السبت 5 اكتوبر 2024

الخداع الاستراتيجي لحرب أكتوبر.. في وثائق لجنة أجرانات

اللواء محمد الغبارى

تحقيقات5-10-2024 | 14:15

اللواء محمد الغبارى

انتشر مصطلح الخداع الاستراتيجي في الآونة الأخيرة بين أجهزة الإعلام والشباب والمفكرين أيضا وكثير منهم لا يعلم عن مفهوم الخداع الاستراتيجي القليل أو الكثير، فما هي قصة هذا المصطلح ومفهومه؟ وكيف تم استخدامه في الإعداد والتحضير والتنفيذ لحرب أكتوبر ولضمان تحقيق النصر لذا لابد لنا أن نتعرف على المتغيرات الحديثة  للمسرح العسكري والمسرح السياسي منذ الحرب العالمية الثانية حيث تطور الفكر الاستراتيجي العالمي بعدها في جميع العلوم السياسية والاستراتيجية خاصة، والتي تؤثر على جميع مجالات الأمن القومي بداية من المجال السياسي ومرورا بالمجالات الاقتصادي والعسكري والاجتماعي ووصولا للمجال التكنولوجي وذلك للتخطيط الاستراتيجي للتنمية الشاملة للدول بعد ما منيت به من خسائر أو مكاسب مدفوعة الثمن الغالي والباهظ  سواء مادية أو بشرية وكل حسب مكانته النهائية من الحرب العالمية الثانية، وتم ذلك بالأسلوب العلمي الحديث أي بدراسة قوى الدولة الشاملة لكل دولة او تجمع او حلف أي ان العالم أخذ بالعلوم الاستراتيجية للتخطيط الاستراتيجي لضمان الوصول إلى تحقيق قدر من مستوى الأمن القومي لها.

إن هزيمة يونيو 1967 المفجعة والمؤلمة للمصريين والتي أثرت على مكانة مصر الدولية مما دعا الرئيس جمال عبد الناصر أن يلخص الهدف الاستراتيجي للدولة بإعلانه مبدأ أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة جعل القيادة السياسية مع القيادة العامة من خلال مجلس الدفاع الوطني الذي من اختصاصه وضع السياسة العسكرية المصرية بالإضافة لخريجي أكاديمية ناصر العسكرية للعلوم الاستراتيجية. والتى أنشئت في عام 1964 يمكنها وضع التخطيط الاستراتيجي المصري اللازم للإعداد والتحضير والتنفيذ لاسترداد الأرض وذلك على الإمكانيات المادية والمعنوية التي تمتلكها الدولة 

- ومن المعتاد عند وضع الخطط العسكرية في الحروب والمعارك ان يوضع معها خطة الخداع وهذه الخطة يكون الهدف منها هو خداع العدو حتى يمكن للقوات المهاجمة أن تحصل على مبدأين من مبادئ الحرب هما المبادأة والمفاجأة، ولكن في الإعداد لحرب أكتوبر وجد ان خطة الخداع  المطلوبة ليس لذلك الهدف فقط، ولكنها ضرورية لحل مشكلة ومعالجة حجم الخسائر المتوقعة في القوات المصرية عند اقتحامها قناة السويس وخط بارليف الحصين والتي كان مقدرا لها أن تصل إلى 60 بالمائة في حالة الاستعداد القتالي الكامل للقوات الاسرائيلية باستكمالها للتعبئة الجزئية أو العامة، حيث يتكون الجيش الإسرائيلي من 25 بالمائة من قواته عاملة و75 بالمائة من قواته احتياطية مع وجود نظام استدعاء الاحتياط يتميز بالانضباط والسرعة والدقة. حيث تتم التعبئة للقوات العاملة خلال 24 ساعة فقط والقوات الاحتياطية خلال 48 ساعة تكون في مواقع القتال المحددة وهنا يمكنها النجاح في صد الهجوم المنتظر وإفشال العبور وهنا ظهر جوهر خطة الخداع الاستراتيجي المطلوبة للخطة المصرية وأصبحت ركيزة أساسية ومهمة لتحقيق العبور والنصر بأقل خسائر ممكنة وكان جوهرها هو منع العدو الإسرائيلي من إجراء أي نوع من أنواع التعبئة سواء كانت جزئية أو عامة وذلك حتى تستطيع القوات المصرية من اقتحام وعبور المانع المائي في وجود أقل قوة ممكنة من القوات الإسرائيلية المدافعة عن خط بارليف الحصين  وهو ما حدث وتحقق النصر. 

