السبت 5 اكتوبر 2024

روح أكتوبر / رمضان 1973.. ما زالت ترفرف

مقالات5-10-2024 | 14:08

الإمبراطور والفيلسوف الروماني  ماركوس أوريليوس صاحب الكتاب الشهير «التأملات» التي يقول في إحداها «حياتنا من صنع أفكارنا»، الثقافة في تعريفها هي مجموعة الأفكار التي يمكننا أن نعيش بها، وإحدى موضوعات الثقافة النصر والهزيمة، فللمهزوم ثقافة كما للمنتصر ثقافة، أي مجموعة الأفكار والرؤى والمعتقدات التي تجعلنا ننتصر دائما مستغلين القوة الدافعة وزخم الانتصار لتحقيق انتصارات أخرى في كل مجالات الحياة، وهذه الأفكار سترتبط بعد ذلك بالسلوك الإنساني لمجموعة بشرية يمكنها أن تحول حياتها دائما وفق هذا المعتقد، وموضوعنا هنا ثقافة الانتصار.

يمكننا دائما استخدام (ثقافة النصر) في رفع شأن الأمة إذا امتلكنا مجموعة من الأمور، على يقين من أننا في الطريق لامتلاكها، وكذلك أيضا إذا استطعنا أن نتجنب المزالق التي انتهت إليها شعوب أخرى، وليس هناك أكبر من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبعض دول الكتلة الشرقية القديمة الذين فقدوا زخم ثقافة النصر بسبب بعض الأخطاء الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العميقة، أو بسبب عدم تغيير الإدارة السياسية للبلاد مما جعلهم يستنسخون الماضي على سبيل المثال، أو لم يستطيعوا القيام بالتغيير السياسي المنشود، فتم إجهاض ثقافة النصر أو حبسها عن أن تنطلق محققة آمال الأمة هناك، بينما وقعت دول أخرى في جحيم البحث عن هوية جديدة، وتوقفت دول أخرى بلا حراك نتيجة عدم وجود ثقافة التغيير أو ضآلتها إلى الحد الذي لا ترى معه هذه الثقافة.

ماذا حدث للمنتصرين في الحرب العالمية الثانية:

 هناك كتاب أمريكي بعنوان (نهاية ثقافة النصر) The End of Victory Culture، هذا الكتاب يتناول أحداث الحرب العالمية التي انتهت بخروج الحلفاء منتصرين على دول المحور، وكان على رأس الحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، وبين عام 1943 الذي شهد لحظة نصر الحلفاء وحتى عام 1970 وهو العام الذي شهد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام والخروج منها، هذا العملاق الذي خرج من الحرب العالمية الثانية وحشا يستطيع أن يفرض إرادته على الجميع، واستطاع أن يحقق انتشار ثقافته وإرادته في كل مكان في العالم، فقد انتهت الحرب بامتلاكه القنبلة النووية وتدمير اليابان بإلقائها على هيروشيما أغسطس 1945، وبعد سنوات صعد للقمر حين وطأ نيل أرمسترونج سطح القمر عام 1969، وقدم للعالم شبكة الإنترنت عام 1989،  كل هذه المنجزات عجلت بسيطرة ثقافة المنتصر وإرادته، لكن هذا الكتاب يروي لنا ببراعة ووضوح قصة زوال "ثقافة النصر" في أميركا، من هيروشيما إلى حرب الخليج. لقد كانت "أميركا المنتصرة" هي شعار البلاد منذ نشأتها. ويروي لنا مؤلف الكتاب توم إنجلهاردت، بوضوح شديد، نهاية هذا الخيال، من الذرة المنقسمة إلى فيتنام. ومن فيتنام إلى حرب الخليج، وحتى مع خروج الولايات المتحدة منتصرة إلا أنها أظهرت وجهها القبيح أمام العالم كله بتزييف الحقائق والكذب ومن ثم الهزيمة المعنوية الكاملة، ولكن أمريكا لديها جهاز قادر على إعادة استنساخ نفسه حتى في أصعب لحظات ضعفه.

حين غذت الآلة الإعلامية الأمريكية الثقافة الشعبية في الولايات المتحدة لتحقنها بثقافة (الهيرو) و(المنتصر) الذي يحارب (قوى الظلام والشر) في العالم، وكيف اتجه جورج بوش الابن في أعقاب الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 إلى رفع شعار (أسامة بن لادن، "مطلوب حياً أو ميتاً")؛ وكيف أعادت إدارته "ثقافة النصر" إلى الظهور كجزء من حربها العالمية ضد الإرهاب واندفاعها لغزو العراق في عهد صدام حسين؛ وكيف تحطمت وحرقت قصص الانتصار المختلفة التي نشرتها  إدارة بوش الابن في ذلك البلد منذ لحظة "إنجاز المهمة" وفقا لتعبير بوش نفسه، وهو ما أدى إلى  تحول ثقافة النصر إلى هزيمة للنظام السياسي الأمريكي ككل بظهور الوجه المتوحش (للرأسمالية والديمقراطية)، نتيجة حفنة من الأكاذيب والادعاءات التي ظهر في النهاية أنها غير حقيقية.

