مرت كوريا خلال تاريخها بالعديد من التحديات والصراعات التي حتمها عليها موقعها الجغرافي بين حضارات عريقة وقوية ذات تأثير عميق في القارة الآسيوية مثل الصين واليابان وروسيا. فقديمًا، تأثرت الثقافة الكورية بجيرانها وأصبحت مزيجًا من الأعراف التي نشأت في سيبيريا، والكونفوشيوسية الصينية، والبوذية الهندية القادمة عن طريق الصين.
كما أنها تأثرت جغرافيًا أيضًا -كرقعة أرض صغيرة- بغارات وحملات متكررة من القوى الإقليمية المجاورة الأكثر بطشًا.
أما حديثًا، فقد فقدت كوريا سيادتها في أوائل القرن العشرين لاستعمار ياباني وحشي، وفي منتصف القرن ذاته، انقسمت شبه جزيرة كوريا إلى الكوريتين الشمالية والجنوبية في أعقاب الحرب الكورية، التي تُبعت بحرب باردة قسمت الأمة أيديولوجيًا وليس جغرافيًا فحسب.
وبعد تاريخ طويل من الأزمات المستمرة بالقارة الآسيوية والمحيط الهادئ، والشرق والغرب، والتأرجح بين الإمبريالية والديمقراطية، والليبرالية والشيوعية، تمكنت كوريا الجنوبية من التطور والتقدم بوتيرة غير مسبوقة منذ أن تبنت العولمة في أواخر القرن العشرين، وبعد أن كانت دولة زراعية بسيطة بمتوسط دخل للفرد حوالي 150 دولارًا سنويًا في خمسينيات القرن الماضي، أصبحت اليوم دولة تكنولوجية رائدة ومن أكبر عشرين اقتصادًا في العالم. وابتلع تيار العولمة و الليبرالية الحديثة المجتمع الكوري الجنوبي.
أدت الصراعات الدامية التي دارت قبل استقرار الدولة الكورية بشكلها الحالي، إلى أهوال حُفرت في الوجدان والهوية والفكر الكوري، وفي خضم التطور السريع الذي عقب فترات طويلة من الفقر والجوع والمعاناة، أُجبر الكوريون على التكيف -سريعًا- مع العولمة في محيط تنافسي طاحن بين عمالقة القارة، ومجتمع يضع مسؤولية الفجوة الهائلة بين طبقاته على أعتاق الأفراد، ويرسي قواعد استنزاف الذات في سباق محموم من أجل النجاح والبقاء.
ويرسخ في نفوس الشعب مفهوم الاغتراب الاجتماعي والشعور بالانفصال وفقدان الهوية. ولم يكن الأدب الكوري بمنأى عن كل ذلك، ربما السمة الأكثر وضوحًا للأدب الكوري هي اتساقه مع المجتمع والتعمق في الهوية المجتمعية بترجمة آلام ومعاناة الشعب والولوج إلى مكنون المخاوف والتحديات والصراعات التي يعيشها الأفراد، فيسلط عليها الضوء بشكل مبدع وملهم.
فتارة يطرحها وحسب، وتارة يصوّبها، وتارة يبث روح المثابرة والإرادة والمؤازرة، والعودة للقيم الإنسانية في مواجهة التوحش الرأسمالي، فأصبح الأدب بمثابة بوصلة الضمير المجتمعي الذي يحافظ على اتزان الذات في خضم فوضى المعاناة اليومية المستمرة، وهذا ما ميزه عن أنواع الآداب الآسيوية والعالمية الأخرى ووضعه على الساحة الأدبية العالمية.
وجد الأدب الكوري لنفسه شكلًا متفردًا وخاصًا جدًا لا يشبه النمط الغربي في الكتابة. فنجده يبلور لحظات ومواقف قصيرة وعابرة من حياة الأفراد، ويتأمل من خلالها المعنى الحقيقي للحياة وغايات الشخصيات والأبطال، تلك اللحظات تعكس بوضوح القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتعزز الروابط الإنسانية العميقة مثل العلاقات الأسرية والصداقة والحب. لتعيد المجتمع على النهج الصحيح إنسانيا واجتماعيًا. وتنوعت تلك الكتابات بين روايات اجتماعية وفلسفية وأدب بروليتاريا وغيرها، تضرب لنا رائعة الكاتبة كيونج سوك شين "أرجوك اعتني بأمي" (ترجمها للعربية محمد نجيب، عن دار التنوير) مثلًا رائعًا على معالجة الاغتراب المجتمعي، حيث تروي قصة جدة تضل طريقها في سيول ليبدأ أفراد أسرتها رحلة البحث عنها متذكرين علاقتهم الشخصية بها. تناقش الرواية فكرة الأمومة ورمزية الأم أمام أنانية الأبناء، والتفكك الأسري الناتج عن وتيرة الحياة السريعة والتغير المجتمعي المفاجئ.
فازت الرواية بجائزة البوكر الآسيوية لعام 2012 وجعلت الأدب الكوري الحديث محط أنظار العالم. ولم يمر وقت طويل بعد ذلك حتى خطت الكاتبة هان كانج خطوة أبعد بالفوز بجائزة البوكر العالمية عن روايتها "النباتية" (ترجمها للعربية د. محمود عبد الغفار، عن دار التنوير) والتي تتناول حياة عائلة انقلبت حياتها رأسًا على عقب بعد قرار البطلة بالتحول إلى نباتية، فتتوتر علاقتها بجميع أفراد اسرتها لاقتناعهم أنها تعاني من مرض عقلي ما. في النهاية تسعى البطلة للتحول إلى شجرة لأسباب عديدة، أهمها رفضها الانصياع للأدوار الحتمية التي يفرضها عليها الواقع. توصم الرواية المجتمع بتهميشه الفردانية، وإخضاع الأفراد -خاصة النساء- للسلطة البطريركية.
وبالحديث عن السلطة البطريركية، نجد أن من أهم الموضوعات التي يتطرق لها الأدب الكوري هي القولبة الجندرية والتوقعات الاجتماعية لكلٍ من الجنسين، خاصة التمييز الجندري التي تتعرض له النساء الكوريات في النظام المجتمعي الأبوي.
وتمكنت الأقلام النسائية في كوريا من تسليط الضوء على الجانب المظلم الواقع على السيدات أثر التنمية الاقتصادية السريعة.
وأحد الأمثلة الهامة هي قصيدة "أجنحة الألم الوهمي" للشاعرة كيم هي سون واقتبس منها:
"طائر بكعب عالٍ
يخطو فوق الأسفلت
يبكي
فتلطخ الماسكرا وجنتيه"
ترمز الأحذية ذات الكعب العالي والأسفلت والماسكرا إلى حياة للكوريات السريعة الحديثة، ويمثل البكاء والوجه الملطخ المشوه الحزن والأسى.
وتشكل تلك العناصر مجتمعة الألم الذي تعاني منه الكوريات في سباق محموم بشوارع سيول التي لا تهدأ.
كما أثارت رواية "كيم جي يونج، مولودة عام 1982" (صدرت ترجمتها العربية عن دار صفصافة) جدلًا واسعًا في المجتمع الكوري، واُتهمت بتشويه صورة كوريا عالميًا، فقط لتوثيقها للمشاكل والضغوطات التي تتعرض لها الكوريات على مر ثلاثة أجيال مختلفة ومتلاحقة. وعلى عكس النقد التي لاقته الرواية في كوريا إلا إنها حظت باهتمام وتعاطف عالمي واسع. ليس لأنها لسان حال المجتمعات الخاضعة لسيطرة النظام الأبوي وحسب، بل لأنها تمثل أيضًا الألم الذي يلحق بالناس الذين أجبروا -رجالًا ونساء- على التكيف ومواكبة الرأسمالية والعولمة. نجحت الرواية في تغيير بعض المفاهيم والمعتقدات الاجتماعية حول النساء والأمهات، كما نجحت في تحسين أوضاع السيدات العاملات وتوفير بيئة عمل أكثر أمانًا وعدلًا لهن.
أما الروايات التي حظت باهتمام كبير في الأدب الكوري في الآونة الأخيرة، فتحاول استخدام أنماط تجريبية مختلفة لتسليط الضوء على مشاكل الصحة النفسية المختلفة التي يعاني منها المجتمع الكوري والذي يعتبر من أعلى المجتمعات في نسب الانتحار عالميًا. ومثالًا على ذلك رواية "أريد أن أموت ولكني اشتهي الدوكبوكي" للكاتبة بيك سي هي، حيث تسجل الكاتبة رحلتها ومحادثتها مع طبيبها النفسي وتشارك القارئ تفاصيل تلك الرحلة الشخصية للغاية. تجعلك الرواية تشعر بالدعم عندما تدرك أن للآخرين تجارب مماثلة.
وهناك أيضا رواية "لوز" (صدرت ترجمتها العربية عن دار صفصافة) للكاتبة سون وون بيونج التي تتبع حياة البطل المراهق يون جيه المصاب بمرض اللامفرداتية النادر حيث لا يستطيع التعبير عن المشاعر ولا فهمها. تتقاطع حياة البطل مع جوني الفتى الذي يعاني من نوبات غضب العارمة وعدم التحكم في مشاعره. تتناول الرواية مشاكل الاختلاف وتقبل الآخر والعنف المدرسي والتنمر. وقد لقت نجاحًا عالميًا وباعت أكثر من مليون نسخة.
كما ظهر مؤخرًا اتجاهًا أدبيًا في كوريا يدعى "أدب الاستشفاء" يركز على تحويل المعاناة والألم إلى تقبل وحب للذات، ونضال من أجل الفرح والاستمتاع بالحياة.
في خضم الصراع من أجل التعايش والنجاة الناجم عن التأثيرات الكارثية لليبرالية الحديثة والعولمة وتغير المناخ في أعقاب النمو الاقتصادي الصاروخي في كوريا، وتكرار فرضية اندثار الأدب، لا يزال الأدب الكوري يحافظ على رونقه ودوره المجتمعي الرصين ونجاحه وانتشاره.
وتبقى السرديات الرائعة في الروايات الكورية ملاذًا لاستمرار الحياة بطريقة أو بأخرى. وبوصلة تصحح مسارات المجتمع حتى لا ينجرف لهاوية مظلمة. وإذا كان الأدب الكوري اليوم يجذب القراء من جميع أنحاء العالم، فذلك لأنه يصحبهم في رحلة شيقة وملهمة لاكتشاف الذات حيث يمكن لأي شخص أن يجد المؤازرة والأمل والعزاء.