في يوليو 1972 اجتمع الرئيس أنور السادات مع رئيس المخابرات العامة والمخابرات الحربية ومستشار الأمن القومي والقائد العام للقوات المسلحة لوضع خطة خداع استراتيجي يسمح لمصر بالتفوق على التقدم التكنولوجي والتسليحي الإسرائيلي عن طريق إخفاء أي علامات للاستعداد للحرب وحتى لا تقوم إسرائيل بضربة إجهاضية للقوات المصرية في مرحلة الإعداد على الجبهة، واشتملت الخطة على ستة محاور رئيسية هي:

1 - إجراءات تتعلق بالجبهة الداخلية

2 - إجراءات تتعلق بنقل المعدات للجبهة 

3 - إجراءات خداع ميدانية

4 - إجراءات خداع سيادية 

5 - تأمين تحركات واستعدادات القوات المسلحة 

6 - توفير المعلومات السرية عن العدو وتضليله.

- إن المحاور الستة السابقة تشتمل على تفاصيل وإجراءات وخطوات تنفيذية سرية وعلنية ولسردها واعتراف الجانب الإسرائيلي بها وتأكيد انخداع وتوحد الفكر نتيجة الحالة الذهنية التي زرعتها المخابرات المصرية عن عدم قدرة الجيش المصري على الهجوم والحرب، فاقتنعت بها كل  القيادات الإسرائيلية وبتلك الإجراءات التي احتوتها خطة الخداع الاستراتيجي المصرية فلن أجد أقوى ولا أصدق مما جاء على لسان الجانب الإسرائيلي حيث تقرير لجنة أجرانات، وهى لجنة شكلت برئاسة رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية القاضي شمعون أجرانات عام 1973م والتي حققت فيما هو منسوب إلى القيادات الإسرائيلية مدنية وعسكرية من تقصير شديد من نتائجه الفشل في الاستعداد الكافى للحرب وأن الجيش ارتكب عددا من الأخطاء الجسيمة خلال الصراع وسأوضح ذلك من خلال الحوارات التي تمت أثناء التحقيقات بين القاضي والقيادات الإسرائيلية وهى مسجلة في أوراق التحقيق.

- كانت أولى جلسات تحقيق اللجنة مع رئيسة وزراء إسرائيل السيدة جولدا مائير عندما سألها القاضي أجرانات سؤالا مباشرا لماذا لم تصدرى تعليماتك بإعلان وإجراء التعبئة الجزئية أو العامة والذي أدى إلى الانخداع بالخطة المصرية حيث أجابت بأن مدير المخابرات العامة (الموساد) تسيفي زامير أخبرها بالآتي:

1 - إنه لا يوافق على إجراء التعبئة لأن المصريين لن يحاربوا لعدم حصولهم على السلاح الهجومي اللازم للحرب، وذلك لما قاله ويقوله الرئيس السادات دائما في خطبه السياسية وفى لقاءاته مع زعماء العالم عند حديثهم معه عن إمكانية التفاوض والسلام مع إسرائيل اننا في مصر مع السلام وإمكانية الحرب غير موجودة من غير سلاح هجومي، والذى يفتقده الجيش المصري حتى الآن بمعنى عدم حصوله على الطائرات التي تستطيع مهاجمة العمق الإسرائيلي وتفسير ذلك أن الطائرات المصرية كانت لا تستطيع الطيران لأكثر من 20-25 دقيقة فقط والطيران الإسرائيلي يمتلك طائرات يمكنها الطيران لمدة من 1.15-1.30 ساعة. 

2 - إن الرئيس السادات يتملكه الخوف الدائم من الهزيمة المؤكدة والمنتظرة ومن هنا نؤكد أن القيادة السياسية الإسرائيلية قد سقطت بدورها في فخ الرئيس السادات لدرجة أن جولدا مائير رئيسة الوزراء قالت أمام لجنة التحقيق في الإجابة عن سؤال لماذا لم تعلنى التعبئة ؟ بأنها كانت مقتنعة هي ووزراءها والجنرال إيلي زعيرا مدير المخابرات العسكرية (أمان) والجنرال تسيفى زاميرا مدير جهاز الموساد بأن السادات رجل هزلى غير جاد، ويقول ما لا يفعل ولا يخجل من تكرار وعوده الجوفاء بشن الحرب والتي لا يقصد بها سوى إلهاء شعبه كما قال موشى ديان وزير الدفاع، ومثال ذلك كما كان يقصد بالمناورات وتحريك القوات في اتجاه القناة كل فترة وهو ما يسمى بالمشروع الاستراتيجي لإشغال الضباط والجنود وكسر حالة الملل وتساؤلاتهم عن متى ستتم الحرب لتحرير الأرض؟.

