفكر... انتشرت إلى آفاق ما كان يتوقع لها أحد ذلك... وغطت على أي مطبوعة أخرى.” ولكن نفي النديم بسبب معارضته للاحتلال البريطاني عطل صدور المجلة. واعقبتها مجلة الهلال عام 1892 التي رأس تحريرها الأديب والكاتب جرجي زيدان، ويبدو أن قدر المصريين في علاقتهم بأهل الشام كان أمرا في غاية الأهمية في الحياة الثقافية سواء السينما أو المسرح أو الكتابة الأدبية والصحافة، لقد كانت أغلب البدايات تأتي من هناك إلى هنا، تأثرا بالثقافة الفرنسية وظهور المطبعة في أوروبا إلى غير ذلك من العوامل، ولكن لماذا اختار أهل الشام الانتقال لمصر، هذا سؤال يستحق كثير من الدراسات فالأمر لا يتوقف على الفرار من السلطة العثمانية إلى مصر البعيدة عن السلطان العثماني وقبضته.

قيمة جرجي زيدان  (1861-1914)

يعد جرجي زيدان واحدا من اهم صناع تاريخ المجلات الثقافية في العالم العربي، لقد أدرك مبكرا جدا قيمة المطبوعات الدورية وخاصة المجلات ذات الطابع العام والثقافي الأدبي، بالنسبة لي وعلى المستوى الشخصي  كان جرجي صديق المراهقة الحميم فقد عرفته مبكرا جدا، وربما يكون أول كاتب عربي أعرفه، أول لقاء لنا كان على رفوف مكتبة السعيدية الثانوية في مقتبل السبعينيات بعد دخولي المدرسة الشهيرة بأيام وكان ذلك في العام 1972، نتيجة ارتباطي بجماعة أصدقاء المكتبة بالمدرسة، من هنا يتحول الخاص إلى عام والعام إلى خاص، كان اكتشافي لروايات التاريخ الإسلامي في مكتبة المدرسة أعظم اكتشافاتي في فترة المراهقة في هذا الوقت، كنت خارجا من محطة مجلات (الكوميكس) القرائية، وأبحث بضراوة عما يمكنه أن يملأ عقلي، كانت أعمال المغامرين الخمسة وأرسين لوبين والقديس وشرلوك هولمز وألفريد هيتشكوك وأجاثا كريستي تملأ منزلي، وحتى أعمال روايات عالمية والجيب لم ترضي غروري القرائي، إلا في جانب المتعة وتشجيعي على استمرار القراءة رغم ما في بعضها من ميول عنصرية واستعمارية يمكن ملاحظتها بكل سهولة، لكن اكتشاف جرجي أضاف للمتعة المعرفة والخيال في رواياته التي اتخذت سمتا إسلاميا، بالنسبة لي كان اكتشاف (جرجي) كاكتشاف ميلكيادس لحجر الفلاسفة وإقناع العقيد بوينديا أو أحد أحفاده  بها في رواية مائة عام من العزلة لجابرييل جارسيا ماركيز.

كان جرجي زيدان نقلة في غاية الأهمية على مستوى الثقافة ليس في مصر وحدها بل والعالم العربي ككل.، ورحل جرجي زيدان عن العالم مبكرا جدا في عمر 53 عاما، كانت أحلامه للمطبعة في مصر كثيرة ومتنوعة، والحقيقة أنه يذكرني في قدراته المعرفية والثقافية والعلمية بمجموعة الكتاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر إميل زولا، وجوستاف فلوبير، وستاندال، وفيكتور ماري هوجو، في انتاجهم الغزير والضخم، لم يكن مهما بالنسبة لي في هذا التوقيت أن أعرف كثيرا عن القيمة الأدبية للأعمال فذلك كان متروكا للزمن والقراءات الفاحصة، لكني قرأت أعماله بشغف وحنين رومانسي كنت أفهم أسبابه التي حصلت على بعضها من ألف ليلة وليلة، لكنه بلا شك كان قادرا على جذب انتباهي لهذه النوعية من القراءات التي أعادت كتابة التاريخ المدرسي أمامي، كيف كان ينتج كل هذا في زمن قصير، تضم سلسلة تاريخ الإسلام 23 عملا بجانب كتاباته في التاريخ والرحلات والعلوم الطبيعية واللغة العربية وآدابها، 

صدور الهلال

حين صدرت الهلال، كانت عينا جرجي زيدان على التأثير الاستعماري على الحياة السياسية والثقافية في مصر والعالم العربي لذلك حاول أن ينأى بها عن الصراعات السياسية المستعرة في ذلك الوقت بين مجموعة من الخصوم الذين كانوا يقفون للثقافة بالمرصاد، الإنجليز والملك والأحزاب والقوى الرجعية داخل المجتمع بشكل عام، صدر العدد الأول من مجلة (الهلال) في سبتمبر أيلول 1892 وفي الافتتاحية أوضح زيدان غايته من إصدار المجلة  بأن تكون  “علمية تاريخية صحية أدبية” كما كتب على صفحة العنوان الخارجية للعدد الأول، وأشار أيضا إلى أن اسم الهلال كان تبركا بالهلال العثماني، "الرفيع الشأن شعار دولتنا العلية أيدها الله"، وكان ينشر فصول أعماله الأدبية بها، وبشكل عام أبعدها قدر الإمكان عن الهموم السياسية وأصبحت منذ ذلك الوقت المبكر منبرا جاذبا للمفكرين والأدباء المرموقين. ويقول محمود قاسم إن “قيمة الهلال ارتفعت بسبب الثقافة الجادة والسجال الأدبي (في الحياة الثقافية المصرية) الذي لم يتوقف يوما.”  .

