الأحد 2 فبراير 2025

مقالات

رئيسة دولة الغناء


  • 2-2-2025 | 21:53

عمر بطيشة

طباعة
  • عمر بطيشة

لست أدعى أنني كاتب مقال.. أو أنني سآتى في مقالي هذا عن أم كلثوم بما لم يأت به أحد.. فأنا لم أعايش أم كلثوم إلا كمستمع من بين ملايين المستمعين، وكواحد من جيل تأثر بأم كلثوم وتعلم من أغانيها مشاعر الحب ما بين قرب وبعد وسهاد وغيرة وندم وفرحة وحرارة ولم تتح لي فرصة لقائها شخصيا إلا مرة واحدة في بداية حياتي الإذاعية حيث حظيت بتسجيل قصير معها في مدرجات ملعب كلية الشرطة حيث كانت تجرى مراسم تخرج دفعة جديدة من الخريجين .. وكنت مكلفا بتغطية حفل التخرج عام 1969 وفوجئت بحضور السيدة أم كلثوم برفقة ابن اختها ومدير أعمالها محمد الدسوقي يصاحبها اللواء الصادق حلاوة مدير الكلية.. وأخذت مقعدها أمامي مباشرة.

وقد تصورت أو توقعت أن حضورها كان حضور تخرج أحد أبناء أسرتها وانتظرت حتى توزيع شهادات التخرج ثم اقتربت منها بالميكروفون وكان إلى جوارها صديقها الصحفي الفني الكبير جليل البنداري الذي يبدو أنه عرف منها موعد حضورها فأصر على حضور ومشاهدة صديقته سيدة الغناء العربي وهي تحضر حفل كلية الشرطة!
وتجرأت وواجهتها بالميكروفون ورحبت بها وسألتها مباشرة:
"هل السيدة أم كلثوم تحضر اليوم لتشهد تخرج أحد أبناء أسرتها ؟" ولأول وهلة لم ترد وتجمد الدم في عروقي لحظات.. وهي تنظر لي مليا ثم نظرت إلى ابن اختها الذي لحسن حظى شجعها على الإجابة بإيماءة من رأسه.. فردت على قائلة:
"أنا كل الشعب العربي قريبي ولكني حضرت اليوم لدعم شرطة بلدي الذين  يتفانون ويسهرون في خدمة الشعب ومضت لي الأسئلة سريعة متلاحقة وهى ترد بتؤدة ووقار ووطنية أو قومية طبقا للفكر السائد وقتها (بعد نكسة يونيو 67) وانتهى الحوار القصير من ناحيتي بعد أن شكرتها ولكنها تقمصت دور المذيعة وفوجئت بها تسألني (انت اسمك إيه؟) قلت (عمر بطيشة) قالت (أيوه أنا باسمعك بس إيه حكاية بطيشة دي؟) رددت أن (جدى بطش بالمماليك لتواطئهم مع الحملة الفرنسية) فأومأت واستعجلها الدسوقي والبنداري واللواء حلاوة على الانصراف.. وهرعت أنا إلى ماسبيرو لإعداد برنامجي للإذاعة وأنا أحمل الكنز الذي سجلته على جهازي وكان مصور مجلة الإذاعة والتلفزيون قد التقط هذه الصورة التاريخية لأم كلثوم وأنا خلفها في الحفل (صورة أم كلثوم تحضر حفل تخرج كلية الشرطة).
كان هذا هو لقائى الوحيد مع رئيسة دولة الغناء أم كلثوم وبعد سنوات حكى لي المؤرخ الفني حسن إمام عمر- وكان من أصدقاء أم كلثوم- أنها مرات عديدة كانت تسرح في القعدة بينهم وتردد عمر بطيشة.. عمر بطيشة.. !!
ويبدو أن رنين الاسم أعجبها فرددته إعجابا أو سخرية من ذكرى البطش بالمماليك! 
وأقفز من هذه الذكرى الشخصية إلى انطباع أشمل وأعمق لأحكي لأجيال لاحقة لم تعاصر أم كلثوم كيف كانت أم كلثوم لجيلي.. أريد أن أصور للجيل المعاصر ما الذي كان يحدث لجيلنا ليلة حفل أم كلثوم..
قبل الحفل بأيام كانت تضرب المواعيد ويتم الترتيب على الاجتماع في بيت أحدنا لنستمع مثنى أو ثلاث لأم كلثوم ومعنا معدات السهرة الصباحي.. مثل اللب والفول السوداني والبرتقال واليوسفي.
وليلة الحفل وقبل أن تبدأ أم كلثوم بساعة على الأقل تكون التجمعات قد اكتملت في البيت أو المقهى المصري بل والعربي وسط الضحكات والقفشات.
وما أن يبدأ الحفل حتى يرين الصمت علينا ونحن مصغون معيرون أسماعنا لأجهزة الراديو التي تذيع حفل كوكب الشرق على الهواء كنا وكأننا مخدرون من النشوة. 
وما أن تنتهي كوكب الشرق من الغناء ويعلن المذيع إسدال الستار على الأغنية أو الوصلة الثالثة من الحفل حتى نقوم من مجلسنا وكان على رؤوسنا الطير من فرط ما حملت من مشاعر أثقل وجداننا بالعواطف الملتهبة التي تركتها مواضيع الأغاني الثلاث سواء كانت حزينة أو مبهجة.. ونتبارى في ذكر ما علق بذاكرتنا من مقاطع ما تغنت به أم كلثوم.. وما هي إلا قيمة سواد الليل حتى يتجلى الصباح فنسرع إلى كشاكيلنا ندون فيها نصوص أغاني سهرة الأمس .. وما إن ننزل إلى الشوارع حتى نجد مكبرات الصوت تصدح بتسجيلات حفل أم كلثوم وما إن ينتهي الشريط حتى يعيده صاحب المحل من أوله .. كما تقوم الإذاعة بإذاعة كوبليهات كل أغنية.. وتتنافس الإذاعات على إذاعة الأغنية الجديدة لأم كلثوم.. فيعلو الصوت من الراديوهات في المقاهي وأكشاك السجائر والمحلات بطول الشارع فلم يكن ثمة نت ولا يوتيوب !
وأود أن أصارحكم أنني كان ينتابني  شعور غامض يتملك كل مشاعري بغموض يقترب من نزعات التصوف كلما حاولت استرجاع مقاطع الأغنية.. شعور لا يوصف ولا يتصور أو يتمثل أو يسترجع الآن..
وقد أندهش الآن حين أقلب في بعض كشاكيل زمان أيام الجامعة وقد رصعت بعض صفحاتها بكلمات أغاني أم كلثوم.
وقد تصور البعض أن أم كلثوم ظاهرة غنائية إلى زوال ولكن ها نحن وفي ذكراها الخمسين نجدها تزداد توهجا ولا عجب فهي:
رئيسة دولة الغناء.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة