الأربعاء 16 اكتوبر 2024

حلمى التوني وداعًا الفنان الشامل


صلاح بيصار

مقالات14-10-2024 | 11:42

صلاح بيصار

عن عمر يناهز 90 عاما..  ودع الحياة الفنان الشامل حلمى التونى .. الرسام والمصمم والمصور.. بعد رحلة من الإبداع تألقت بين سحر التشكيل والتعبير فى الفن الصحفى وفضاءات التصوير.. استمرت لأكثر من 65 عاما بداها قبل تخرجه بعامين من الفنون الجميلة عام 1958 حين عمل رساما بمؤسسة دار الهلال..  واستمر بها بعد التخرج مفضلا الصحافة على البعثة التى كان مرشحا لها بإيطاليا.. وصعد نجمه فى الإخراج الفنى والرسوم.. حتى أصبح مستشارا فنيا للمؤسسة.. تتألق رسومه وتصميماته على أغلفة مطبوعاتها من مجلة المصور ومجموعة الهلال "المجلة والكتاب والروايات".. وكانت المحطة الثانية فى حياته الفنية سفره إلى بيروت لأكثر من عشر سنوات.. عمل هناك بدور النشر للكبار وكتب الأطفال وتجربته بصحيفة ”السفير”.. ويعود بعدها ليكمل مشروعه الفنى بين الصحافة والكتاب.. مع لوحاته التى امتدت  بمراحل عديدة.. فى معارض بقاعات العرض الرسمية التى تنتمى لوزارة الثقافة والقاعات الخاصة.

المولد والنشأة

 ولد حلمى التونى ببنى سويف لأب كان يعمل مهندسا للطرق..  ويتنقل كثيرا.. ينتمى لأسرة أصلها بتونة الجبل.. غرب ملوى التابعة  لمحافظة المنيا انتسبت إليها فى اللقب.. وهى منطقة حافلة بالآثار.

انتقلت الأسرة إلى السيدة زينب هذا الحى  الحافل بالتفاصيل والمفردات.. من العمق الشعبي.. بين سحر المشربية وبنات البلد باليشمك ورنة الخلخال.. مع عبق الماضى من محلات العطارة والمنى فاتورة والعطور والمسبحات.. والصور الحافلة بالنبض الإنسانى فى مولد "السيدة الكريمة".. من الطرق الصوفية ودقات الطبول والرايات الخضراء والحمراء.. والألعاب الشعبية.. كل هذا أثر فى وجدانه مع موهبته المبكرة فى الرسم، وكان لتفوقه رعاية كبيرة من أساتذته فى التربية الفنية بمراحل التعليم المختلفة.. فكان أن التحق بكلية الفنون الجميلة عام 1953 قسم هندسة الديكور بعد حصوله على التوجيهية “الثانوية العامة“.. وعمل رساما بمجلة الكواكب.. وهو طالب قبل عامين من تخرجه.. ومن البداية كان عشقه للصحافة وفن الكتاب ارتباطا بأستاذه فى الكلية عبدالسلام الشريف.. وكانت علاقته به علاقة وثيقة من المودة والتوجيه.

ذات يوم طلب الأستاذ الشريف من تلاميذه وضع تصميم الغلاف والرسوم لرواية “زقاق المدق“ لنجيب محفوظ.. فما كان منه إلا أن دأب على البحث.. عن "الزقاق" فى القاهرة الفاطمية.. لمشاهدة الناس والبيوت على الطبيعة.. وعمل الرسوم والدراسات السريعة للموقع وكانت أولى خطواته فى طريق الرسم الصحفى بمعناه الحقيقى.. وبداية حبه للصحافة وشغفه بها.

وفى السنة النهائية اختار أن يكون مشروع التخرج حول تصميم ديكور وملابس مسرحية “إيزيس“ للكاتب توفيق الحكيم.. وحصل على درجة الامتياز عام 1958.. ورغم أنه رشح فى بعثة إلى أكاديمية ميلانو لدراسة فنون المسرح.. إلا أنه فضل الاستمرار فى العمل الصحفى واعتذر عن البعثة.

وقد أضاف إضافة مهمة لهذا الفن فى المجلة والصحيفة والكتاب.. بين الإخراج والرسوم بمساحة مختلفة.. بما يعد آخر فرسان الفن الصحفى وهو المصور المجرب.. ويمثل علامة فارقة مع رواده الأوائل بدئا من أستاذه عبدالسلام الشريف.. وقطبى روزاليوسف: عبدالغنى أبو العنين وحسن فؤاد.. وكان له دور كبير فى تطوير المجلات إلى آفاق الحداثة خاصة دار الهلال.. مع فن الكتاب..  امتد معها إلى العديد من دور النشر العربية بلبنان ومصر.. وهو صاحب الأغلفة المرسومة بمجلة الهلال ومجلة المصور.

ويعد التونى من أهم فنانى الرسم الصحفى بلمسته الحديثة الخاصة.. وله مساحة تعبيرية تخاطب الوجدان وتتلامس مع الأحداث بصحيفة السفير اللبنانية من بداية تأسيسها عام 1974.. كما ساهم فى الارتقاء بكتاب الطفل العربى أيضا فى الرسوم والإخراج بدور النشر المختلفة من دار الفتى العربى ودار الشروق.. مع مجلات الأطفال بداية من مجلة سمير والعربى الصغير الكويتية.. وفن الملصق وغيرها من إبداعات.

فى عام 1979 العام الدولى للطفل.. صمم ملصقا فاز عنه بجائزة اليونيسيف.. كتب عليه شعارا بالعربية يقول "الأطفال أحباب الله" نجح نجاحا كبيرا لشدة بساطته وعمق الفكرة.. وفى معرض بيروت الدولى للكتاب تقدم لمسابقة "فن وإخراج الكتاب" ففاز بالجائزة الأولى لثلاث سنوات متتالية من 1979 - 1977 وفى العام الرابع طلب منه القائمون على المعرض.. أن يشارك فى التحكيم بدلا من المشاركة فى المسابقة.. كما حصل على جائزة "الآفاق الجديدة".. من معرض بولونيا الدولى بإيطاليا لكتب الأطفال عام 2002.

أول معرض 

وكان أول معرض له عام 1985.. عند  عودته من لبنان.. بمجمع الفنون بالزمالك وتوالت معارضه.. تحمل عناوينا تمثل انعكاسا لفلسفته فى التشكيل والتعبير قوامها البهجة وجمال التشكيل.. والانتقال إلى حالات وتعبيرات درامية بين الطرب والتطريب..  ومن بينها: وجهة جميلة لزمن جميل- لعب البنات وآلهة الإصلاح- على الشاطئ- كان ياما كان- المغنى حياة الروح- شبابيك- عندما يأتي المساء- ليه يابنفسج- السمكة- السمكة والشمعة.

وإذا كان البطل فى أعمال حلمى التونى ومحور أعماله المرأة فقد خصها فى عناوين بعض معارضه كما فى: نساء من مصر- نساء وخيول- للنساء وجوه- وكان معرضه الأخير فى مارس من عامنا الحالى بعنوان “يحيا الحب“.. جاءت لوحاته حول بطلات عالم أديب نوبيل نجيب محفوظ مصورا: حميدة فى "زقاق المدق" و "سنية فى بداية ونهاية" و"سمارة فى  ثرثرة على النيل" وغيرها.

وحلمى التونى مصور.. له لغته الخاصة.. جمع فيها بين التعبيرية والسيريالية امتدت فى مراحل واتجاهات عديدة.. لعل أجملها ما قدم من أعمال بروح الفن الشعبى فى معزوفات مصرية بأوتار شعبية.. إلى حواراته البصرية مع الفن المصرى القديم والفن القبطى فى إيقاعات تمتزج فيها الرموز.. وحواء بتاج الحسن والجمال.. بمثابة أيقونة فنه.. وعالمه 