العدد الأول للهلال

وكدلالة على قيمة الهلال أن العدد الأول صدر في سبتمبر 1892 ويفتتحه بالقول ""أما الغاية التي نرجو الوصول إليها فإقبال السواد على مطالعة ما نكتبه ورضاؤهم بما نحسبه وإغضاؤهم عما نرتكبه فإذا أتيح لنا ذلك كنا قد استوفينا أجورنا فننشط لما هو أقرب إلى الواجب علينا، أما موضوع مجلتنا فمقسوم إلى خمسة أبواب  (هي) باب أشهر الحوادث وأعظم الرجال وباب المقالات، ثم يمنح قراؤه مقالة عن العثمانيون والسلطان عثمان الغازي،  ثم مقال عن قادة الرومان فيختار قائدين روميين عظيمين فيتحدث عن يوليوس قيصر والقيصر بومبيوس ويضع صورة لهما في قلب المقال، ثم مقال عن تاريخ الجرائد العربية مما يمنحنا فكرة كاملة عن ثقافة زيدان ومعرفته المؤكده بهذا الجانب ولماذا قرر إصدار مجلة، والمقال في غاية الأهمية لمتتبعي تاريخ الصحف العربية، ثم يمنحنا هدية أخرى وهي قائمة بالجرائد المصرية والسورية والاستانة وتونس ومراكش وقبرص وبيروت والقاهرة والإسكندرية والزقازيق وغيرها، التي كانت تصدر في ذلك الوقت وموضوع كل جريدة، وفي باب تاريخ الشهر يقدم مجموعة من الحوادث المصرية والأجنبية وتفاصيلها ومقال عن سليم بك تقلا مؤسس الأهرام، وحوادث استقاها من الصحف الأجنبية وقام بترجمتها وإعلان عن المؤتمر الجغرافي الأول ومتفرقات من الصحف الأجنبية كأهم المخترعات والمعارض ثم يقدم مجموعة من المسائل والأقوال التي تحتمل وجهين من التفسير أو تحتاج للبحث – وهي في غاية الطرافة- مثل:

"هل يتوقف نجاح البلاد على العلوم أكثر أم على الصنائع
هل تقل الشرور إذا توحدت اللغات
تتوقف تربية الأولاد على الوالدات أكثر مما على الوالدين
هل للنساء أن يطلبن كل حقوق الرجال
هل يقود التعمق في العلم إلى الكفر
هل الغنى المادي أفضل من الغنى العلمي
هل يكون الرأي العام في جانب الإصابة دائما
هل تنفع الغربة أكثر مما تضر
هل تنفع الروايات (إذا مثلت) أكثر مما تضر
هل يفيد التعليم الإجباري كما يفيد الاختياري"

ولا يفوته بعد سلسلة طويلة من استعراض الحوادث الطريفة أن يقدم مجموعة من الإعلانات حيث يضع ثلاثة إعلانات واحد لحبوب الشفاء والتي تشفي أمراض الصدر وإعلان عن الإكسير المقوي الحديدي والمقاوم لكل الأمراض المعدية وإعلان عن معمل تجليد الكتب بمطبعة الهلال بالفجالة.

الحقيقة أن الهلال ساهمت في توثيق الحياة والعادات والتقاليد والفكر والأحداث في العالم العربي ككل وليس مصر وحدها، وفي زمن لم يكن فيه في العالم العربي كله مجلة واحدة، كما وثقت أيضا الحركة الثقافية والمعارك الأدبية وعلى سبيل المثال في مقال في عدد ابريل 1967 من الهلال وكنموذج للمعارك الأدبية يكتب الكاتب الكبير أنور الجندي مقاله الموثق عن المعركة التي بدأها العقاد بنقد شعر شوقي في مجلة (الديوان) و(البلاغ) واستمرت خمس سنوات. 

كان جرجي يحرر الهلال بنفسه، في عام 1897 وبعد خمس سنوات من إصدارها أصبحت أوسع المجلات انتشارا في العالم العربي، وبعد وفاته  عام 1914 رأس تحريرها ابنه إميل زيدان، وشكري زيدان ثم الدكتور أحمد زكي، وعلي أمين، وفكري أباظة وأحمد بهاء الدين وكامل زهيري، ورجاء النقاش، ودكتور علي الراعي، وصالح جودت، وأمينة السعيد ود.حسين مؤنس، وكمال النجمي، ومصطفى نبيل، ومجدي الدقاق، وعادل عبد الصمد، ومحمد الشافعي، والروائي سعد القرش وخالد ناجح وأخيرا الكاتب الأستاذ طه فرغلي رئيس التحرير الحالي.