السبت 7 سبتمبر 2024

132 عاماً من الثقافة والفكر


محمود السعيد نائب رئيس جامعة القاهرة

مقالات7-9-2024 | 00:48

محمود السعيد

يصادف هذا العام الذكرى المئوية 132 لصدور أول عدد من مجلة «الهلال»، أعرق المجلات الثقافية في العالم العربي ومصر. ومنذ تأسيسها في عام 1892 على يد الأديب اللبناني جورجي زيدان، كانت «الهلال» وما زالت مرجعًا ثقافيًا وفكريًا أساسيًا للمثقفين في مصر والعالم العربي، وساهمت في تشكيل الوعي الثقافي والعلمي لدى الأجيال المتعاقبة منذ مطلع القرن العشرين.  وعلى الرغم من تأثيرات الثورة الرقمية والمتغيرات المتسارعة لثورة المعلومات، وانتشار المواقع الإلكترونية التي تتيح للقارئ بدائل كثيرة جدا، ما زالت مجلة الهلال تحتل موقع الصدارة بين المجلات الثقافية والأدبية وسط هذا الزحام المذهل من الإصدارات المطبوعة والإلكترونية.

وهناك عدة أسباب لاستمرارية مكانة مجلة "الهلال" المتميزة بين الإصدارات الأدبية والثقافية المختلفة، فقد تميزت المجلة منذ نشأتها بطرحها لموضوعات متنوعة تجمع بين الأدب، العلم، السياسة، والتاريخ وغيرها من الموضوعات التي تهم القارئ العربي والمصري "المثقف". وتعتبر هي المجلة الأولى التي قدمت للقراء العرب والمصريين العديد من المؤلفات الأدبية والمقالات العلمية المترجمة عن اللغات الأخرى، مما ساهم في تعزيز الحوار الثقافي بين العالم العربي وبقية أنحاء العالم.

لم يقتصر دور مجلة "الهلال" على نشر الوعي والثقافة بين عموم المصريين والعرب فحسب، بل كانت أيضًا تمثل مدرسة فكرية شارك في إنشائها العديد من الكتاب والمفكرين العرب الذين نشرت لهم مقالات وأعمال فكرية متميزة، أسهمت هذه الأعمال في إبراز أسمائهم على الساحة الأدبية والفكرية. فقد شارك في كتابة مقالاتها عدد كبير من رموز الفكر والفن والأدب والصحافة من أمثال جرجي زيدان مؤسس المجلة وابنيه إميل وشكري زيدان ، كما كان من كتابها عميد الأدب العربي طه حسين،  والعملاق عباس العقاد، و"السندبادة" مي زيادة ، وكبار الشعراء من أمثال شاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي وإبراهيم المازني وجبران خليل جبران ، وكبار الأدباء والكتاب في عصرهم من أمثال سلامة موسى ومحمد حسين هيكل والأديب اللبناني ميخائيل نعيمة وحسين مؤنس ولطيفة الزيات وأمينة السعيد ويوسف السباعي وأحمد بهاء الدين وفكري أباظة ومكرم محمد أحمد ورجاء النقاش...وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم.  وبهذا، يمكن القول إن مجلة "الهلال" قد ساهمت بشكل كبير في رسم ملامح الفكر العربي الحديث من خلال احتضانها لعمالقة الفكر والأدب والسياسة خلال القرن العشرين.

أيضا من أسباب تميز مجلة الهلال أنها كانت شاهدة بمقالاتها وأعمدتها على العديد من التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي مرت بها المنطقة العربية، وقامت برصد الأحداث الكبرى التي جرت في مصر والعالم العربي والعالم كله، من قبيل الحروب والأزمات السياسية، وتناولت قضايا النهضة والتحديث في المجتمعات العربية، مما جعلها منبرًا لتبادل الأفكار والمواقف. وبعد إصدار العدد الأول لها في عام 1892، قطعت المجلة خلال القرن العشرين رحلة طويلة من الكفاح والتخصص الفكري والأدبي والفني، ما لم تقطعه مثيلاتها في الوطن العربي بأكمله وكانت دائماً رمزاً للثقافة العربية في مواجهة المد الغربي، وقدمت دائماً للقارئ العربي كل ما هو جديد في العلم والأدب.

وشاركت المجلة قراؤها كل الأحداث السياسية التي مرت بها مصر والعالم، وكانت نافذة المصريون على الأحداث التي تقع في كل بقاع الأرض، وذلك قبل عصر الثورة الرقمية بقرن على الأقل.

فشاركت القراء أحداث الحرب العالمية الأولى التي اندلعت في عام 1914 والتي أثرت على حياة المصريين وأدت إلى تأثيرات اقتصادية خطيرة مثل زيادة معدلات البطالة ونسبة الفقر بينهم.