مثل بستان يدخل حديقة.. يقطف من كل شجرة وردة ومن كل نبتة زهرة يشكل منها باقة.. يحولها إلى قنينة من ماء الزهر والورد.. هكذا كان حلمى التونى المصور والرسام والمصمم.. طوال رحلته مع الحياة والإبداع.. يسكب على لوحاته ورسومه عطر الماضى من التراث بأصدائه فى إيقاعات معاصرة ودنيا جديدة من البهجة والإشراق.. فتنساب التواشيح والتراتيل والترانيم على تلك السطوح.. تتشكل من إعادة صياغة رموز مصرية ومفردات إنسانية عديدة: النخلة والهدهد والنفير والسمكة والطربوش والأهرامات والبيضة والنافذة المفتوحة والزهور والورود والديك.. عناصر نطالعها كثيرا فى حياتنا اليومية.. يعيد لها سيادتها واحترامها.. ودهشتها الأولى تتألق فى أعماله مسكونة بالبهجة والفرح الآتى.

فهى نتاج لهذه المحصلة من الثقافة المحلية.. ونتاج لهذا الإبداع الشعبى المرئى والمدون.. الشفاهى والمسموع.. رؤى وأخيلة من وحى  الوشم والحصير القش الملون والبسط والأكلمة.. والسلال والتصاوير الحائطية على  الواجهات الشعبية من رسوم الحج.. وعربات الباعة الجائلين باللمسة التلقائية.. والموال والأغنية وهذا السحر الساكن بداخل الشخصية المصرية.. وعبقرية الزمان من النبض الشعبى.

وأعمال التونى قابلة للتفسير والتأويل ودندشة الحكى.. موشاة بأبعاد درامية حين تسكن النخلة فى إحدى لوحاته بين سحابتين وسمكة.

فيها ملامح من مصر بتلك المرأة.. التى تطل فى كل لوحة بعيون لوزية مسحوبة ونظرات متفائلة بمثابة.. محور لأعماله تتجاذب حولها العناصر.. فيها ملامح من السيريالية حيث تخرج السمكة من النيل تسترخى.. فى انتعاش بجوار الهرم أو تقف على ذيلها فى صحبة امراة وطفلتها.. وتتلامس فى فرح مع نخلة.. ومن الرمزية حين يعتبر الشفاة رمزا للمحبة وسخاء المشاعر.. تفرض سطوتها العاطفية.. فى لوحات كثيرة وتتجاوز حجمها فى بعض الأحيان حجم الشخوص والأهرامات.

وفيها من الحوشية تلك الخطوط والظلال.. التى تحدد الأشكال وتؤطرها خلال هذا الانطلاق اللامحدود.. ومن النبض الشعبى فتاة النفير بمثابة الشاعر الجوال عازف الربابة.. أو منادى مصر المحروسة.. فى الريف والحضر يزف البشرى فى المواسم والأعياد والاحتفالات.. وأيضا النافذة المفتوحة تطل علينا ونطل عليها بعالمه.. وكأنها صندوق الدنيا نطوف ونشوف من خلالها مساحات بين الحلم والواقع.. بين الشاعرية وسحر الأداء.. وربما كانت تلك السمكة.. التى تخرج من عمق النيل لتتربع على نخلة بامتداد الأفق تذكرنا بالأغنية الشعبية المرحة واللامعقولة: "ياطالع الشجرة.. هات لى معاك بقرة تحلب وتسقينى بالمعلقة الصينى".. وألوان التونى فى بعض أعماله تتميز بالاقتصاد الشديد الذى يصل فى أحيان كثيرة إلى ثنائية لونية.. حوارات بين الأسود والأزرق أو بين الأسود والأحمر وأحيانا.. بين الأسود والأخضر الزيتونى.. كما فى صورته الشخصية للشيخ محمد رفعت وصوره الأخرى فى فن البورتريه التعبيرى.. مثل عبدالوهاب وأم كلثوم.. وفى أعماله عموما يتمثل التونى هذا الضوء الساطع الذى يضىء مصر بقوة طوال العام فنطالع فى أعماله لكل عنصر بهائه وجماله.. ولكل عنصر شخصيته ورسوخه.. على مسطح اللوحة من النبتة الصغيرة إلى الأهرامات.

