قال السفير محمد العرابي رئيس المجلس المصري للشؤون الخارجية وزير الخارجية الأسبق، إن افتقاد مفاهيم السلام جاء نتيجة تراجع دور القانون الدولي مما أدى إلى تصعيد الصراعات، وتراجع دور المنظمات الدولية، وكذلك تنامي المصالح القومية الضيقة على حساب التعاون الدولي، مما زاد من حدة التوترات العالمية، علاوة على غياب الاهتمام الدولي بقضايا البيئة.
وأضاف العرابي، في كلمته أمام المؤتمر السنوي لجامعة المستقبل والذي يسلط الضوء على "السلام الأخضر والمرونة المستدامة" اليوم الثلاثاء، أن هذا اللقاء يأتي في ظل ظروف عالمية معقدة، حيث تسيطر الصراعات الجيوسياسية، والحرب التجارية، والتوترات النووية، والنزاعات على الموارد الطبيعية، لتُبرز غيابًا واضحًا لمفهوم السلام بمعناه الشامل في العالم المعاصر.
وتابع "أنه لم يعد هناك مكان إلا وتشغله الانقسامات والتوترات والصراعات"، منبهاً بأن هناك "الحرب الأوكرانية، والتوترات في الشرق الأوسط والتوترات في بحر الصين الجنوبي وشرق آسيا والحرب التجارية وما تشمله من أبعاد تخص التكنولوجيا والتوترات النووية والصراع على المياه وتهديد التنوع البيولوجي وتغير المناخ والكوارث البيئية كحرائق الغابات في الأمازون وأوروبا وأستراليا"، موضحاً أن كل ذلك وغيره جعل مفاهيم السلام مثل التفاهم، العدالة، والاحترام المتبادل مفقودة اليوم بشكل كبير".
وأشار إلى أن حديث المؤتمر حول "السلام الأخضر والمرونة المستدامة" يأتي في وقت نشهد فيه تحديات بيئية متزايدة، حيث تزداد اليوم الحاجة لمواجهة "العنف ضد البيئة" بصوره المختلفة، وبصورته الأبرز، وهي الحروب وتأثيرها السلبي على سلامة البيئة؛ فالحروب واحدة من أخطر التحديات التي تواجه النظم البيئية في العالم، فهي تؤدي إلى تدمير واسع النطاق للبيئة، ليس فقط أثناء النزاع، ولكن أيضًا لعقود لاحقة بسبب الآثار طويلة الأمد على التربة، المياه، الغابات، والتنوع البيولوجي.
وأبرز أهمية البيئة كقاسم مشترك، ومفتاح لتحقيق سلام شامل، عبر إعادة بناء الثقة بين الشعوب حيث إن التعاون على معالجة القضايا البيئية مثل التغير المناخي وإدارة الموارد المائية المشتركة يمكن أن يُعيد بناء جسور الثقة بين الدول والمجتمعات المتنازعة.
وأشار إلى أن البيئة كقضية مشتركة تفرض على الدول العمل معًا، بعيدًا عن المصالح القومية الضيقة، لتحقيق أهداف عالمية مثل أهداف التنمية المستدامة واتفاقيات المناخ، علاوة على تعزيز العدالة الاجتماعية والتركيز على حماية الفئات الأكثر ضعفًا من تأثيرات التدهور البيئي ما يُرسخ مبدأ العدالة، وهو أساس أي عملية سلام.
وسلط الضوء كذلك على ضرورة حل النزاعات المرتبطة بالموارد، أي النزاعات على المياه، الأراضي الزراعية، والموارد الطبيعية، إذ يمكن أن تُحل من خلال سياسات بيئية مستدامة، وكذلك إعادة بناء المجتمعات بعد النزاعات عبر مشاريع إعادة التشجير، تنظيف المناطق الملوثة، واستعادة التنوع البيولوجي تُسهم في إعادة الإعمار النفسي والاجتماعي للمجتمعات المتضررة من الحروب.
