الأحد 15 ديسمبر 2024

مقالات

أشهد أني عشت ذكرياتي عن أهل الأدب والفن الذين عرفتهم

  • 10-12-2024 | 13:03
طباعة

ما أصعب الكتابة عن النفس بالنسبة لى، فأنا أكتب عن الآخرين دائماً وأبداً، أستحضر وجوههم إن كانوا قد رحلوا عن الدنيا، أو أُنصِت لأصواتهم إن كانوا مازالوا معنا فى الحياة. وإن كنت أعترف لنفسى وليس للآخرين أو حتى القُرَّاء، لأن الذين رحلوا عن دنيانا يحتلون خيالى قبل الآخرين. خاصة من ربطتنى بهم القُربى. وأولهم أمى: مبروكة إسماعيل حسنين حمادة، وأبى: يوسف يوسف القعيد.


وعندما بدأت الكتابة اخترت اسم والدى لكى أُوقِّع به ما أكتبه، ولا أعرف إن كان قد أدرك هذا فى حياته أم لا؟ فقد رحل مبكراً جداً وأعقبته أمى فى الرحيل، وهكذا بقيت أنا أنظر لنفسى على أننى ربما كنت شجرةٍ جرداء لا تجد ما يرويها. وما أكثر الجفاف الذى أعيشه الآن رغم أن المياه تملأ الدنيا فى كل مكانٍ من حولى. ولكنه جفاف إنسانى نادر لا ترويه مياه العالم كله.


اعتمدتُ على ذاكرتى وحدها، وهى ذاكرة مُتعبة، ما أكثر ما تنساه. وما أقل ما تتذكره. فالسن والذاكرة ضدان يعملان كل فى اتجاه. وإن كان السن يتقدم فإن الذاكرة تتراجع إلى الخلف. ولهذا أجدُنى مضطراً لأن أبدأ بتاريخ ميلادى: 2/4/1944، ومكان ميلادى: قرية الضهرية مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة.


وقد سمعتُ فى صباى أن الذى بنى قريتنا هو الظاهر بيبرس، الوحيد من الحُكَّام الغُرباء عن مصر الذى أحبه المصريون. لدرجة أنهم كتبوا عنه ملحمة شعبية خالدة توشك أن تكون من أهم الملاحم التى أحتفظ بنسخة منها أينما كنت. بل إننى أشعر أننى رأيته فى طفولتى وصباى رغم فارق السنوات والقرون التى تفصلنى عنه.


الأستاذ والصديق


أما صديق العمر وتوأم الروح جمال أحمد الغيطانى "9 مايو 1945 – 18 أكتوبر 2015"، فقد عرفته فى سنواتى القاهرية الأولى. كان يسكن فى سيدنا الحسين، وكنتُ أتردد على سيدنا الحسين وأقرأ له الفاتحة كلما تمكنتُ من ذلك. تعارفنا عند بائع كتب مستعملة. كان اسمه: الشيخ تُهامى. وكنا نجد عنده كتبا مستعملة رخيصة، ولكن الأهم أن سعرها متاح وممكن بالنسبة لقروشنا القليلة التى كنا نسمع صوت "شخللتها" فى جيوبنا عندما نتحرك.


يومها عرفت جمال الغيطانى وأسرته. وزرته فى بيته القريب من سيدنا الحسين، وقد رحلوا جميعاً ولم يبق منهم غير اللواء مهندس على المعاش: إسماعيل الغيطانى، الذى يسكن فى الحى السابع بمدينة نصر، وأتواصل معه بشكل مستمر ومتواصل. فأنا أشُمُ فيه رائحة صديق عُمرى وتوأم روحى جمال الغيطانى.


عندما كنتُ مجنداً فى القوات المسلحة المصرية العظيمة والباسلة، كان جمال يتردد علىَّ. وعندما التحق بجريدة الأخبار اختار أن يكون محرراً عسكرياً لها، رغم أنه لم يكن مُجنداً. فقد كان مُعافى من الخدمة العسكرية لظروفٍ خاصة به. لكن وأنا فى سنوات غُربتى الأولى كان بيته بيتى، وكتبه كتبى، وأحلامه أحلامى، وربما كان الوحيد من أصدقاء القاهرة الذى سافر معى إلى قريتى، ومكث بها أياماً وليالٍي.