كما شاركتهم أحداث  اندلاع الثورة البلشفية في روسيا في عام 1917 والتي كانت نتاج التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية التي أحدثتها الحرب العالمية الأولى في أوضاع العالم وخصوصا في القارة الأوروبية من حيث تهيئة المناخ لانفجار الثورة الشيوعية.

 كما شاركت مجلة الهلال المصريين والعرب وصول العالم إلى حزمة من الاتفاقات والمعاهدات كنتيجة للحرب العالمية الأولى وهي المعاهدات التي أجحفت حق ألمانيا ومهدت لظهور الفكر النازي فيها ومن ثم الحرب العالمية الثانية. وتضمنت مقالات المجلة كتابات عن تأثيرات صعود النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا خلال عشرينيات القرن الماضي، والذى شهد أيضا أزمة اقتصادية ضربت العالم، والتي يطلق عليها أزمة الكساد الكبير أو العالمي في عام 1929، والتي حدثت بسبب التطبيق المتطرف لمبادئ الرأسمالية في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.

وكتبت المجلة عن  اندلاع الحرب العالمية الثانية عام 1939 وهي الحرب التي دمرت أوروبا و قتل فيها أكثر من 37 مليون شخص حول العالم، هذا بخلاف الجرحى والمشوهين ومن فقدوا عقولهم من أهوالها. 

ثم كتبت المجلة عن التبدلات العميقة في العلاقات الدولية التي أدت إليها نتائج الحرب العالمية الثانية مثل بروز الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي كقوتين كبيرتين ليحلا محل الإمبراطوريتين الاستعماريتين الإنجليزية والفرنسية واللذين سيطرا على العالم لعدة قرون، وأيضا كتبت المجلة عن حركات الاستقلال عن الاستعمار في قارة إفريقيا وأمريكا الجنوبية، ونشأة منظمة الأمم المتحدة. 

شارك كتاب المجلة أيضا في الكتابة عن اندلاع الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة والمعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، و احتلال الكيان الصهيوني لفلسطين عام 1948، وقيام ثورة 23 يوليو في مصر وبداية تحقيق الحلم المصري بوجود حاكم وجيش وطني بعد إلغاء الملكية ونفي الملك لإيطاليا وتحول نظام الحكم في مصر إلي جمهورية رئاسية، ثم العدوان الثلاثي على مصر انتقاما من الثورة وتأميم قناة السويس، ثم نكسة يونيو 1967 وما أدت إليه من تأثيرات اقتصادية واجتماعية وسياسية، ثم رد الاعتبار في حرب الكرامة حرب أكتوبر 1973 واستعادة كل شبر من أرض مصر الطاهرة، وملامح عصر الانفتاح الاقتصادي وتأثيره على المجتمع والمواطن المصري، مرورا بمشاركة مصر لدول العالم في حرب تحرير الكويت في بداية التسعينيات من القرن الماضي، ووقوع ثورتي 25 يناير و30 يونيو، ثم أزمات الاقتصاد والسياسة والأمن التي تعرضت لها مصر خلال العقد الأخير ردا على استجابة الجيش المصري الوطني لرغبة الشعب المصري في 3 يوليو 2013.  

والسؤال الذي يلح على الكثيرين في عصرنا الحالي هو هل ستظل المجلات الثقافية بما فيها مجلة الهلال تلعب الدور المهم في التنوير ونشر الثقافة بالرغم من  التطور التكنولوجي والتحول إلى القراءات الإلكترونية التي تتسم بالسطحية في أغلبها والبعد عن العمق. في رأيي أن المجلات الثقافية الأدبية وعلى رأسها مجلة الهلال ستظل أبرز منابر الثقافة والأدب والفكر والتنوير وتؤدي دورها التنويري في مصر والعالم العربي ولن تتراجع أمام التغيرات التي شوهت بعض ملامح الشخصية العربية وجعلتها تميل إلى القراءات السطحية غير المتعمقة، ولا أمام التطور التكنولوجي الذي سبق ذكره.

ستظل مجلة الهلال وباقي المجلات الثقافية تقدم كل ما هو مفيد وجديد ومعاصر بغرض الحفاظ على التراث وتقديم الإبداع المتجدد والاحتفاظ بطابعها وشخصيتها التي لا تمحوها المتغيرات العارضة الزائلة.

في ختام هذه المقالة وفي ذكرى صدور مجلة "الهلال"، نتذكر إسهاماتها الكبيرة في نشر المعرفة وتعزيز الثقافة في العالم العربي. لقد كانت وما زالت نبراسًا يهتدي به الباحثون عن الحقيقة والمعرفة، ومنبرًا يتيح المجال للنقاش والتفكير الحر. فاستمرارها في الصدور حتى اليوم يعكس حاجتنا الدائمة للثقافة والفكر في مواجهة تحديات العصر.