اكتشف علماء الآثار من جامعة بلد الوليد في كهف ميلان، الواقع في شمال شبه الجزيرة الأيبيرية بمقاطعة بورغوس الإسبانية، صناعة حجرية أولية تعود إلى العصر الحجري القديم العلوي، أطلق العلماء عليه اسم "أرلانزيان"، هذه الصناعة تُعتبر الأقدم والأبعد جنوبًا من نوعها في شبه الجزيرة.
ويعد العصر الحجري القديم العلوي هو المرحلة الأخيرة من العصر الحجري القديم، ويُعتقد أنها بدأت حوالي 50,000 سنة مضت واستمرت حتى حوالي 10,000 سنة مضت.
تتميز هذه الفترة بتطورات هامة في الأدوات والتقنيات، بالإضافة إلى تغيرات كبيرة في نمط الحياة والسلوك الاجتماعي للإنسان العاقل
الأدوات الحجرية
استخدم الإنسان خلال هذه الفترة أدوات أكثر تنوعًا وتعقيدًا، بما في ذلك الشفرات والأدوات المجرفة، التي تم تصنيعها باستخدام تقنيات متقدمة مثل تقنية "الليفلوا" و"الأوريناسيون".
الفنون
ظهرت في هذه المرحلة أشكال من التعبير الفني مثل الرسم على الصخور والنحت، حيث عُثر على رسوم فنية في كهوف في أوروبا، تعكس حياة الإنسان في تلك الفترة.
التنقل والاستقرار
شهدت هذه الفترة زيادة في تنقل الإنسان بحثًا عن الغذاء، ولكن أيضًا بدأ بعض المجتمعات في الاستقرار في مناطق معينة، مما ساعد على تطوير الزراعة لاحقًا.
التفاعل الاجتماعي
زادت التعقيدات في الحياة الاجتماعية، مع ظهور هياكل اجتماعية أكثر تعقيدًا، وبدأت المجتمعات في تطوير أساليب للتعاون والعمل الجماعي.
وعلى الجانب الأخر، تظهر صناعة "أرلانزيان"، التي لا يزال أصلها غير مؤكد، أوجه تشابه تكنولوجية وتسلسلية مع صناعات أخرى مرتبطة بالتوسع المبكر للإنسان العاقل في أوراسيا، مما قد يشير إلى أصل تدخلي، ومع ذلك، لا يستبعد مؤلفو الدراسة السيناريوهات الأكثر تعقيدًا الناتجة عن التفاعلات بين مجموعات بشرية مختلفة.
تأتي أهمية اكتشاف الصناعة الأرلانزية في كهف ميلان ضمن سياق جيولوجي ومناخي معين، فخلال الانتقال من العصر الحجري القديم الأوسط إلى العصر الحجري القديم الأعلى، والذي وقع بين 50000 و40000 سنة مضت، تعايش إنسان نياندرتال مع الإنسان العاقل قبل أن يحل الأخير محل الأول.
وقد رافق هذه العملية ظهور صناعات حجرية مميزة، مما يدل على بداية العصر الحجري القديم الأعلى، وتعود صناعة الأرلانزية، التي يُقدر عمرها بين 44.8 و42.9 ألف سنة، إلى صناعات أخرى معروفة في أوروبا مثل الشاتيلبيرونيان والأولوزيان، رغم أنها تتمتع بخصائص فريدة ضمن السياق الأيبيري.
شملت البقايا المكتشفة في كهف ميلان أدوات حجرية وبقايا حيوانات، وقد خضعت لتحليل زمني وتكنولوجي شامل، استخدم الباحثون مزيجًا من التأريخ بالكربون المشع والتلألؤ لتحديد عمر الطبقات الأثرية بدقة.
تشير البيانات المستخلصة إلى أن احتلال حاملي الصناعة الأرلانزية للكهف كان قصيرًا نسبيًا ولكنه ذو أهمية لفهم التفاعلات بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل الأول.