وعندما قررنا نشر أعمالنا الأولى كلٌ منا قدم عمله البكر. قدم جمال الغيطانى مجموعته القصصية الأولى: أوراق شاب عاش منذ ألف عام. وقدمت أنا روايتى: الحِداد. وكان عنوانها الأول الذى اعترضت عليه الرقابة فى ذلك الوقت: الحِداد يمتدُ عاماً آخر. وعندما اعترض عليه الرقيب وذهبتُ لأناقشه فى مقر الرقابة بشارع طلعت حرب بوسط القاهرة، والذى نعرفه جميعاً باسم شارع سليمان باشا. رفض النِقاش لأننا كُنا بعد الخامس من يونيو 1967.


وكلمة الحِداد فى حد ذاتها وكونها حالة قد تستمر عاماً آخر فجعله يوافق على كلمة الحِداد فقط. وهذا ظلم الرواية كثيراً جداً لأن الناس كانت تقرأها: الحَدَّاد. لأن طباعة عنوان الرواية مشكل كان ترفاً لا أقدِرُ عليه فى ذلك الوقت.


نجيب محفوظ


فى ذلك الزمان البعيد كان للتليفون "شنَّة ورنَّة" وقد تواصلتُ مع نجيب محفوظ "11 ديسمبر 1911 – 30 أغسطس 2006" على رقم تليفون بيته لكى آخذ موعداً منه لأُقدِّم له روايتى الأولى: الحِداد. كما كان يفعل كل شباب تلك الأيام من الأدباء. أعطانى موعداً فى "كافيه": ريش. هكذا نطق اسمها يومها. قال لى إنه يذهب إلى هناك من الخامسة والنصف حتى الثامنة والنصف من كل يوم جمعة.


تعبتُ كثيراً جداً حتى وصلت إلى المكان. وهيبة أمكنة وسط القاهرة جعلتنى أصل متأخراً. كان نجيب محفوظ يتصدر الجلسة وحوله مجموعة من الأدباء الذين شكَّلوا فيما بعد جيل الستينيات فى الكتابة الأدبية المصرية.


سلَّمت عليهم بعد أن قدَّمت لهم نفسى، وجلست، وبعد جلوسى بقليل قُمتُ من مكانى واقتربت من نجيب محفوظ وقدمت له روايتى. وكنت أريد أن أحكى له حكاية الرقابة مع عنوان الرواية. ولكن رهبة وزحمة المكان وكثرة أعداد الحاضرين منعنى من ذلك.


العجيب والغريب أننى يوم الجمعة التالى، وكنتُ قد حرصت على الذهاب، لأن المكان كان الأول الذى أطرقه من الأماكن التى يجلس فيها المثقفون المصريون والعرب فى ذلك الوقت. أشار لى نجيب محفوظ أن أجلس بجواره. فجلست ولم أُصدِّق أُذنىَّ عندما قال لى رأيه فى الرواية.


والرواية كانت عبارة عن أربعة أصوات، كل واحدٌ منها يحكى الحكاية من وجهة نظره. يومها قال لى نجيب محفوظ أنه بعد قراءة الفصل الأول والثانى انتهت الرواية ولم يبق فيها جديد يُقدِّمه الفصلان الثالث والرابع. سمعت كلام الرجل ومن دهشتى لم أُعلِّق. وإن كنتُ مع مرور الأيام اكتشفت أنه كان صادقاً فيما قاله، وليتنى فى ذلك الزمان البعيد أخذت كلامه محمل الجد ولم أجر وراء خيالات وغرور الشباب اللذين كنتُ أعيشهما فى ذلك الوقت.


استمرت علاقتى بنجيب محفوظ حتى رحيله عن الدنيا فى 30 أغسطس 2006، أراه كل أسبوعٍ تقريباً. وبعد أن انتقل إلى العالم الآخر وتلك سُنَّة الكون، أصبحت أعيش معه حتى الوقت الذى أكتب فيه هذا الكلام ليلاً ونهاراً. بل ربما أعودُ له فيما يعترضنى من أمور الحياة الدنيا وقضايا الكتابة وهموم القراءة.