واستطرد العرابي قائلا "واليوم، ونحن نتحدث عن البيئة والسلام، فإنه من الضروري الإشارة إلى السلام الأخضر، وهو رؤية شاملة تشير إلى تحقيق التوازن بين السلام البشري والحفاظ على البيئة، حيث لا يمكن فصل السلام عن قضايا البيئة، لأن التدهور البيئي غالبًا ما يؤدي إلى نزاعات على الموارد الطبيعية، مثل المياه والغذاء والطاقة".
وجدد التأكيد على أن تحقيق السلام الأخضر ليس خيارًا، بل ضرورة لبقاء الإنسان والطبيعة معًا، حيث إن السلام الأخضر لا يعني فقط غياب التلوث أو التدهور البيئي، بل هو دعوة إلى احترام الطبيعة، والتعايش معها بطريقة تحقق العدالة البيئية والاجتماعية، وهو مفهوم ومنهج يعمل على تحويل التحديات البيئية إلى فرص.
وذكر "أنه في ظل الحاجة لمواجهة التحديات البيئية، نحتاج إلى مرونة مستدامة، وهي القدرة على مواجهة التحديات البيئية والاجتماعية بطريقة تحافظ على استدامة الموارد وتضمن استقرار المجتمعات، فالمرونة المستدامة تعني الاستثمار في الطاقة النظيفة، وإدارة الموارد بشكل عادل، والتخطيط لمستقبل تكون فيه الطبيعة شريكًا أساسيًا في الحلول".
واستعرض التحديات التي تواجه السلام البيئي بشكل عام، ومنها عدم التزام الدول الكبرى، والاقتصاد القائم على الاستغلال، والافتقار إلى الوعي البيئي؛ فضلا عن الحروب والنزاعات تجعل القضايا البيئية أولوية ثانوية، ما يُفاقم الضرر البيئي.
كما سلط العرابي الضوء على نجاح "دبلوماسية المناخ المصرية" وكل الجهود التي تبذلها مصر على المستويين الوطني والدولي لمعالجة قضايا التغير المناخي والسعي لتعزيز التعاون الدولي بهدف تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومواجهة تحديات المناخ، حيث تتخذ مصر خطوات ملموسة للتأثير في السياسات المناخية العالمية، مستفيدة من موقعها الجغرافي، ودورها القيادي في القارة الإفريقية، ومكانتها الدولية.
وأضاف أنه تتم ترجمة تلك الجهود في حلول التكيف مع التغير المناخي، من خلال مساعي التحول نحو اقتصاد أخضر، والمساهمة في خفض الانبعاثات الكربونية، كما تعمل مصر كصوت للدول النامية، خاصة الدول الإفريقية، لضمان تحقيق العدالة المناخية والحصول على التمويل اللازم لدعم جهود التكيف مع التغير المناخي، وهو ما تبلور في إنشاء صندوق "الخسائر والأضرار" لدعم الدول الأكثر تأثرًا بالتغير المناخي خلال "كوب 27" التي استضافتها مصر في شرم الشيخ نوفمبر 2022.
ولفت إلى ضرورة دعم المبادرات لتعزيز استخدام الطاقة المتجددة ومواجهة التصحر في القارة، فمصر من أوائل الدول التي اتجهت للاستثمار في الطاقة النظيفة، مثل: مجمع بنبان للطاقة الشمسية، أحد أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم، بجانب التوسع في إنتاج طاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، علاوة على المشاركة في المبادرات العالمية مثل مبادرة "الطريق إلى الصفر" لتحقيق الحياد الكربوني، بجانب التعاون مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والصين في برامج مشتركة لدعم الاقتصاد الأخضر، فضلاً عن إطلاق الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050، التي تهدف إلى تعزيز قدرة مصر على التكيف مع التغير المناخي وتقليل الانبعاثات الضارة من خلال مشاريع مستدامة.
واختتم العرابي كلمته بالتأكيد على أن العمل من أجل السلام الأخضر ليس مسؤولية الحكومات وحدها، بل هو جهد مشترك يتطلب مشاركة الجميع أفرادًا، ومنظمات مجتمع مدني، قطاعًا خاصًا، ومؤسسات دولية، كما يجب أن يعي الجميع أهمية استثمار المؤسسات والشركات في التكنولوجيا النظيفة والطاقة المتجددة.