نفس الأمر حدث بشكل أو بآخر في الاتحاد السوفييتي السابق بعد الحرب العالمية الثانية، لكن ثقافة النصر هناك تحولت إلى ما يعرف بحبس أو إيقاف (ثقافة النصر) بشكل متعمد، حيث أعاد الروس إنتاج الديكتاتورية والزراعة الاشتراكية ووحدة العمال، وهو مالم يتحقق على أرض الواقع.

كيف سقطت دول مثل كرواتيا وكوسوفو في فخ (ثقافة النصر) وما العواقب السياسية التي جعلتها تدفع ثمن ذلك؟، هذا مايقوله باحث مهم هو ليودوسزينسكي ومجموعة من الكتاب السياسيين هناك،  وهي بعض الدول التي تمثل يوغوسلافيا القديمة، من خلال عدم التعامل مع القدرة الجدية التي توافرت لهم، أو الوقوع في براثن وجوه ماضوية لم يمكنها فعل الكثير من أجل التقدم المنشود.

الحالة المصرية وثقافة الانتصار:

عن الحالة المصرية فإنه خلال الفترة منذ عام 1882 وهو عام دخول الاستعمار الإنجليزي واحتلاله للبلاد وحتى عام 1972 خاضت مصر حروبا شتى، وبات في الوجدان المصري أننا لا نستطيع الانتصار خاصة بعد سلسلة من الهزائم، كان الإحساس الثقيل الذي يراوح فوق صدور المصريين يعود لمجموعة من الأسباب أولا الوحدة العربية التي لم نستطع تحقيقها إطلاقا على الرغم  من حديث الإعلام عنها وظلت تلك الظاهرة موجودة حتى ظهر السادات الذي قاد معركة هائلة من أجل تحرير الأرض ومن أجل توفير أرضية أفضل للحركة في القضية الفلسطينية وأيضا من أجل بناء ثقافة جديدة للمصريين تمكنهم من الانطلاق للمستقبل، وقبل حرب أكتوبر بقليل استطاع السادات إعادة الروح للقوات المسلحة من خلال حرب الاستنزاف التي أكدت على أن الهزيمة لم تنل من الروح المصرية من خلال العديد من انتصارات هذه المعارك الخاطفة بين 1969 و1971، كما استطاع إدارة ووضع خطة المعركة في سرية تامة، وكذلك استطاع إعادة العلاقات مع الخليج والعالم العربي لتتوحد الأمة كلها قبل الحرب بقليل وأثناء الحرب، كل ذلك من أجل الانتصار الهائل الذي تحقق بالفعل وبنجاح منقطع النظير رغم أنه كان يحارب الولايات المتحدة وقتها والعالم الأوروبي كما قال بنفسه وكان ذلك حقيقيا إلى حد بعيد!
كان من المفترض لثقافة النصر والحالة التي أحدثها نصر أكتوبر العظيم أن تخلق زخما فتيا جديدا قادرا على تغيير المجتمع كما يمكنه أن يقود مصر المنتصرة لأحلام جديدة.. لكن ذلك لم يستمر طويلا لأخطاء عديدة ومتنوعة.

بعد النصر مباشرة ولعدة سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة فقدنا قوة الاندفاع نتيجة مجموعة من السياسات التي أبطأت من إيقاع هذا الاندفاع، السبب الأول كان يتعلق بالولايات المتحدة التي كانت ترى أن السادات أخطر من أن يستمر،  فهو الوحيد عبر التاريخ الحديث الذي استطاع أن يوفر انتصارا للعرب وليس المصريين فقط، والأمر الثاني  يتعلق بتحول حالة الوحدة العربية التي أنجزت مهمة نادرة في حرب أكتوبر، تحول تلك الحالة للنقيض نتيجة الاختلاف مع السادات وكان يمكن استثمار تلك الحالة جيدا لكن الأخطاء الصغيرة أوقفت زخم النصر، مع وجود مجموعة من الدوافع السياسية لدى الولايات المتحدة التي كانت تقف بالمرصاد لهذا التحالف النادر، كان لابد من إجهاضه سريعا، فهو يشكل أكبر خطر على وجود إسرائيل، إذا استطعنا قراءة الخريطة السياسية سنفهم كيف تحولت الولايات المتحدة لتدمير مفهوم الوحدة العربية وتطبيق مبدأ ينسب لوزير الخارجية الأمريكي كيسنجر آنذاك، ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات دائمة بل هناك مصالح دائمة، ويعود ذلك لسببين، يبرزان من داخل الاقتصاد الأمريكي الذي يرى أن الهدف من الاقتصاد ككل هو تحقيق الأرباح ولا شيء غير الأرباح كمفهوم رأسمالي راسخ الآن، والأمر الثاني يتعلق بدور الإعلام في الولايات المتحدة لتحويل المجتمع هناك إلى مجتمع استهلاكي يرتبط بشاشة السينما وألعاب الأطفال وألعاب الكرة والطعام  والعلامات التجارية البراقة.

كيف يمكن استعادة ثقافة المنتصر؟

الحقيقة أنه رغم مرور أكثر نصف قرن تقريبا على انتصار أكتوبر إنما يمكن القول بأن الجيل الذي صنع الانتصار مازال يعيش بين ظهرانينا، ومازال يرى أننا لم نفقد أبدا زخم النصر، لكننا مررنا بفترات خمول، وتراجع لأسباب عديدة، من الصحيح أننا بحاجة لاستعادة روح أكتوبر التي رفرفت على كل نجوع وكفور وقرى وحارات وشوارع مصر في هذا الوقت، والتي لم نستطع استغلالها للآن بشكل كاف يعبر عن معدن حضارة الإنسان المصري عبر ما يزيد عن خمسة آلاف عام.

الانتصار الآن لا يعني الانتصار في قتال أو معركة حربية، بل يعني بناء دولة ذات ثوابت اجتماعية واقتصادية ومستقبلية، بناء الدولة أو إعادة بناءها أمر في غاية الصعوبة، وببساطة لكي تبني دولة يجب أن تفكر بعقل المنتصر، وعقل المنتصر دائما مشغول بالبناء والمحتوى والتقدم للأمام، وليس مشغولا بالأوهام أو لوم الذات أو التقليل من شأن ذاته أو الخضوع للإملاءات، بل هو موجه داخليا لتحقيق الانتصارات تلو الانتصارات، فهو مشغول طول الوقت بالانتصار للمستقبل.

كيف نصنع تاريخا للمستقبل القادم؟

نحن نصنع التاريخ إذا استطعنا أن ننتصر للمستقبل، والانتصار للمستقبل يعني ما نفعله الآن، وهذه لحظات معاناة ومخاض، هذا النموذج للعقل المنتصر الذي يسعى لتوفير القدرة على المنافسة بالتفوق على الذات وعلى الآخرين، فثقافة النصر لا تتعلق  بالآخرين، بل بالذات أولا من ناحية الثقة فيها ومنحها حجمها الحقيقي من خلال بناء مشروعات استراتيجية تعمل لما بعد المستقبل مثل إعادة بناء المشهد الحضري لمصر كلها وليس القاهرة وحدها والاهتمام بتحديث شبكة النقل والمواصلات، ومشروعات الطاقة  الضخمة والنظيفة وأمن  المياه وإطلاق الزراعة للتصدير وبناء المدن السياحية وبناء صناعات تكنولوجية منافسة والاستكشاف العلمي الذي يؤدي لمشروعات إنتاجية صغيرة  Startups خاصة صناعة البرمجيات والذكاء الاصطناعي واستكشاف الفضاء واطلاق الأقمار الصناعية المصنوعة بالكامل في مصر، وإذا ألقينا نظرة سريعة على ما يحدث في بلادنا فسنجد أننا بدأنا بالفعل في ذلك. كما أن توفير صندوق سيادي قادر على تحقيق الأرباح سيمثل حصنا لأي هزات مستقبلية، وهذا أمر معمول به في جميع الدول المتقدمة أو الدول التي تملك فائضا ماليا، بناء مدن ذكية قادرة على استيعاب النمو السكاني، وتوفر الرفاهية للشعب،  والتحول لمجتمع قادر على توفير السياحة بكل أشكالها وأنواعها، وتوافر القدرة على التنبؤ بأحداث المستقبل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتوفير تعليم متنوع يمكن أن يوفر حلولا تطبيقية ويجمع بين العلوم البينية التي تدمج بين العلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية، والتخطيط للوصول بالاستيراد لأقل المعدلات، كذلك التحول لاقتصاد يتعامل مع القوة الناعمة، فتاريخنا الكبير يضمن كل ذلك، ولو تسائلنا أين يحدث ذلك الآن، سأقول بلا تردد يحدث في أم الدنيا.. مصر وأن ذلك جزء من إرهاصات حرب أكتوبر وثقافة النصر العظيم.