3 - وأضاف مدير الموساد أن مصدره قد أبلغه أن الرئيس السادات قرر أن يعلن الحرب ويهاجم إسرائيل في مايو1973م، وأيدت ذلك القيادة السياسية في إسرائيل رغم أن مدير الموساد نفسه كان رافضا لهذا التقدير، ولما تأكد خطأ الإنذار رفع ذلك من مكانة وقدر رئيس الموساد مما زاد الثقة في تقديراته وتحليلاته عامة وخاصة الرافضة لقيام مصر بالحرب والهجوم في 6 أكتوبر 73 رغم الحشد المصري والسوري الواضح على كلتا الجبهتين.

4 - ان القيادة المصرية سمحت للضباط وأفراد القوات المسلحة ولأول مرة من يونيو 67 بالإجازات الطويلة ولخارج الأراضى المصرية مثل الحج والعمرة والمصايف. 

- كما استشهدت جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل بما قاله لها رئيس المخابرات العسكرية (امان)إيلي زعيرا في تقريره وتأكيده على موافقته على كل ما قاله مدير المخابرات العامة (الموساد) بالإضافة على تأكيده بعدم قدرة المصريين على الحرب للآتى:

1 - إن المشروع الاستراتيجي للمصريين انتهى يوم الخميس وتعود القوات المصرية إلى تمركزاتها السابقة الآن وغدا.

2 - إن القوات المسلحة المصرية أعلنت عن تسريح دفعة مجندين تبلغ حوالى من 25 ألف فرد إلى 30ألف فرد في إجراء لم يحدث منذ يونيو 67 فكيف تستعد مصر للحرب وتسرح قوات احتياطية؟ وفى حالة الحرب يحدث عكس ذلك

3 - إن عناصر الاستطلاع الإسرائيلية على قناة السويس أبلغت عن حالة استرخاء واضحة للقوات المصرية على دفاعات قناة السويس بعد عشرة أيام من العمل الجاد في المشروع الاستراتيجي والذى انتهى يوم الخميس الماضى فمنهم من يلعبون الكرة ومنهم من يسبحون في البحيرات ومنهم من يقومون بعمل جلسات سمر وفكاهة.

4 - أعلن في مصر عن قيام وزير الدفاع المصري الفريق أول أحمد إسماعيل عن استقباله لوزير الدفاع الروماني وتتخذ تتدابير الزيارة ومراسمها اعتبارا من يوم السبت القادم 6 أكتوبر.

5 - إن القوات المصرية لم تدفع بقوارب العبور التي ستعبر بها القوات قناة السويس ولم نتأكد من وجود معدات العبور الثقيلة، وهنا ظهر ضعف عناصر الاستخبارات والاستطلاع الميدانى حيث إن معدات العبور جاءت في الفتح الاستراتيجي للمشروع الاستراتيجي وبنهاية المشروع وبدء عودة القوات كانت تلك المعدات قد تم إخفاؤها وتمت عودة العربات الخاصة بها مع الأفراد التي تم تسريحها من القوات المسلحة بعد فترة تجنيد بلغت سبع سنوات. 

6 - واما قوارب العبور فلها قصة مخابراتية طريفة وعظيمة فقد تم استيرادها بكمية كبيرة وبأكثر مما  تحتاجه عملية العبور، وتم بقاؤها في جمرك الإسكندرية ولم يتم نقلها إلى القوات المسلحة مباشرة، ولكن وبأسلوب مخابراتي تم تسريب جزء منها وهو المطلوب للعبور إلى منطقة الدلتا ومنها إلى القوات على القناة، وتم تخزينها في سرية تامة عام 1972م وظلت باقى القوارب في جمرك الإسكندرية حتى أعلن قيام بعض المهربين بسرقة عدد منها بواسطة الصحافة، وهنا تدخلت القوات المسلحة وقامت بنقل القوارب من جمرك الإسكندرية بواسطة شركة نقل مدنية إلى مخازن وادى حوف في العراء وتم تغطيتها بمشمعات وشباك تموية حتى يتم الرصد من عناصر الاستطلاع والمخابرات المعادية، وهو ما حدث حيث وصلت معلومات القوارب المخزنة إلى السيد مدير المخابرات العسكرية أمان وعرضها بكل ثقة على رئيسة الوزراء والتي صدقته، ولكنهم فوجؤا بعبور القوات المصرية بها.