محمد حسنين هيكل


تنبهت لظاهرة هيكل "23 سبتمبر 1923 – 17 فبراير 2016" مبكراً جداً. غير أنى لم أتصور ولو بعين الخيال أننى يمكن أن أُقابله وأسمع صوته وأتكلم معه وأناقشه فى القضايا التى كُنا على موعدٍ معها فى صباح يوم الجمعة من كل أسبوع فى جريدة الأهرام العريقة. والأكثر عراقة فى وطننا العربى كله.


لكننى وبجرأة الشباب وحماقاته فكَّرتُ فى الذهاب إليه، كان قد ترك الأهرام وجعل من مكتبه المطل على نيل القاهرة فى الجيزة مكاناً يقابل فيه الأصدقاء بمواعيد مُسبقة. وعندما اتصلت فرد علىَّ سكرتيره فى ذلك الزمان البعيد: منير عسَّاف، الذى أشعرنى بضآلتى عندما سألنى عن اسمى لأكثر من مرة. وخُيِّل إلىَّ أنه وجد صعوبة فى تدوينه.


وفى الاتصال الثانى أعطانى موعداً للذهاب إليه. كان مكتبه تُحفة إنسانية وأدبية وصحفية من النوع النادر، على جُدران الحائط الموصِّل إلى مكتبه صور لرموز الدنيا وهو يجلس معهم فى ذلك الزمان البعيد. ولا أعرف حتى الآن مصير هذه الصور. صحيح أن أسرته أهدت مقتنياته إلى مكتبة الإسكندرية بعد رحيله.


وقد زرتُ جناحه فى مكتبة الإسكندرية أكثر من مرة ولم أُطالع الصور وقررت أن أسأل مدير المكتبة الدكتور مصطفى الفقى والدكتور أحمد زايد عن مصير الصور التى تُشكِّل جزءاً مهماً من تاريخنا الحديث. وعندما فعلت ذلك لم أسمع إجاباتٍ شافية. وربما وُضِعت الصور بعد ذلك ولكنى لم أرها.


كانت لَدى هيكل قُدرة نادرة على التنظيم. ويبدو أن أسطورته الكُبرى صنعت له فكرة التنظيم الصارم الذى لا يحيد عنه أبداً. سواء عندما كان فى مكتبه بالأهرام، أو مكتبه الخاص فى الجيزة. وكان لديه قُدرة فائقة وفريدة وغير عادية على التنظيم. عندما كنتُ أقابله ويقترب موعدى من الانتهاء كان يوحى لى بأن الوقت الذى استغرقناه فى اللقاء قد أوشك على الانتهاء. وهكذا كنت أتركه حزيناً، وأتمنى أن يمتد بنا العُمر للقاء آخر.


لى كتاب عنوانه: محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفون والثقافة، ومازلت أذكر أنه هو صاحب فكرة هذا الكتاب. عندما لاحظ أننى أذهب إليه بشكل مستمر ومتواصل ودؤوب، وأننى أحياناً تكون معى نوتة صغيرة أُسجِّل فيها بعض ما يدور فى الجلسة بينى وبينه. وهو الذى سألنى:
- ماذا ستفعل بما تدونه الآن؟.
قلتُ له:
- لا أدرى، ولكنها عادة اكتسبتها من العمل فى الصحافة.
لحظتها سألنى:
- ولِمَ لا تُسجِّل ما يدور بيننا؟.
قلت له:
- خشيت أن أحضر ومعى مسجل فتتصور أننى أقوم بعملٍ صحفى. كنت أريد الجلسة حرة بعيداً عن أي أهداف إنسانية أو صحفية وبعيداً أيضاً عن فكرة النشر.


وبعد أن قال لى هذا الكلام، ذهبتُ إليه بعد ذلك مُسلحاً بجهاز تسجيل بدائى هو ما استطعت امتلاكه وبدأت التسجيل. وربما كان هذا التسجيل هو النواة الأولى لكتابى معه: محمد حسنين هيكل يتذكر عبد الناصر والمثقفين والثقافة. الذى صدرت منه أكثر من طبعة سواء داخل مصر أو خارجها.


وهذا يختلف كثيراً عن كتابى عن نجيب محفوظ، فهو تجميع لمقالات نشرتها عنه فى حياته، وكان عنوانه: ثرثرة محفوظية على النيل، وصدرت طبعته الأولى فى حياته وأعجب بها كثيراً.


أيضاً لا أنسى يوم أن اتصل بىَّ الأستاذ هيكل من خلال سكرتيرته السيدة الأستاذة: جيهان عطية، وطلب منى أن يزور نجيب محفوظ. وقد سعد نجيب محفوظ لذلك كثيراً جداً، وسألنى عن الموعد أكثر من مرة، وجاءنا هيكل فى مركب راسية على النيل قريبة من مكتبه، كان يمتلكها فى ذلك الوقت رجل الأعمال الدكتور إبراهيم كامل. وامتلكها بعده المهندس محمد أبو العينين وكيل مجلس النواب ورجل الأعمال المعروف.


صلاح عبد الصبور


كان صلاح عبد الصبور "3 مايو 1931 – 14 أغسطس 1981" إنساناً نادر المثال، ويُعتبر مع صديق عمره الشاعر أحمد عبد المُعطى حجازى – أمد الله فى عمره – من مؤسسى القصيدة الشعرية الجديدة فى الأدب العربى كله.


عرفته عندما كان يعمل رئيساً لمجلس إدارة الهيئة العامة للكتاب. وهو آخر عمل تولاه بعد رحيله المفجع والمبكر. وفضلاً عن أنه من مؤسسى القصيدة العربية الحديثة، فقد كان إنساناً شديد التواضع والإنسانية بشكلٍ نادر. وأعتقد أن رحيله المُبكِّر، فقد مات وهو فى الخمسين من عُمره جعل القصيدة العربية الحديثة تفقد أهم عناصرها الفاعلة والمستمرة فى العطاء بدأبٍ واستمرار وحضور.


كان من عادتى فى ذلك الوقت أن أسافر إلى قريتى بعد ظُهر يوم الخميس من كل أسبوع، وأعود منها مساء الجمعة. وكنتُ أمرُ على صلاح عبد الصبور فى مكتبه بهيئة الكتاب عند سفره. كانت جلسته ممتعة إنسانياً وتُضيف لىَّ الكثير ثقافياً. ولا أذكر أننى تكلمت معه فى أى زيارة من هذه الزيارات عن عملٍ ينشره لى. فقد كان يفعل ذلك من تلقاء نفسه. وبسبب فيض إنسانيته الذى كان بلا حدود.


ورغم أن ذاكرتى لا تحفظ الشعر بدقة، إلا إن شعر صلاح عبد الصبور له مكانة فى وجدانى حتى هذه اللحظة رغم مرور زمانٍ طويلٍ جداً على وجوده وعلى رحيله المبكر والمُفجع، والذى مازال أثره فى نفسى حتى لحظة كتابة هذا الكلام.


فى مكتبه أو فى منزله الذى كنتُ أذهب إليه أحياناً فيه، وكانت معه زوجته وابنتاه كانت لقاءاتى به تزيدنى ثقافة وتُضيف إلىَّ الكثير جداً مما كنت أحتاجه فى ذلك الوقت من وعىٍ وإدراك وفهم لقوانين الدنيا وما يجرى فيها. وأعتقد أنه كان حكَّاء نادراً، وقد طرحت عليه فكرة أن يكتب رواية. ولكنه ضحك ضحكته البريئة الطاهرة وقال لى: لدىَّ كثيرُ من الشعر أريد أن أقوله أولاً. وأعتقد أنه رحل عن دنيانا دون أن يقول كل ما عنده.


طه حسين


كلفتنى إدارة مجلة المصور أن أُجرى حواراً مع الدكتور طه حسين "15 نوفمبر 1889 – 28 أكتوبر 1973"، أعتقد أن ذلك كان فى الوقت الذى كان يوسف السباعى رئيساً لتحريرها. وهو يستحق كتابة أخرى عنه، فقد ظُلِمَ حياً بسبب كثرة المناصب التى كان يتولاها. ولم يُنصف حتى الآن.


كان التكليف أن أُجرى حواراً مع الدكتور طه حسين قبل انعقاد مجمع اللغة العربية، وهو كان رئيسه فى دورة سنة 1973، السنة المجيدة والخالدة فى تاريخ مصر. كانت الدنيا غير الدنيا، والحياة غير الحياة، وما إن أحضرت رقم تليفون بيته وتواصلت مع سكرتيره حتى حدد لى موعداً. وكان بيته فى شارع الهرم، وكنت فى هذا الزمان البعيد أسكن فى نفس الشارع لفترة قصيرة.


وذهبت إليه ودخلت فيلا راماتان وكان أول ما شاهدته منه قدميه، فقد كان يجلس على كُرسى وسكرتيره يدفعه قادماً من داخل الفيلا إلى المكتب الذى أجلس فيه. كان عنوان الحديث عندما نُشِر فى مجلة المصور: اللغة العربية تمرُ بأزمة حادة. وكان يردُ علىَّ وكأن الكلمات مرصوصة على لسانه. لم يتردد لحظة واحدة قبل الإجابة علىَّ. وكنت أنظر إلى فمه ولسانه باعتبارهما أدوات تعامله مع الدنيا كلها.


وعندما رحل عن دنيانا فى 28 أكتوبر 1973 أخذتُ إذناً من وحدتى وذهبتُ إلى جنازته التى خرجت من جامعة القاهرة وعبرت النيل وصلينا عليه فى مسجد صلاح الدين فى الناحية الأخرى من جامعة القاهرة. كانت جنازة مهيبة، وشعرتُ أننا نودع عصراً بأكمله من تاريخنا الأدبى والفكرى والكتابى، وبعد رحيله لم يتوقف اهتمامى به وبأسرته. فقد أجريتُ حديثاً مع زوجته الفرنسية، ولأنى لا أعرف الفرنسية، ولأنها هى أيضاً لم تكن تعرف العربية، وهذا أصابنى بالدهشة والذهول لأن رفقة طه حسين سنوات طويلة لابد أن تجعلها تعرف شيئاً من العربية. قام بالترجمة بينى وبينها يومها الدكتور محمد حسن الزيَّات، زوج ابنة طه حسين أمينة،


عند جلوسى فى صالون فيلته بشارع الهرم فى انتظار وصوله، كنتُ أُفكِّر فى هذا العملاق الكبير الذى قهر الظلام، ظلام فُقدان نعمة البصر. ورأى ما لم نره فى حياتنا رغم عيوننا المفتوحة طول الوقت حتى ونحن نيام. وكان يرد على الأسئلة وكأنها الإجابات كانت مُتراصة فى عقله الباطن حتى قبل أن أنطق بها.


بعد رحيله حرصتُ على أن أجرى حديثاً مع تلميذته القريبة من قلبه الأستاذة الدكتورة سهير القلماوى، التى عُيِّنت بعد ذلك رئيسة لمجلس إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب. ونشرت لى روايتى الثانية: أخبار عزبة المنيسى، وقدَّمتها لى بمقدمة جميلة وعذبة وقيِّمة. لم تكن لدىَّ الشجاعة وقتها أن أطلبها منها. وهى بدورها كواحدة من أبناء الجيل العظيم الذى كان لم تُخبرنِ بأنها كتبت هذه المقدمة وتركت المفاجأة تُفقدنى حتى القُدرة على الكلام لفترة من الوقت. كنتُ أتردد عليها فى بيتها بالمعادى حتى تركتنا ورحلت.

 


فاتن حمامة
لم تُمثِّل فاتن حمامة "27 مايو 1931 – 17 يناير 2015" لى شيئاً من رواياتى، ولكن بعد أن اختار صلاح أبو سيف، عمر الشريف لبطولة فيلم: المواطن مصرى، المأخوذ عن روايتى: الحرب فى بر مصر. وكان لوجود عُمر الشريف للفيلم مسألة مهمة للغاية. وإن كنتُ عندما اقتربت منه فى العشاء الذى أقامته لنا بطلة الفيلم الفنانة: صفية العِمرى، قد اكتشفت أنه ينطق العربية بصعوبة بالغة. وكان وقتها عائداً من باريس وهوليود.


المهم أننى فوجئتُ باتصالٍ من فاتن حمامة، وزرتها فى بيتها بالزمالك، وكانت أذكى من أن تذكر اسم عمر الشريف. قالت لى إنها استدعتنى لأُرشِّح لها رواية من رواياتى كى تحولها مسلسلاً تليفزيونياً أو فيلماً سينمائياً. وهذا لم يحدث لأن الهدف كان عُمر الشريف الذى يقوم ببطولة فيلم لى. وكان عمر الشريف فى ذلك الوقت هو النجم المصرى والعربى الوحيد الذى غزى السينما العالمية فى قلب هوليوود، وحقق انتصاراتٍ لم أجد أصداءها فى أدائه لبطولة المواطن مصرى.


فاتن حمامة فنانة مثقفة. عندما زرتها فى بيتها بعد اتصالها بى ودعوتها لى لكى أزورها فى منزلها العامر بحى الزمالك، رحَّبت بى وجلست وسط كُتبها، وكانت مكتبة جميلة تُشرِّف الفن المصرى كله وليس فاتن حمامة وحدها. استمعت إلىَّ واستمعت إليها. وكانت تُريد منى البحث عن رواية من رواياتى يكون فيها دورٌ يُناسبها.


كنت أجلس أمامها وأنا أُفكِّر فى فيلم: دعاء الكروان، والدور المُعجز والمُذهل والعظيم الذى قامت به فى هذا العمل. وجلسنا نتكلم، وسألتنى عن نجيب محفوظ، وأشرتُ لها عبر شُرفة الغرفة التى كنا نجلس فيها إلى الناحية الأخرى، وقلتُ لها أنه يسكن هنا على شاطئ النيل الآخر المقابل للزمالك. وذكرته بكثيرٍ من الإطراء.


وكعادتى عندما أجد نفسى فى مكتبة أحد، خاصة من المشاهير أن أحاول قراءة عناوينها. وأُقلِّب فيها. وهذا ما سمحت لىَّ القيام به برحابة صدر وسِعة وقت، رغم أن الوقت بالنسبة لها مسألة مهمة. ولم تقترب فى حوارى معها من الأمور الشائكة. فقد تركت مصر – هكذا قيل وقتها – هروباً من سطوة عبد الناصر. وعادت لها بعد رحيله. ومع ذلك مرت على الأمر مرور الكرام.


كانت فنانة أكثر من نادرة، ومثقفة. وشعرنا جميعنا بالخسارة يوم رحيلها عن الدنيا.


عبد الحليم عبد الله


كان محمد عبد الحليم عبد الله "3 فبراير 1913 – 30 يونيو 1970" ينتمى لقرية كفر بولين مركز كوم حمادة محافظة البحيرة. رأيته فى ذلك الزمان الموغل فى القِدم لأول مرة فى ندوة أقامها له قصر ثقافة دمنهور عندما كان يديره المثقف الكبير مصطفى حسن البسيونى، واستمعت إلى ما قاله للجمهور واصطحبته حتى الفندق الذى كان يبيتُ فيه. وكان فندقاً عادياً لأن دمنهور كانت تخلو من الفنادق الفاخرة فى ذلك الوقت، وربما حتى الآن.


كان إنساناً ريفياً بسيطاً، ولم تؤثر فيه حياة المدينة. ثم ترددت عليه فى بيته بالمنيل بالقاهرة، وكان يعمل فى مجمع اللغة العربية بالجيزة الذى كان يرأسه فى ذلك الوقت الدكتور طه حسين.


خلال لقائى به تحدَّث كثيراً عن حياته ومشاكله مع الناصريين المصريين واليسار المصرى فى ذلك الزمان البعيد. وكان يرى أنهم يمارسون النقد الأدبى انطلاقاً من مواقفهم الشخصية. بعيداً عن القواعد العلمية التى من المفترض أن ينطلقوا منها. وأن يعتبروها دستور عملهم. كان يشعر بالمرارة الشديدة منهم. وإن لم يقل لى أنه لا يحبهم بسبب مواقفهم السياسية منه، وإن كان ذلك واضحاً شديد الوضوح عند كلامه عنهم.


ثم جاء رحيله المُفجع عندما كان فى دمنهور واتجه إلى كفر بولين. وركب سيارة أجرة من التى يستقلها عدد كبير من الناس، وحصل خلافٌ بينه وبين السائق واحتد عليه السائق الذى لم يكن يعرفه ولا يُدرك قيمته، فمات على الفور من شدة حساسيته.
يومها أخذتُ إجازة من وحدتى العسكرية وسافرت إلى كفر بولين مستخدماً خط قطار المناشى الذى كان قد أُقيم بسبب إنشاء مديرية التحرير، وقدمت العزاء فيه، وعدتُ آخر النهار. رغم أن قريتى كانت أقرب من القاهرة، لكن لم تكن هناك مواصلات بين كفر بولين والضهرية. فركبت القطار إلى القاهرة.


نور الشريف


كان نور الشريف "28 أبريل 1946 – 11 أغسطس 2015" فناناً مثقفاً، عرفته من خلال مكتبة الحاج محمد مدبولى الموجودة بميدان طلعت حرب بوسط البلد. وكان لنور الشريف مكتب قريب من مدبولى، وكان يرسل له مرتين فى الأسبوع سكرتيره لكى يُحضر له الجديد الذى عنده فى الروايات المصرية والعربية والعالمية.


وقد سألت السكرتير: وهل يجد فنان كبير مثل نور الشريف الوقت لكى يقرأ؟ قال لى: لو ذهبت إلى بيته فى المهندسين لاكتشفت أنك أمام مكتبة من أهم مكتبات المثقفين والفنانين فى بر مصر كله. وقد حدث هذا، ولكن فى وقتٍ لاحق.


كان نور الشريف فناناً مثقفاً، لا يدَّعى الثقافة مثل غيره من الفنانين، لكنه كان قارئاً جيداً للأدب المصرى والأدب العربى والآداب العالمية. وعندما قرأ روايتى: الحرب فى بر مصر، قرر أن يتحول من مُمثِل إلى مخرج، وأن يُخرجها للدنيا كلها كعملٍ فنى يؤرخ به للسينما العالمية. وإن كان هذا لم يحدث.


وعندما قلت له: يكفى أنك قمت بدور نجيب محفوظ فى شبابه فى ثلاثية: بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية. قال لى إن روايتك أعجبتنى وأريد تحويلها فيلماً، ولو حدث هذا لتحولتُ من ممثلٍ إلى مخرج. وكانت الحرب فى بر مصر عملى الذى صدر فى ذلك الوقت. لكن الرقابة رفضت طلبه فى ذلك الوقت رفضاً قاطعاً. وهو فنان مثقف من النادر أن يوجد مثله ربما حتى الآن.


معالى زايد
لا أذكر من الذى اتصل بالثانى أولاً؟ هل هى الفنانة معالى زايد؟ "5 نوفمبر 1953 – 10 نوفمبر 2014" أم أنا؟ لكن المؤكد أنها كانت تسكُن فى عمارة أمامها مباشرة ظهر دار القضاء العالى فى المنطقة التى نُسميها الإسعاف. ذهبت إليها فرِحاً وسعيداً، وبتفكير الشباب ورؤيته للدنيا لم يكن يشغلنى سوى أن تقوم ببطولة عمل من أعمالى الروائية. التى لا يُقبِل عليها المخرجون كما كنتُ أحلم وأتصور.


وجدتُ عندها مكتبة، وإن كنتُ قد خجلت أسألها لماذا اتصلت بى؟ لكنها كانت تعيش فى جو سينمائى كامل آناء الليل وأطراف النهار، وكانت مشغولة بشراء قطعة أرض فى السادس من أكتوبر وتبنى عليها فيلا وتزرع باقى الأرض. وذلك بعد أن تعتزل التمثيل، وكانت متحمسة لهذا المشروع لدرجة أفزعتنى.


ولأن بيتها كان فى قلب وسط القاهرة رأيت فى بيتها كثيراً من وجوه أهل الفن، خاصة المخرجين والمنتجين منهم. دعتنى لحضور تصوير الفيلم الذى قامت ببطولته: كتيبة الإعدام، عندما كان يجرى تصويره فى دار القضاء العالى القريب من بيتها.
رحمها الله رحمة واسعة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة