الإثنين 3 فبراير 2025

مقالات

حرافيش ثومة "جايلك من طنطا يا ست"


  • 3-2-2025 | 12:49

عادل السنهورى

طباعة
  • عادل السنهوري

في منتصف ستينيات القرن العشرين، جاء المصور الأمريكى المعروف «هوارد سو شورك» إلى القاهرة فى مهمة خاصة، وهى التقاط صور خاصة لجمهور أم كلثوم من النساء والرجال والذي يتابعها أول كل شهر من داخل مسرح مختلف في عاصمة المحروسة.

الست غنت منذ أن أصبح لها فرقة موسيقية من العازفين في أربعة مسارح تقريبا، مسرح الأزبكية – المسرح القومي فيما بعد- ومسرح سينما قصر النيل ومسرح سينما ريفولي ومسرح قاعة ناصر بجامعة القاهرة- قاعة الاحتفالات الكبرى لاحقا- يسأل المصور الأمريكي المحترف نفسه ويسأل من يرافقه وهو يحاوره:"كيف أستطيع وسط هذا الزحام الفظيع أن أصطاد بكاميرتي لقطات معبرة..؟!".

قال له رفيقه : انظر هناك .. وقعت عينا هوارد على ذلك الرجل الجالس هناك فى ركن من المسرح وكأنه فى صلاة خاصة حتى أدرك أنه أمام صيد ثمين، ولم يكن الرجل سوى واحد من عشاق أم كلثوم ومهووسيها الكبار، هذا الرجل هو صاحب أشهر عبارة فى حفلات أم كلثوم، التى صارت مثلا بعد ذلك وخلدها التاريخ الشعبى، وهى عبارة «عظمة على عظمة يا ست» وهو الذى تسبب فى بكائها، وترددت بعض الروايات أنها تسببت فى إفلاسه. هو الحاج سعيد الطحان الطنطاوى، واحد من أكبر أعيان محافظة الغربية، ومن أكبر التجار، فهو صاحب مصانع منتجات حيوانية ومطاحن، وتنوعت أعماله بين زراعة القطن والأرز، وأكبر تجار القطن، ولديه عدة مزارع ومطاحن فى مدينة طنطا، وصفوه بأنه مجنون أم كلثوم، فقد كان دائم الحضور فى حفلات كوكب الشرق أم كلثوم، كانت أول حفلة يحضرها لأم كلثوم عام 1935 وكان ما زال شابا، وفى إحدى الحفلات كانت تشدوا كعادتها، فغنت «غنيلى شوى شوى» أصيب سعيد بالجنون وظل يردد «عظمة على عظمة يا ست" .

عرف عن سعيد الطحان هوسه الشديد بأم كلثوم، كان يسافر خلفها أينما ذهبت، فسافر وراءها إلى باريس وليبيا والكويت وعمان، أطلق العارفون بالحاج سعيد عدة ألقاب عليه منها «مجنون سوما،" و"متيَّم كوكب الشرق"،" مهووس أم كلثوم"، "مجنون الست»، وكان يقول إنه يشعر بأنه يجلس فى الصالة بمفرده، وأن أم كلثوم تغنى له وحده. داعبته فى إحدى حفلاتها، فعندما غنت سيرة الحب رد قائلا «تانى والنبى يا ست أنا جايلك من طنطا»، فأشارت إليه من على المسرح وقالت: «ياما عيون شاغلونى لكن ولا شغلونى إلا عيونك أنت دول بس اللى خذونى وفى حبك أمرونى»، فأغمى على الحاج سعيد الطحان، ونزلت أم كلثوم من على المسرح للاطمئنان عليه. حينما سئل الحاج سعيد عن سر الحب والتعلق الشديد بكوكب الشرق أجاب قائلا: «ده كلامها زى الشهد، زى الأكل وحياتك كده.. أنا بحس إنها بتغنيلى لوحدى.. أنا كنت بحس إنى فى الصالة لوحدى ».