7 - أبلغ رئيس المخابرات العسكرية أمان رئيسة الوزراء جولدا مائير بقوله كيف تحارب مصر ومستشفياتها غير مستعدة لاستقبال جرحاهم من الحرب وطبعا ليقتنع هو بهذه المعلومة فلها قصة مخابراتية مصرية أخرى طريفة وهى أن أى دولة ستدخل حربا فإنها تخلى مستشفياتها من المرضى المدنيين والعسكريين استعدادا لاستقبال جرحى الحرب المنتظرين وهذ يحدث ضمن إجراءات الفتح الاستراتيجي للدولة، وقد تم وعند تنفيذ المشروع الاستراتيجي الذى نفذ في الفترة من 25سبتمبر حتى 4 أكتوبر 73 كانت المستشفيات خالية من المرضى لماذا؟، فقد تم منذ أربعة اشهر تسريح أحد الضباط الأطباء من القوات المسلحة لارتكابه إحدى الجرائم وعين في أحد المستشفيات الشعبية وهى مستشفى الدمرداش وبعد فترة من الزمن أشاع أن القوات المسلحة تقوم بإجراء تطهير مستشفياتها من فيروس جديد اسمه التيتانوس، وهو قاتل فكيف لا يتم ذلك في المستشفيات المدنية وخاصة التابعة لوزارة الصحة وتولى الإعلام بنشر وتحليل الخبر وأصبح هناك رأى عام بضرورة إجراء التطهير فأصدر وزير الصحة قرارا بتنفيذ ذلك اعتبارا من أواخر سبتمبر إلى منتصف أكتوبر وبذلك خلت المستشفيات من المرضى بسبب التطهير من الفيروس القاتل وليس من اجل الفتح الاستراتيجي للمشروع القائم فكيف ستحارب مصر ومستشفياتها بهذا الوضع؟ 

- قصة رئيس الأركان ديفيد إليعازر قائد جيش الدفاع الاسرائيلى مع لجنة أجرانات
صدر التقرير الأول للجنة في ابريل 1974م بشأن نتائج التحقيق في أسباب القصور الذى أدى الى الهزيمة في حرب الغفران 6 أكتوبر وأدان رئيس الأركان ديفيد إليعازر إدانة مباشرة والموضحة في النقاط الرئيسية الآتية:

1 - أن رئيس الأركان اعتمد اعتمادا كليا على وعد مدير المخابرات العامة الموساد بأنه سيقدم تقريرا به إنذار الحكومة ثبت من التحقيقات عدم سيطرته على القيادات الميدانية فى قيادات الجيش يحذر فيه من وقوع أى هجوم مصري أو سوري بوقت كاف لاتخاذ الإجراءات المضادة اللازمة للردع وهذا لم يحدث بل لم يقوم بوضع خطة دفاعية بديلة تنفذ تحت ضغط العدو لضيق الوقت. 

2 - ثبت من التحقيقات ضعف سيطرته على قيادات المنطقة الجنوبية (منطقة سيناء)

حيث أصدر قرارا بعزل قائد المنطقة من القيادة. ولكنه رفض تنفيذ الأمر وظل في ممارسة عمله وخالف الأوامر والتعليمات الصادرة لقيادة المنطقة الجنوبية ووضح ذلك في موضوع محاولة العبور المضاد إلى غرب القناة، وكان المقرر أن يتم من محور الفردان وحصار القنطرة وتم تنفيذ العبور من الدفرسوار بواسطة فرقة شارون المدرعة

- صدر قرار الإدانة والعقوبة بعزل رئيس الأركان ديفيد إليعازر من منصبه مع حرمانه من تولى أى مناصب حكومية مستقبلية في دولة إسرائيل وهو أول قرار شديد التأثير في تاريخ جيش الدفاع الاسرائيلى.

- من هذا العرض المختصر السريع لاعترافات القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية يتضح مدى وقوعهم في خطة الخداع المصرية العظيمة والتي اشتركت فيها كل الأجهزة السيادية المصرية وبإحكام السرية المطلقة والتنفيذ الدقيق لتحقيق الهدف الأسمى وهو الانتصار ومحو آثار هزيمة يونيو 67 واستعادة الأرض المسلوبة ومكانة مصر وريادتها.

الاكثر قراءة