كانت تحب الكلمة الحلوة... وكانت لها حاسة ميزها الله بها دون سائر أهل الغناء تلتقط بها من قلب الأغنية التي تعرض عليها، الكلمة التي لا تروق لها في الغناء، وتطلب إلى المؤلف أن يبحث عن كلمة أخرى.. أو تهتدي هي إلى الكلمة الأخرى وما أكثر ما أجهدت المؤلفين بهذه الحاسة... وكان رامي أكبر المؤلفين إحساسا بهذه الحاسة نتيجة لصحبته الفنية لها في الرحلة الطويلة، رحلة الخمسين سنة التي بدأت منذ أن رآها لأول مرة في 26يوليو سنة 1924.
ولهذا فإن كلمات رامي كانت أكثر الكلمات التي تلقى هوى في نفسها من أول قراءة فلا ترى فيها تعديلا ولا تبديلا.. ولقد ذهبت أم كلثوم إلى لقاء الله وفي قلبها حسرة لا يعرفها إلا ثلاثة: ابن شقيقتها المهندس محمد الدسوقي، والموسيقار الكبير رياض السنباطي، وأنا. في مطلع الصيف الماضي اتصل بي المهندس محمد الدسوقي وقال لي: أين كنت طوال الأسبوع الماضي؟ قلت له: كنت في الإسكندرية.
خيراً ؟ قال: إن أم كلثوم تبحث عنك في كل مكان فأرجو أن تتصل بها على الفور. واتصلت بها، فسألتني أن أزورها وذهبت إليها، وكانت تستعد للسفر إلى الخارج للعلاج، فقالت لي: إن في قلبي قصة أريد أن أفضي إليك بها لقد غنيت لمصر في كل مناسبة حتى في النكسة وأشد ما يحزنني الآن، أن مصر قد انتصرت في السادس من أكتوبر، ولم أغن لهذا النصر حتى اليوم بسبب ما أعانيه من مرض وأنا ذاهبة إلى الخارج للعلاج وسأعود قبل الذكرى الأولى لعيد النصر بوقت كاف وأرجو أن تكون قد أعددت لي أغنية في تحية هذا العيد يلحنها رياض وأغنيها في 6أكتوبر القادم (أي سنة 1974) .
وابتسمت ولم أجب ... وعرفت سر صمتي فقالت: ما تتكلم. ولهذا الصمت قصة تعرفها أم كلثوم هي أنها طالما سألتني طوال الخمس والعشرين سنة الماضية أن أؤلف لها فكنت أعتذر دائماً اعتقادا مني -وقد أكون على خطأ- أن قيامي بمثل هذا العمل قد يناسب رامي وهو أحب الناس إلى قلبي وهو أولى الناس بأن يؤلف لها في كل مناسبة.
كانت أم كلثوم تعرف ذلك حق المعرفة إلى حد أنها حين طلبت منى أن أنظم لها الثلاثية المقدسة التي أوحت بها فكرة لصديقنا وأستاذنا عبدالعزيز كامل، نائب رئيس الوزراء، لم أجد بدا من استئذان رامي أولا، قبل أن أكتب كلمة واحدة من الثلاثية.
وفي هذه المرة ... قالت لي : إنك لن تطالب رامي بأغنية عيد النصر فأنت تعلم أنه يمر في هذه الأيام بأزمة نفسية اكتئاب نفسي يحول بينه وبين الشعر. وكنت أعلم هذا بالفعل .. وسافرت أم كلثوم، وعادت فذهبت إليها وسألتها عما قال لها الأطباء العالميون الذين عرضت عليهم آلامها فقالت إنهم مجمعون على رأى واحد، هو أن الكلى تفرز الملح أولا بأول ولا تستبقى منه للجسم ما يحتاج إليه.. والعلاج هو أن تشرب ملحا باستمرار ! قلت لها محزونا: أو هكذا يقدر عليك أن تشربي الملح وأنت تسقين الناس الشهد؟ وكأنما أرادت أم كلثوم بروحها اللماحة أن تخرج من دائرة حديث الآلام فقالت لى: قل لي أولا .. هل أنجزت أغنية عيد النصر؟.
قلت نعم.. وأخرجت الأغنية من جيبي وقرأناها مرة ومثنى وثلاث وقالت: على خيرة الله سأرسلها لرياض اليوم .. والأغنية هي التي يجدها القارئ في إطار مع هذا المقال.. وأرسلتها لرياض.. ومرت الأيام .. ودارت الأيام – كما غنت أم كلثوم – وهى تصارع المرض وتكابد الآلام. وبعد حين .. نتحدث – رياض وأنا – وأسأله: ماذا صنعت بالأغنية؟ فيقول في أسى : إنها في يدي.. ولكن.. هل أم كلثوم ستغني ؟ وهنا .. تذكرت حديثا دار بين عبدالوهاب وبيني منذ سنتين، أو أكثر قليلا في اليوم التالي لحفلة أم كلثوم التي بكت فيها على المسرح، حتى تأثر صوتها بالبكاء ... ولعل محبي أم كلثوم يذكرون تلك الليلة.
والواقع أن أم كلثوم كانت متعبة في تلك الفترة... كان المرض يناوشها وهي تغالبه بكل ما أوتيت من قوة إرادة وحب للحياة ووفاء للفن.. قلت لعبد الوهاب: أتعقد أن أم كلثوم رغم ما تعانيه قادرة على مواصلة إحياء حفلاتها الشهرية ؟ فقال في حذر مشوب بالأسى: أنا أفضل أن يبقى صوتها الفريد في عالم الغناء بطريقة أخرى هي أن تترك المسرح وتتخلى عن الأغنية الطويلة وتكتفي بتسجيل مجموعة من الأغاني التي لا يتجاوز مدى الواحدة منها خمس عشرة دقيقة ... تسجل منها- على أسطوانات- عشر أغنيات أو خمس عشرة أو عشرين كل سنة كل ملحن منا – رياض السنباطي وسيد مكاوي وكمال الطويل وبليغ والموجي وأنا وغيرنا- يلحن منها أغنيتين أو ثلاثا.
قلت له : ولماذا لا تعرض عليها هذه الفكرة؟ قال : أشعر بالحرج ... فليتك تعرضها أنت .. وعرضت عليها الفكرة... فقالت : إذا كان عبدالوهاب حيشترك في الحكاية دى.. إيده على إيدي من النهارده.. وأبلغت هذا الرد لعبدالوهاب.. ولا أظن أن أحدا منهما قد تحرك نحو الآخر في تنفيذ هذه الفكرة فقد أخذ المرض يثقل عليها يوما بعد يوم، حتى كانت الساعة الحزينة.. ساعة الصمت. بل معاذ الله ... إن صوت أم كلثوم لن يعرف الصمت.. إنه سيظل يجلجل ما دام على أرض هذا الكوكب أذن تسمع وخيال يحلق وقلب يحب.