لم يكن هوس الحاج سعيد بالست عاديا، بل وصل لدرجة الجنون التى جعلته يترك أمواله تسرق دون أن يشعر، ففى إحدى المرات كان يحمل شيكا بمبلغ 30 جنيها مصريا، وهو من المبالغ الكبيرة آنذاك، وأثناء سيره بالطريق استمع لصوت كوكب الشرق يأتى من إحدى المقاهى الشعبية، ليوقف السيارة بمنتصف الطريق ويتبع صوت الراديو حتى يصل إليه، ويسقط منه الشيك ويسرق وتحفظ سيارته التى اقتادتها الشرطة للحجز، لأنه تركها بمنتصف الطريق وذهب. وفى إحدى المرات، فقد حقيبة كبيرة من المال أثناء استعجاله لحضور حفل كوكب الشرق فسرقت منه شنطة الأموال، ومن بين المواقف الأخرى، تمت سرقة الحاج سعيد نظرا لاستعجاله دخول حفل كوكب الشرق دون أن يلتفت للمال.

داخل المسرح يتوارى المصور الأمريكي في أحد الأركان ويبدأ في التقاط صور للحاج سعيد وهو يتفاعل مع غناء الست ويلتقط له صورا بجلبابه البلدي مازالت أيقونة حفلاتها حتى الآن..! يمكث هوارد في القاهرة شهورا ليصطاد فرائسه من حرافيش ومهاويس ودراويش وعشاق الست المتيمين، فريسة وراء أخرى، ففي إحدى الحفلات يلتقط بعينيه قبل عدسته ذلك الشاعر العاشق، الذى يجلس شاردا وذاهلا عن الدنيا، يستند بوجهه على أصابع يده.لا يرى سواها ولا يسمع أحدا غيرها، يستبد به الطرب فيأخذه بعيدا، ويتطوح كما يفعل المتصوفة فى حلقات الذكر..إنه الشاعر أحمد رامي الذي نسج من وحيها رواية بديعة، ربما تكون أجمل وأصدق علاقة مدهشة معقدة واستثنائية فى تاريخ العشق بين شاعر ومطربة. لكن لم يكن الشاعر عاديا ولا المطربة مجرد صوت جميل.

ينزوي المصور الأمريكي متعاطفا مع حالة الشاعر العاشق ويرسم بكاميرته صورة حقيقية وواقعية له، فهو المحب لا كذب، هو العاشق الوله أحمد بن رامي كان رحيلها فى فبراير 1975 هو تاريخ نهاية الحياة بالنسبة له، فاعتكف فى بيته يجتر الذكريات والدموع، وكان ظهوره العلنى الوحيد بعد رحيلها عندما شارك فى حفل تأبينها بدعوة من الرئيس السادات، وفيه ألقى قصيدته التى كان ظاهرها الرثاء وباطنها اعتراف صريح بحبها، وخاصة فى بيت الشعر الذى لخص فيه العاشق حبه لمعشوقته التي رحلت ولن تأتي : "وبى من الشجو من تغريد لملهمتى....ما قد نسيت به الدنيا وما فيها". ظل رامى إلى جوار أم كلثوم ما يزيد عن نصف قرن، كانت تعرف حبه الجارف لها، لكنها رفضت طلبه بالزواج منها، فقد أدركت بحسها الفطرى الأنثوى أن زواجها منه يعنى أن تكسبه كزوج وتفقده كشاعر، ولذلك فضلت أن تبقى الأدوار كما هى: العاشق والملهمة، وكانت النتيجة تلك الحصيلة المدهشة من الأغنيات التى عبر فيها عن لوعته وعشقه لها. "امسحي دموعك يا ميري" لم يعرف الكثيرون حكاية هذه السيدة التى تظهر فى حفلات الست المسجلة تليفزيونيا، والتى خطفت الأنظار أحيانا من أم كلثوم فى الحفلات التى واظبت على حضورها.

