عقب هزيمة الخامس من يونيه 1967 وفى إطار عملية «جلد الذات» التي سيطرت على البعض وقتها، تعرضت كوكب الشرق أم كلثوم إلى حملة هجوم عاتية، جاء الهجوم من جانبين؛ أقصى اليسار وأقصى اليمين، هجوم اليسار تركز على أنها كانت تغنى لعبد الناصر وللنظام القائم وأنها تخاطب «البرجوازية» ولا تتجه نحو تثوير: العمال والفلاحين، أي تحويلهم إلى ثوار.
وفى أقصى اليمين انطلق الهجوم من جماعة «حسن البنا» الإرهابية؛ ويتصور البعض أن الجماعة كانت قيد الاعتقال أو السجن في عهد عبدالناصر؛ لكن خلاياها النائمة كانت موجودة وقتها بعضهم وجد طريقه إلى التنظيم السياسي وقتها «الاتحاد الاشتراكى العربى» وراحوا يتقولون على كوكب الشرق ويوجهون إليها أبشع التهم؛ من أنها تغنى للحب وللمحبين وتنشر الخلاعة والانحلال؛ يكفى أن نراجع بعض خطب الشيخ عبد الحميد كشك حتى بعد وفاتها؛ فقد عرضها للتهكم وللسخرية، مثل قوله في خطبة الجمعة وعلى منبر المسجد «امرأة في السبعين تقول خدنى في حنانك خدنى .. ياختى خدك ربنا».
الآن نعرف أن جلسات "مقهى ريش" كانت مركز الهجوم الحاد على أم كلثوم؛ سمعت من القاص المبدع سعيد الكفراوى أن إحدى جلسات الأستاذ نجيب محفوظ الأسبوعية فى ريش، تحولت بالكامل إلى الهجوم على كوكب الشرق والإساءة إليها في كل شيء؛ من حياتها الخاصة والرفاهية التي تحياها؛ إلى نفوذها الواسع؛ ثم هجوم على كل ما تقدمه من فن؛ الأمر الذى أغضب الأستاذ نجيب ؛ وبعد انتهاء الجلسة نادى سعيد وحذره من أن يهاجموا أم كلثوم فيما بعد في حضوره؛ نقل سعيد إلى زملائه رواد الندوة مطلب الأستاذ والتزموا به؛ لكن الهجوم لم يتوقف نجيب محفوظ من أشد المعجبين بصوت وأغنيات أم كلثوم؛ حتى إنه أطلق اسمها على إحدى ابنتيه؛ ومن يراجع أعماله سوف يجد ذلك الإعجاب؛ عبر صفحاتها.. أحلام فترة النقاهة نموذجاً.
تلك كانت الفترة التى شاعت فيها قصيدة الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم "كلب الست"، القصيدة عن واقعة الكلب فى فيلا أم كلثوم قام بعض أحد المواطنين، وأحيلت الواقعة إلى الشرطة، كانت القصيدة فكاهية بأكثر منها هجائية، لكنها تحولت مع البعض إلى نوع من الهجاء والعداء لأم كلثوم أو محاولة التحريض عليها جماهيريا.
موقف بعض فصائل اليسار في الخمسينيات والستينيات من عدد من رموز الإبداع عموما يحتاج إلى توقف ودراسة خاصة؛ موقفهم من أم كلثوم ومن عباس العقاد؛ ومن نجيب محفوظ نفسه فترة طويلة من الوقت، بل ومن طه حسين أحيانا وغيرهم.
كان هذا الموقف من بعض النخب في جانب؛ بينما كان الموقف الشعبي في جانب آخر؛ كانت أم كلثوم عندهم هي "الست" وهى رمز للكفاح الشاق؛ والصعود الاجتماعى بالجد والاجتهاد؛ لم تكن ابنة باشا ولا من علية القوم؛ لم تدخل مدرسة ولا التحقت بجامعة؛ نشأت في أسرة فقيرة؛ تكاد تكون معدمة؛ في قرية صغيرة وبموهبتها وكفاحها؛ صارت موضع احترام الجميع؛ الباشوات في العهد الملكى ثم كبار رجال الدولة في عهد ثورة يوليو 1952؛ يكفى أن جمال عبد الناصر نفسه يستمع إليها؛ يحضر بعض حفلاتها؛ على الأقل حفلة كل سنة؛ في ذكرى ثورة يوليو؛ هو وعدد من كبار رجال الدولة..
وبينما كانت تتعرض للهجوم كانت -هي- تقوم بجمع التبرعات وإقامة الحفلات لحساب المجهود الحربي، بعد هزيمة يونية 1967، فعلت ذلك بمبادرة ذاتية منها وحركت عددا من الفنانين والفنانات معها فى هذا الجانب، الأمر الذى دفع الرئيس جمال عبد الناصر أن يقدم لها جواز سفر دبلوماسي؛ لتسهيل رحلاتها وكى يفهم الجميع أنها تمثل بدرجة ما الدولة المصرية.
كتب كثيرون عن علاقة أم كلثوم بثورة يوليو 1952 وتقديرها الخاص للرئيس عبد الناصر وإعجابه الشخصى بفنها؛ إلى حد أنه تدخل عقب 23 يوليو 1952 ليرفع عنها ظلم أحد المسئولين عن الإذاعة؛ إذ قام بمنع إذاعة أغنياتها في الإذاعة؛ بزغم أنها تنتمى إلى "العصر البائد" أي العصر الملكى؛ وبعض الذين يحقدون عليها ذكروا أنها غنت للملك فاروق؛ أغنية "ياليلة العيد" سنة 1944 وفيها جملتيان أو شطران عن الملك فاروق.. وهكذا انتهى هؤلاء إلى أنها كانت تغنى للسلطة دائماً .
لكن أحدا لا يذكر أنها غنت كذلك لسعد زغلول، الزعيم العظيم؛ غنت قصيدة في رثائه؛ كتبها أحمد رامى ولحنها محمد القصبجى "إن يغب عن مصر سعد" توفى سعد فى أغسطس سنة 1927.
عاصرت أم كلثوم ثورتين وطنيتين؛ الأولى سنة 1919 والثانية سنة 1952؛ الثورة الأولى لها الفضل الكبير على أم كلثوم؛ ذلك أن الثورة أحدثت تحولا اجتماعيا كبيراً؛ إذ فتحت سياجا كان حصينا بين الطبقات والفئات الاجتماعية في مصر؛ أسقطت ثورة 19 الانغلاق الذى أحدثته طبقة أو فئة المستتركين في مصر؛ وفتحت الباب أمام الفلاحين؛ أي المصريين الخلص؛ سعد زغلول نفسه كان واحداً منهم؛ ومعظم رفاقه فى الثورة كانوا كذلك؛ فضلا عن جيل تلاميذه أو أبناء سعد – كما كان يطلق عليهم؛ أمثال مصطفى النحاس وأحمد ماهر والنقراشى ومكرم عبيد؛ هؤلاء كانوا مصريين خلص؛ وصاروا رموز المجتمع وقادة الدولة؛ لو لم تقم ثورة 19 ما كان ممكنا للباشوات أن يستمعوا إلى أم كلثوم؛ ثورة 19 مصرت الغناء والفن وأخرجته من مرحلة "العثمانى" من جانب أو التعبير عن حالة العدمية واليأس والانفلات التي سادت فترة الحرب العالمية الأولى خاصة.
سيد درويش مصر الألحان والموسيقى؛ وتراجع الذوق التركى؛ وهذا فتح الباب أمام أم كلثوم فيتاح لها أن؛ تقف على خشبة المسرح وتقام لها حفلات في مسارح الأزبكية وغيرها؛ وليست مجرد مؤدية تقضى ليلة الموسم أو تغنى في حفل داخل حرملك أحد البيوت؛ غناء داخل البيوت أو القصور فقط أو في سرادقات المناسبات الاجتماعية والدينية.
دراسات عديدة عن أم كلثوم تجاهلت دور ثورة 19 بالنسبة لها؛ هي ابنة أو نتاج تلك الثورة . لذا لا غرابة أن باشوات عهد ما بعد ثورة 19 مثل مصطفى النحاس باشا وغيره استمتعوا بفن أم كلثوم حضروا حفلاتها وحملوا لها احتراما وتقديرا على المستوى الشخصى؛ وصارت مصدر تأثير اجتماعى مهم في تشكيل الذوق العام والتعبير عن الوجدان المصرى، وهنا تأتى وطنياتها التي تغنت بها مثل قصيدة حافظ إبراهيم "مصر تتحدث عن نفسها" وغيرها وغيرها.
في فترة ما بين الثورتين 1919/ 1952؛ كانت مصر تموج بتيارات عديدة سياسية وثقافية واجتماعية؛ كان هناك تيار الاستقلال التام وتيار آخر حتى لو كان ضعيفا ومنبوذا ينادى بأن علاقتنا مع بريطانيا العظمى عبارة عن "زواج كاثوليكى"؛ وهناك من أراد لنا الارتباط بالعالم العربى؛ وتأسست الجامعة العربية؛ وتيار آخر رأى أن نرتبط مع أوروبا أو الولايات المتحدة؛ وهناك من آمن بالصورة البلشفية فى روسيا، ذلك التعدد ينسحب على التعليم والثقافة والفن أيضا؛ يكفينا القول إن أم كلثوم كانت تعبيرا عن التيار العام؛ أي الاستقلال والتمصير مع الارتباط ثقافيا وفنيا مع المحيط العربى؛ أم كلثوم أفضل من فعل ذلك؛ حيث جاب صوتها العالم العربى كله منذ منتصف الثلاثينيات.
نعرف أن الزعيم مصطفى النحاس غضب بشدة من إحدى أغنيات محمد عبدالوهاب، والتى يهجر الحبيب وطنه لفراق الحبيبة، اعتبرها النحاس دعوة لخيانة الوطن، وتوقف عبدالوهاب عن تكملة الأغنية، وحدث كذلك أن النحاس تدخل ومنع أغنية فريد الأطرش "يا عوازل فلفلوا"، إذ اعتبر الكلمات شديدة الابتذال، لكنه كان ينصت لأغنيات أم كلثوم.
بعد خروج الملك فاروق من مصر متنازلا عن العرش في 26 يوليو سنة 1952؛ حاول البعض ممارسة قطيعة تامة مع تلك الحقبة؛ وتناسى هؤلاء أن الملك غادر مصر وقد أطلقت له المدفعية 21 طلقة؛ وكان في وداعه اللواء محمد نجيب بنفسه.
مرة أخرى، من المؤسف أن عدداً من الدراسات حول أم كلثوم تجاهلت دور ثورة 19 بالنسبة لهذه الفنانة العظيمة وللفن المصرى عموما.
حين قامت ثورة 1952 لم تكن أم كلثوم في بداية الطريق أو تحاول إثبات نفسها في القاهرة؛ بل كانت فنانة ملء السمع والبصر؛ لها تأثير كبير؛ سبق أن كرمها الملك فاروق بنفسه سنة 1944 حيث أنعم عليها بوسام الكمال؛ النحاس باشا يقدرها- أما ضباط يوليو 1952؛ فكان عدد منهم يقدرها كثيرا خاصة جمال عبدالناصر الذى كان مفتونا بصوتها؛ أما عبد اللطيف البغدادى قائد الجناح-كما ورد فى مذكراته- فقد دخل الكلية الحربية بتوصية منها بناء على طلب والده عمدة القرية، ولذا كانوا هم في حاجة إلى فنها وصوتها ودعمها؛ وهى كذلك كانت في حاجة إلى مساندتهم في مواجهة أولئك الذين أرادوا أن يحسبونها على النظام البائد؛ وتصبح هي الأخرى بائدة معه؛ وهكذا كانت العلاقة بينها وبينهم؛ فيها التقدير والمحبة والاحترام؛ وفيها كذلك إدراك كل طرف واحترامه لدور الطرف الآخر.
في مسيرته الذاتية؛ ذكر محمد فائق وزير الإرشاد زمن الرئيس عبدالناصر- وزير الإعلام- أن أم كلثوم كانت تسافر إلى العديد من الدول؛ وكانت ترى وتلاحظ أشياء يمكن أن تفيد مصر؛ فكانت تنبه المسئولين إلى ذلك؛ فعلت هذا الأمر معه.. كانت هي من لاحظت أن السيدة وسيلة بورقيبة؛ قرينة الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة، كان لها تأثير قوى على زوجها ومن ثم على الأمور السياسية؛ وكانت هي من لاحظت أن قراءة القرآن الكريم في التليفزيون؛ لم تكن تكتب الآية الكريمة على الشاشة لحظة التلاوة؛ فاتصلت به وهو الوزير المسئول بطلب ضرورة كتابة الآية الكريمة؛ وهو ما يحدث إلى اليوم.
أم كلثوم كانت فلاحة مصرية؛ لم يتغير ارتباطها بهذا الشعب ولا بالدولة المصرية؛ هناك من أراد أن يحسبها على "السلطة" بالمعنى السلبى للكلمة وهناك من حاول أن يضعها في خانة "الناصرية" فنا؛ الواقع أنها غنت لهذا الشعب وهذا الوطن؛ لم يكن لديها موقف سياسي مباشر، لكن كانت صاحبة موقف وطنى واضح، ولما كانت الإذاعة الرسمية ثم التليفزيون هما طريقها إلى الجمهور؛ فكان طبيعيا أن لا تدخل في عداء مع حكومة أو مسئول بعينه؛ كان يهمها الوصول إلى الجمهور؛ وقد وصلت إليه؛ ثم إنها حاولت الارتقاء بالذوق العام؛ لذا غنت القصيدة الشعرية؛ لكبار الشعراء شوقى حافظ ومحمد إقبال وقبل هؤلاء جميعا وبعدهم أحمد رامى وآخرون؛ ولما غنت بالعامية؛ اختارت العامية القريبة جدا من الفصحى؛ أو تلك التي تسمى "اللغة الثالثة" وفق تعبير توفيق الحكيم؛ أي ليست فصحى مغرقة في التخصص ولا عامية مبتذلة؛ ولأنها ابنة هذا التراب ارتبطت بالثورتين؛ سنة 19 وسنة 52.