ولوحات التونى جمع فيها بين التعبيرية والسيريالية أو ما فوق الواقع والرمزية..  تسقط فيها الحواجز بين المتلقى والفن.. فيحقق من خلالها تلك النشوة التى يستشعرها المشاهد.. باختلاف درجات الوعى والثقافة.. والتى تمثل جزءا من وظيفة الفن.. افتقدناها كثيرا هذه الأيام فى دوامات الأغراب والاستعراض التكنيكى.. وهو يعيد لفن التصوير سيرته الأولى من تلك القيم التى تخاطب الحس والتذوق.. وتخاطب الوجدان مع هذا الأداء المعاصر.

وتتأكد فكرة الرمزية فى أعماله.. جاء أحد معارضه بعنوان "فواكه محرمة" فى وصف للمرأة وجمالها كما هو فى التعبير الشعبى فحملت لوحاته عناوين مثل: "سيدة التين" و"سيدة الرمان" و"سيدة الفراولة".. وهناك أعمال له مرتبطة بالموسيقى والغناء بطلتها أيضا حواء.. صورها عازفة على العود والكمان.. ومن بين أجملها عازفة الناى..  متربعة على زورق فى حضرة الشمس وزوج من الهدهد.. طائره الودود الأثير..  والمعروف بشهرته الواسعة مع بلقيس.. نراه أيضا فى لوحته "حديث معها".. مصورا حسناء فرعونية بوجه جانبى "بروفيل" تهمس إليه. 

السمكة الحمراء 

فى لوحة "السمكة الحمراء" زيت على قماش.. صور فيها خمس فتيات بوجوه بيضاء وملامح عصرية بسمو واختزال فى التفاصيل.. جلسن على مائدة مستطيلة أمام سمكة حمراء.. مستلهما الرمز الشعبى للسمكة وفى نفس الوقت البناء والإيقاع.. للوحة العشاء الأخير وأشهرها لدافنشى.. خروجا من التصوير الدينى.. إلى حالة رمزية من الخيال الفنتازى.. ما يجعل العلاقة بين المرأة والسمكة صورة للخصوبة.. والرزق الوفير فى المعنى الشعبى.. وهكذا ظل طوال حياته.. تغنى لمسته لحواء بتاج الحسن والجمال.. وهنا فى اللوحة بالنور والإشراق.. على خلفية من المشربية مع هذا التوازن باللوحة على اليمين واليسار فى باقتين للزهور.. انعكاسا للروح الشرقية.

والتونى يعلن عن ثقافته التشكيلية.. حين يتحاور مع لوحة "الماجا بالرداء - 1800".. للفنان جويا.. لسيدة حسناء مسترخية على وسادة بامتداد الفراش.. فى رداء أبيض وحزام عريض من الروز الهادئ.. وحذاء من البيج.. استعار التونى الإيقاع والوضع فى تعبير آخر لامرأة نورانية.. والفارق هنا أن اختزل الوسادة وجعل من الفراش حديقة من النقوش مع الخلفية من ستارة وباقة من الزهور فى أصيص.. كل هذا فى ألوان داكنة من الأخضر الزيتونى والأسود ولمسات من الأحمر فى الستارة.. ووسط هذا المحيط تبدو المرأة أكثر إشراقا بملابسها الشرقية.. ذات الألوان الهادئة من الأبيض والروز.. الجميل أن جعل واحدة من زوج الحذاء الأحمر..  خارج القدم فى رمزية إلى سندريلا فى الحكايات الشعبية العالمية. 

فى أعمال حلمى التونى نطل من نافذة مصرية على معزوفات بصرية بأوتار شعبية.. وملامح من التراث المصرى بلمسة عصرية تدعونا إلى التفاؤل والطمأنينة والسلام مع الآخرين.

أما فلسطين فكانت فى القلب دائما فى أعمال فناننا.. تألقت بالرمز والروح الوطنية وأناقة التشكيل والتعبير.. بين فن الملصق والرسوم التعبيرية بالأبيض والأسود وقصص الأطفال.. ولوحة التصوير.. لعل أجملها "عيوننا إليك ترحل كل يوم".

تحية إلى حلمى التونى فنان من مصر..  وإلى عالمه بعمق ما قدم من إبداع.