يضحك المصور الأمريكي وهو يقول لمرافقه:"متعة أن تشاهد هذا التفاعل والتجاوب بين الست وجمهورها إلى جانب متعة الغناء" يتنقل بالكاميرا بين الحاضرين ويتجول بينهم، لتنقل صورة الصورة التى كان عليها المجتمع المصرى من رقى وتحضر، رجال ونساء، هوانم وأفنديات، الكل بالملابس الرسمية، البدل والفساتين الشيك، يستمعون فى صمت وهم فى محراب الفن، سيدة الغناء، وتنطلق أصواتهم بالأهات عندما تصل الست إلى ذروة العظمة وقمة التعبير إلى قمة السلطنة والاستمتاع، بين الفن والمتعة والهيام والإعجاب نقع أسرى الحنين إلى زمن الست وهى تغنى: «وعايزنا نرجع زى زمان قول للزمان ارجع يا زمان».

هذا ما التقطته عدسة هوارد وجسدته تلك السيدة، هانم من هوانم حفلات الست التى كانت تتفاعل معها وتتسلطن على صوتها وتبلغ بها النشوة إلى حد البكاء والاختباء بوجهها فى منديلها الصغير الأبيض. اسمها ميرى ميشيل، الهانم الشيك التى ضبطتها الكاميرا وهى تبكى فى أغنية هو صحيح الهوى غلاب، ورصدت قصتها السيدة رنا الجميعى. فى حفلة أم كلثوم الشهيرة التى تُغنى فيها «هو صحيح الهوى غلّاب»، كانت تجلس سيدة ضمن الجُمهور، وعلى وجهها يظهر التأثر الشديد، تُغمض عينيها كما لو أنها تتخيل حبيبها، تُغنّى أم كلثوم ذلك المقطع «يا قلبى آه»، فيما تمسح السيدة وجهها بالمنديل الذى ينتفض بالمشاعر والأحاسيس، ظلّت تلك السيدة التى ظهرت فى الدقيقة الـ33 أيقونة الحفل، وضمن أشهر المعجبين فى تاريخ أم كلثوم.

اعتادت ميرى ميشيل على حضور حفلات أم كلثوم، فى الخميس الأول من كل شهر، لم يكن يعيقها أى شىء فى سبيل ذلك، كما قال حفيدها الممثل تامر رؤوف: «كانت تعتبر حضورها الحفل لحظات الاستجمام الخاصة بها»، حيث كانت تنهى عملها كمترجمة فى إحدى شركات وسط البلد، ثم تعدو نحو منزلها الواقع فى شارع قصر النيل، حيث تتأنق بارتداء أبهى الفساتين، وبعدها يصطحبها زوجها الطبيب شفيق السندى، ويتمشّيان سويا حتى الوصول إلى دار سينما الأوبرا، التى لم تبعد كثيرا عن منزلهما أيضا. ميرى- السورية الأصل- جاءت برفقة عائلتها إلى مصر فى فترة الثلاثينيات، قادمين من الشام، وقد تعرّفت على زوجها بعد ذلك فى فترة الأربعينيات، حينها جاءها الهوى من غير مواعيد، وكان شفيق يكبرها باثنى عشر عاما. كان شخصا بسيطا طيبا ويجلها ويحترمها، تزوجا الاثنان، حيث بدأ فى إنشاء أسرتهما الصغيرة، كان أولها الابن رؤوف المولود عام 1947، وخلال السنوات التالية أنجبت ميرى ولدا وفتاة.

وفيما كانت الحياة تسير فى هدوء «وكل مادا حلاوتها تزيد»، فميرى لم تحسب أنه «فى يوم ح ياخدنى بعيد»، فحينا يذهب الزوجان بمفردهما حفلة أم كلثوم، وأحيانا أخرى برفقة الصغار، فلم تحسب للزمن مواطن غدره، غير أنه وقع، ففى عام 1956 رحل الزوج والرفيق شفيق فى سن صغيرة، كانت حينها تبلغ ميرى ثمانية وعشرين عاما، وتحملت مسؤولية تربية ثلاثة أطفال وحدها، ولم يعزّها سوى حضور حفلات أم كلثوم. هكذا عاشت ميرى بين جنة ونار، وظل عزاؤها فى حضور حفلات الست، تفرح بالقرب منها، وتستمتع بصوتها البديع، وقد قابلتها وجلست معها، كما يقول تامر، فلم تكن تعتبرها مجرد مطربة فحسب، بل كصديقة أيضا، خاصة أن الست وميرى كانا فى سن قريبة من بعضهما البعض. بعد سنوات من فاجعة رحيل شفيق زوجها.

