السبت 19 اكتوبر 2024

عالم التوني اللوني


حسين جبيل

مقالات14-10-2024 | 12:34

حسين جبيل

اعتمد حلمي التوني في رؤيته الفنية على إعادة إحياء الروح المصرية الأصيلة، مستخدمًا رموزًا وأيقونات مستلهمة من الحياة اليومية والتقاليد الشعبية. كان التوني يسعى من خلال تلك الرموز إلى بناء جسر بين الماضي والحاضر، بين الريف المصري بصفائه وبساطته، والمدن بحيويتها وتعقيداتها. إلا أن هذه الرمزية البصرية ليست مجرد استدعاء سطحي للموروث الشعبي، بل هي عملية تأملية تطرح أسئلة وجودية حول الهوية والانتماء. رغم ما في هذا النهج من عمق، إلا أن البعض يرى أن التوني قد أوقع نفسه في دائرة مغلقة، حيث ظلت العديد من أعماله تدور حول نفس التيمات التراثية دون الخروج إلى مساحات إبداعية أوسع أو أكثر تنوعًا.

على صعيد اللون، كان للتوني بصمته الخاصة التي تتسم بجرأة واضحة في استخدام الألوان، تلك الجرأة التي لا تنبع فقط من قوة الألوان بذاتها، بل من دلالاتها الرمزية العميقة. الأزرق، على سبيل المثال، يشكل لدى التوني تعبيرًا عن الامتداد الروحي للسماء والنيل، وهما رمزان يشكلان ركيزة أساسية في المخيلة المصرية. أما الأحمر والأصفر فهما انعكاس لحيوية الأرض الزراعية وحرارة الشمس. ورغم هذه القوة الرمزية، فإن النقد الموجه للتوني في هذا السياق يشير إلى نوع من التكرار في الاستخدام اللوني، مما يجعل بعض أعماله تبدو متشابهة إلى حد ما، حتى وإن اختلفت في موضوعاتها.

إلا أن براعة التوني لا تقتصر على التلاعب بالألوان والرموز الشعبية، بل تتجلى كذلك في قدرته على مزج التراث بالتقنيات الحداثية، حيث استخدم أساليب معاصرة في تنفيذ لوحاته دون أن يفقد صلته بالهوية المصرية. هذا المزج بين الماضي والحاضر جعله أحد أعمدة الفن المصري الحديث، وجعل من مدرسته الفنية فضاءً متجددًا يمزج بين الجدارية التقليدية والتصميم الحديث. ومع ذلك، يرى البعض أن هذا التوازن لم يكن دائمًا في صالح التوني، إذ ظل محكومًا بالحدود التي يفرضها التراث، مما حال دون وصوله إلى مستويات أكثر ابتكارًا وتجديدًا على مستوى المفاهيم الفنية.

علاوة على ذلك، كان للتوني تأثير ملموس على مجالات فنية أخرى، أبرزها مجال أدب الأطفال، حيث تمكن من تقديم أعمال رسومية تمتاز بالبساطة والجاذبية، لتكون مدخلًا أساسيًا للأطفال نحو عالم الفن. غير أن هذا الجانب من تجربته الفنية، رغم أهميته، قد يُنتقد أحيانًا بسبب المبالغة في تبسيط الرسوم على حساب التعقيد الفني الذي يتطلبه الإبداع المعاصر.

جانب آخر لا يقل أهمية في مسيرة حلمي التوني هو استخدامه للفن كوسيلة للتعبير عن القضايا الاجتماعية والسياسية. لم يكن التوني مجرد فنان معني بالأشكال والألوان، بل كان أيضًا صاحب رؤية نقدية تجاه الأوضاع الاجتماعية، مستلهمًا قضايا الفقر والعدالة الاجتماعية والمساواة، لتكون موضوعات أساسية في العديد من أعماله. غير أن هذا التوجه النقدي، رغم عمقه، قد جعل من مدرسته الفنية مقيدة إلى حد ما بمواضيع محددة، مما أثار تساؤلات حول مدى إمكانية الخروج إلى آفاق أوسع وأكثر تنوعًا في الطرح الفني.

 ورغم رحيله الشهر الماضي فإن مدرسة حلمي التوني ستظل علامة فارقة في تاريخ الفنون التشكيلية المصرية والعربية، حيث نجح في المزج بين التراث والحداثة في إطار بديع يحمل روح الأصالة ولا يخلو من لمسات التجديد. ورغم التحديات النقدية التي طالت تجربته من حيث التكرار والتوجهات الفكرية المحدودة، فإن إرثه الفني يبقى شاهدًا على عبقرية فنان استطاع أن يترك بصمته الخالدة في الوجدان المصري والعربي.