وتعد أحد أبرز جوانب صناعة أرلانزيان هو الجمع بين تقنيات من العصر الحجري القديم الأوسط، مثل تقنية ليفالوا لإنتاج الرقائق، وخصائص العصر الحجري القديم الأعلى، مثل إنتاج الشفرات والنقط المحددة مسبقًا، يشير هذا المزيج من التقنيات إلى انتقال تدريجي وليس مفاجئ بين الثقافتين.
كما أظهرت دراسة بقايا الحيوانات، بما في ذلك أنواع مثل الحصان (Equus) والغزال الأحمر (Cervus elaphus) والوعل الأيبيري (Capra pyrenaica)، بيانات هامة حول استراتيجيات البقاء لسكان الكهف.
تُظهر تحليلات العظام أدلة على التعديلات البشرية، مثل علامات القطع والكسور الناتجة عن استخراج النخاع، مما يشير إلى الاستخدام المكثف للموارد الحيوانية، بالإضافة إلى ذلك، لم يتم العثور على أي دليل على نشاط الحيوانات آكلة اللحوم في الموقع، مما يعكس الهيمنة البشرية في ذلك الوقت.
تباينت البيئة المناخية خلال احتلال كهف ميلان مع مرور الوقت، كما يتضح من تحليل حبوب اللقاح والفحم من مستويات طبقية مختلفة، في المستويات الأدنى، التي تتوافق مع مرحلة أقدم، كان المناخ بارداً وجافاً، حيث تهيمنت الأعشاب والنباتات الصحراوية، بينما تعكس المستويات العليا مناخاً أكثر دفئاً ورطوبة، مع زيادة في أشجار الصنوبر والبلوط المتوسطي.
تتزامن هذه التغيرات المناخية مع التقلبات المناخية العالمية الموثقة في هذه الفترة، مما يعزز أهمية الموقع لدراسة التفاعلات بين تغير المناخ وديناميات السكان البشر.
حدد تحليل الفحم وجود أنواع مثل الصنوبر البحري والبلوط الأخضر، مما يدل على أن السكان البشر تكيفوا مع بيئة أكثر اعتدالاً وغابات خلال المراحل اللاحقة من احتلال الكهف.
تدور مناقشات رئيسية في علم الآثار حول طبيعة التفاعل بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل، ويوفر كهف ميلان، الذي يقع في منطقة استراتيجية بين منطقة كانتابريا والمناطق الوسطى من شبه الجزيرة، نافذة فريدة لاستكشاف هذه القضية، فرغم عدم تحديد الهوية البيولوجية لمبدعي صناعة أرلانزيا بعد، إلا أن التعايش مع إنسان نياندرتال يثير إمكانية التواصل بين السكان.
ومع ذلك، حذر الباحثون من أن أوجه التشابه بين الصناعات الحجرية في أرلانزيا وتلك في العصر الحجري القديم العلوي في أوروبا لا تعني بالضرورة الهجرة أو استبدال السكان، بل يمكن أن تعكس ظاهرة انتشار ثقافي، حيث تنتقل الابتكارات التكنولوجية بين المجموعات دون تحركات ديموغرافية كبيرة.
تدعم هذه الفرضية الأدلة المتزايدة على أن التفاعلات بين إنسان نياندرتال والإنسان العاقل كانت معقدة ومتنوعة، بما في ذلك حلقات التهجين المحلي في بعض مناطق أوروبا.
يتحدى اكتشاف صناعة أرلانزيان في كهف ميلان بعض النظريات التقليدية حول الانتقال إلى العصر الحجري القديم العلوي في شبه الجزيرة الأيبيرية، وحتى الآن، كان يُعتقد أن تطور الصناعات المتقدمة مثل الأوريناسيون والشاتيلبيرونيان اقتصر على المناطق الشمالية من شبه الجزيرة، بينما سادت تقنية موستيريا في المناطق الوسطى والجنوبية حتى اختفائهم.
يشير اكتشاف كهف ميلان إلى أن هذا الانتقال كان أكثر تنوعًا وأن السكان البشر في المناطق الداخلية شاركوا أيضًا في العمليات التي أدت إلى ظهور العصر الحجري القديم العلوي، وذلك نقلا عن موقع labrujulaverde.