رحلت أم كلثوم نفسها، عام 1975، وكأن ميرى لم تتحمّل ذلك القدر من الحزن، وزاد أسى ميرى هانم، التى لم تقدر على الصبر أكثر من ذلك، حيث خانها قلبها عصر يوم فى عام 1979. فى ذلك اليوم انتظرها أبناؤها أمام سينما مترو، حيث اتفقوا على مشاهدة فيلم «لا تبكى يا حبيب العمر» سويا، غير أن ميرى لم تأتِ، فقد أحسّت بالتعب أثناء عملها، فأخذتها زميلاتها لتُجرى رسم قلب، لكن الموت أدركها سريعا دون تعب فى عمر الواحد وخمسين، راحلة فى هدوء صادم للأحبّة «وإزاى يا ترى.. أهو ده اللى جرى» من هوارد المصور الأميركي الذي بات عاشقا بدوره للست، نذهب إلى أحد الأعداد النادرة من مجلة الكواكب، الصادر بتاريخ 7 يناير عام 1958، حيث نشرت المجلة موضوعا تحت عنوان «المعجبون فنون»، ذكرت فيه بعض المواقف للمعجبين بأم كلثوم وبعضهم كان يذهب وراءها أينما كانت، ويحرص على حضور حفلاتها فى أى مكان داخل مصر أو خارجها. ذكرت المجلة أن من بين هؤلاء المعجبين، معجبا من بورسعيد غريب الأطوار، يلاحقها فى كل حفلة ويسافر وراءها إلى أى بلد تغنى فيه، مهما كان عناء السفر وتكاليفه، وكان يحمل صورها وكل ما يكتب عنها فى الصحف والمجلات، ولا يتحدث إلا عنها، حتى أطلق عليه المقربون منه «مجنون أم كلثوم».

وأشارت المجلة إلى أن هذا المعجب كان يعانى من عاهة فى ذراعه، وحرص بسببها على ألا يظهر أمام أم كلثوم، وفقد بسبب إعجابه وسفرياته وراء أم كلثوم الثروة التى ورثها عن والده، حتى سمعت عنه وعرفت حكايته ومدى تعلقه بها، فأرسلت لمقابلته وشملته بعطفها ومودتها، وكانت تصطحبه مع أفراد فرقتها فى رحلاتها الغنائية، وأخيرا قررت كوكب الشرق أن يكون هذا المعجب متعهد حفلاتها «أحمد الجمل». وكان من بين معجبى الست معجب اسمه المعلم حسن، صاحب محل مأكولات فى باب الحديد- ميدان رمسيس- لم تفوته حفلة من حفلات أم كلثوم حتى الحفلات الخاصة، فكان يبذل كل جهده لحضورها بجلبابه الصوف ليجلس فى الصفوف الأولى ويصيح كلما غنت مقطعا. كانت أم كلثوم تعرف حسن وتستقبله أحيانا بين الوصلات ضمن من تستقبلهم من خاصة المعجبين، وأحيانا تلحظه بنظرة أو كلمة فيقذف طربوشه فى الهواء، وفى إحدى الحفلات لم تجده أم كلثوم فسألت عنه، وأخبروها بأنه مريض فذهبت لزيارته.

يرصد كتاب صدر حديثا بعنوان «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى»، للكاتب كريم جمال، صيحات أشهر مشجعى أم كلثوم فى تاريخها، وهو الحاج حافظ عبدالعال، الذى ظل يتابعها منذ عام 1939، مثل صيحته فى إحدى الحفلات «يا ست ياللى لا قبلك ولا بعدك»، وصيحته فى حفلة أخرى «يا سلام يا أستاذة.. أستاذ جامعى والله»، وقوله فى حفلة دمنهور «الست جعلت الدمنهورى ينطق الراء»، فى إشارة إلى ميل أبناء محافظة دمنهور المصرية إلى عدم نطق الحرف الأخير أثناء الكلام.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة