باتت أنقاض المنازل والبنى التحتية المشهد المتسيد في قطاع غزة، جراء حرب الإبادة الإسرائيلية التي استمرت لأكثر من 15 شهرًا، وهو مشهد مألوف بالنسبة لأهله، حيث إنها خامس مرة تدمر فيه الدولة العبرية القطاع الفلسطيني فقط لأنها تريد التدمير، بينما يبقى السؤال الأبرز عقب كل مرة: من يدفع فاتورة إعادة الإعمار، التي تقدر بمليارات الدولارات؟.
ومنذ عام 2008، شنت إسرائيل خمس حروب مدمرة ضد قطاع غزة، أشدها وطأة التي نحن بصددها، حيث تشير التقديرات الفلسطينية إلى أنه تم تدمير 88 بالمائة من البنى التحتية، بما يشمل المنازل وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء والاقتصاد.
ويمثل إعادة إعمار قطاع غزة، أحد النقاط الأساسية التي تم التوافق عليها في اتفاق وقف إطلاق النار، حيث من المفترض أن تتم تلك المرحلة على مدى ثلاث إلى خمس سنوات، بتكلفة تقدرها الأمم المتحدة بـ40 مليار دولار.
من سيدفع فاتورة القرن؟
لكن من سيدفع تلك الفاتورة؟.. قد يقال إن على المجتمع الدولي أن يسهم بشكل فعال في تلك المسألة، لكن بشكل عام لا يمكن التعويل على ذلك، خاصة أن الحديث يدور على 40 مليار دولار، بل إن هناك تقديرات أخرى تشير إلى إن عملية إعادة الإعمار قد تحتاج نحو 80 مليار دولار، وذلك يجعلها فاتورة القرن عن جدارة.
ثم إن هناك سؤال آخر يدور في الأفق: من يضمن ألا تدمر إسرائيل القطاع على أهلة مرة أخرى؟ فذلك ليس بالمستبعد، في ظل العجز عن إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.
وهذا يدفع إلى التأكيد أن تحمل إسرائيل فاتورة إعادة إعمار غزة، قد يجعلها تتورع عن تدميره مرة أخرى، وذلك يتوافق أيضًا مع القانون الدولي، الذي يعتبر القطاع الفلسطيني أرضًا محتلة من قبل إسرائيل.
وفي غضون ذلك، يؤكد الدكتور إكرام بدر الدين، أستاذ العلوم السياسية، أن عملية إعادة إعمار غزة الواردة في المرحلة الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل، لم تتضح بشكل كامل بعد.
وأضاف "بدر الدين"، في حديثه لـ"دار الهلال"، أن إعادة إعمار القطاع مرة أخرى لن يكن بالأمر الهين، حيث من المفترض أن يسهم فيها العالم بأكمله، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أنها ستستغرق فترة زمنية طويلة.
وأوضح أن عملية إعادة الإعمار من الممكن أن تتم من خلال الدعوة إلى مؤتمر دولي في هذا الخصوص أو عبر جمع التبرعات، مؤكدًا على ضرورة تضافر الجهود الدولية في هذا الشأن.
أما في شأن الحديث عن أن إسرائيل هي من دمرت فعليًا القطاع، وأنها يجب أن تتولى مسؤولية إعادة الإعمار مرة أخرى، فهذا الكلام غير واقعي، بحسب أستاذ العلوم السياسية، وذلك لعدم وجود قوة استطاعت الحيلولة دون تدمير القطاع، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وبالتالي، لا يوجد من يستطيع إرغامها على دفع فاتورة إعادة الإعمار.
وفي إجابة عن سؤال ما إذا كان هناك ضامن ألا تدمر إسرائيل القطاع الفلسطيني مرة أخرى، أجاب "بدر الدين" بأنه لا توجد أي ضمانات لذلك، فكما نحن نشاهد إسرائيل تعربد في أكثر من ناحية في المنطقة، وليس فلسطين فحسب، حيث إنه لا يوجد رادع لإسرائيل.
وفي رأيه، فإن الضامن الوحيد لعدم تدمير القطاع مرة أخرى هو إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، بناء على حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة، حيث إن من شأن ذلك أن ينزع فتيل الأزمة بأكملها، مختتمًا: "لو أمكن الوصول إلى حل سياسي وإطلاق مبادرة سياسية دولية تؤدي إلى الوصول إلى حل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة تعيش في سلام إلى جانب إسرائيل، وبالتالي، نكون قد نزعنا فتيل الأزمة".
وقف إطلاق النار الدائم سبيل إعادة الإعمار
وفي مسار مواز، هناك من يطرح أن إسرائيل ستسعى جاهدة للتنصل من اتفاق وقف إطلاق النار مع حركة حماس، لتستأنف حرب الإبادة الجماعية ضد قطاع غزة، وبالتالي، فإن الحديث عن إعادة إعمار القطاع الفلسطيني، يأتي بشكل مبكر، ولا يمكن الحديث عن هذه المرحلة، دون التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار.
ويرى الدكتور رامي عاشور، أستاذ العلاقات الدولية، أنه لا يمكن فصل مسألة إعادة إعمار قطاع غزة عن التوصل إلى وقف "دائم" لإطلاق النار، وهذا أمر صعب، لأن إسرائيل ستحاول التنصل من الاتفاق الحالي، لكي تستأنف حربها مرة أخرى.
وأوضح "عاشور"، أن تحقيق وقف إطلاق النار "المؤقت" في قطاع غزة، وإدخال المساعدات، ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، هو بمثابة نجاح لسياسة "القوة الناعمة" التي مارستها الدولة المصرية ضد "القوة الصلبة" التي تتبناها إسرائيل.
وأضاف "عاشور" في حديثه لـ"دار الهلال"، أن هذا النجاح "مؤقت"، مفسرًا ذلك بأن اتفاق التهدئة الحالي بمثابة تعطيل لإسرائيل عن أهداف الحرب الحقيقية وضياع ثمار عرقلة جهود وقف الحرب خلال الـ15 شهرًا الماضية وسياسة الإبادة الجماعية.
وكشف أن إسرائيل كانت تستهدف من وراء ذلك ضم كافة الأراضي الفلسطينية تحت سيادتها، وهذا لن يحدث إلا عبر: طرد الفلسطينيين من أرضهم أو دفنهم فيها ما يُعرف بسياسة "الإبادة الجماعية"، موضحًا أن اتفاق وقف إطلاق النار جاء ليعطل أهدافها تلك، بينما استغلت مصر بدورها الاتفاق لكي تدخل المساعدات، التي أعادت إحياء الأمل للفلسطينيين بالداخل، حيث كانت بمثابة فرصة أمل لهم، مؤكدًا أن إدخال المساعدات أدى إلى عرقلة الأهداف الإسرائيلية من حربها على غزة، وحافظ على الشرعية الفلسطينية للأرض.
وبناء عليه، يرى أستاذ العلاقات الدولية، أن إسرائيل ستحاول التنصل من اتفاق وقف إطلاق النار، وأن الـ42 يومًا (مدة المرحلة الأولى من الاتفاق) لن تمضي على خير، حيث ستحاول إسرائيل إيجاد أي حجة لتستأنف حربها على القطاع مرة أخرى، موضحًا أن ذلك قد يتم عبر تنفيذ إسرائيل عملية في الضفة الغربية ثم تدعي أن هناك خطر يهددها، لتستخدم حق "الدفاع عن النفس"، ثم تتنصل من "اتفاق غزة"، وذلك لأنها في هذا الوقت ستكون في حالة حرب.
ومع التنصل من الهدنة، ستبقي إسرائيل بحوزتها كافة الأراضي التي تم تدميرها في قطاع غزة وتتفرغ لإبادة ما تبقى من الفلسطينيين، بحسب "عاشور".
وفي شأن الموقف الأمريكي، يقول إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفذ وعده الذي قطعه على نفسه للجالية المسلمة ومثيلتها اليهودية الليبرالية أثناء حملته الانتخابية بالتوصل إلى تهدئة في قطاع غزة، لكن هذا لا يعني أنه سيضغط على إسرائيل لمنعها من الحرب، مشيرًا إلى أن فريق "ترامب" بأكمله من اليمين المتطرف الداعم لضم الضفة الغربية وإقامة بؤر استيطانية في غزة.
وبناء على الطرح السابق، يؤكد عاشور، أنه لا حديث عن إعادة إعمار غزة، دون التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار هذا من جهة، ولا حديث عن إعادة الإعمار طالما أن حركة حماس تفرض سيطرتها على قطاع غزة هذا من جهة أخرى.
وأردف أن "مسألة إعادة إعمار قطاع غزة تحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات: من سيدفع.. القوى الدولية.. هذا إن دفعت، لأنها ستقول لن أدفع الأموال في أرض يسيطر عليها فصيل غير مسؤول، فحماس هي من نفذت هجوم السابع من أكتوبر 2023، وأعطت الفرصة لإسرائيل لكي تلحق بالقطاع هذا الدمار"، متابعًا:"في حال ظل قطاع غزة تحت يد حركة حماس، فإن من الوارد جدًا أن تدمره إسرائيل مرة أخرى، وهذا سبب كافي لكي يمنع القوى الدولية من المساهمة في إعادة الإعمار". ولذلك، يؤكد أن سبيل إعادة إعمار قطاع غزة، متمثل في التوصل إلى وقف "دائم" لإطلاق النار، وفي الوقت نفسه عدم وجود حركة حماس في السلطة.