الإثنين 3 فبراير 2025

كنوزنا

الدكتور عبد العزيز كامل يكتب.. من الأفق الديني لأم كلثوم

  • 3-2-2025 | 12:14

مقال الدكتور عبدالعزيز كامل

طباعة

على يمين الطريق الصاعد إلى أهرام الجيزة، وعند التقاء خضرة الوادي بحافة الصحراء، يشاهد المار لافتة تحمل اسم "جمعية أصدقاء مرضى روماتيزم القلب للأطفال". المكان مستشفى وعيادة خارجية ومشغل ومدرسة ومعمل علمي تتجه كل بحوثه إلى رعاية الأطفال المرضى بروماتيزم القلب.

وقد تطور من مبنى صغير متواضع إلى أن أصبح مؤسسة متكاملة.. وفي بعض أيام الجمعة، وفي أوقات الضحى اعتادت السيدة أم كلثوم أن تقضي ساعات مع هؤلاء الأطفال، وما زلت أذكرها على كرسي خشبي خشن، وإلى جوارها بعض الأطفال، وقد منع الحياء آخرين من الاقتراب منها، وهي تفتح لهم ذراعيها وتدعوهم بحنان وابتسامة ليقتربوا منها، كانوا يلقون أحياناً كلمات قصارا أو أبياتاً من الزجل الطفولي، ويلتقطون معها صوراً تذكارية.. ويعلمون أنها عنصر فعال في رعايتهم.. وأنها تقيم بعض حفلاتها لتعود أرباحها إليهم.

واعتدنا في كل رمضان أن نلتقي مرة بعد الإفطار في هذا المركز ما أعانتها صحتها وظروفها على ذلك، كان لقاءً دينياً أعرض فيه لشرح آيات من كتاب الله، أو قصة من قصص الأنبياء... إلى أن كانت هزيمة يونيو 1967. ظلت محافظة على اللقاء... ولكن الابتسامة والفرحة غاضت من وجهها.. الأحاديث الدينية أصبحت عن معركة عين جالوت وحطين وعوامل النصر فيها.. دروسنا من السيرة النبوية تركزت حول الصمود وبعض ما أصاب المسلمين في غزوة أحد وفي المراحل الأولى من غزوة حنين.

وكانت تعلق على الأحاديث من حين إلى حين.. والمعركة والنصر قضيتها: كل أملي أن أعيش حتى أرى النصر، أدعو الله.. علينا جميعاً أن نتعاون من أجل هدف واحد، استرداد أرضنا والانتصار على عدونا.. كانت تتحدث –مع هذه الآمال العامة– عن آمال ترتبط بفنها وذكريات: أملي الآن أن أسجل السيرة النبوية في ثلاثين حلقة، كل حلقة نصف ساعة، وما زلت أختار الشعر، قابلت كثيرين وقرأت لكثيرين وكلفت كثيرين وما زلت في مرحلة الاختيار.. وتنتقل إلى العمل الأكبر الذي طالما تمنته: كان أملي ولا يزال أن أسجل القرآن كاملاً، قراءة صحيحة أراعي فيها كل أحكام التجويد بإشراف مختصين، وأعطي كل آية حقها من الأداء، قراءة آية الرحمة غير قراءة آية العذاب، قراءة آية الدعاء غير قراءة آيات القتال.. وكان حديثنا هذا، بعد تفسير لسورة طه بما فيها من محبة الله وتوجيهه لرسوله الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، ومشاهد قصة موسى بعد هذا تتوالى في الطور وأرض مدين والعودة إلى مصر والخروج.. وكلها تركز على رعاية الله لانبيائه ومدهم بعونه على طريق الحق.. وآمال الكبير دائماً أوسع من حياته.

(٢) قبيل شهر رمضان 1390هـ (1970م) حدثتني -رحمها الله- صباحاً في وزارة الأوقاف قائلة: - إن الإذاعة فكرت في عمل برنامج جديد يقوم فيه كبار الفنانين بدور المذيعين، ويختار كل منهم شخصية يسجل معها حديثاً، وأرغب أن تسجل معي هذا الحديث وأود أن نلتقي مساء اليوم في منزلي، وفي ذهني موضوع، ولكن أحب أن أسمع رأيك: قلت: أولاً، يسعدني أن أسجل معك هذا الحديث، وأقترح أن نتناول دور المرأة المسلمة عبر التاريخ: تبدأ من العهد النبوي.. سيراً إلى عهد الفتوح الكبرى.. ونذكر نماذج من بطولات أمهاتنا وإخواننا في سيناء والقتال في حرب يونيو 1967، فهذه الهزيمة –مع مرارتها الشديدة– كانت فيها بطولات رائعة من الرجال والشباب والنساء..

فقالت: كان هذا في ذهني، وأفكارنا متلاقية والحمد لله.. فلنتقابل اليوم، مدة الحديث كانت نصف ساعة، وقلت لنفسي: - أذهب قبل الموعد بخمس دقائق، ونسجل في نصف ساعة، وربع ساعة لمراجعة بعض الأجزاء، وأستطيع أن أفرغ من الموضوع كله في ساعة، هكذا تصورت. وذهبت في الموعد... وعرضت عليها نقاط الحديث فوافقت عليها. وبدأنا التسجيل.

وأذكر نموذجاً مما حدث: كان عليها أن تقول في ختام جملة قول الله تعالى "وما النصر إلا من عند الله"، فقالتها، وأمرت بأن يعيدها جهاز التسجيل، وسمعتها فقالت: إن إلقائي لم يحمل كل إحساساتي.. أريد أن أركز على كلمة النصر وهو قوة.. وأن أركز في نفس الوقت على التوجه إلى الله.. سأعيدها.. وأعادتها.. ثم قالت: نطق “النصر” مناسب ولكن نطقي للفظ الجلالة يحتاج إلى توجه أكثر إلى الله.. يحتاج إلى ضراعة.. إلى انتقال من عزة النصر إلى الخضوع لله والشكر لله.. أريد أن يحمل النطق معاني العزة والشكر والخضوع.. وأعادت قراءتها. وتكرر هذا في كثير من المواضع وامتد الوقت بنا إلى نحو ساعتين ونصف، وأنا أشاهد أروع صور الدقة من الأداء والإخلاص في العمل والتفاني فيه.

والتفتت بعد هذا إلى الزملاء والزميلات في الإذاعة: سأكون معكم في الاستوديو غداً لاختيار الموسيقى المصاحبة. فقالوا: نستطيع أن نقوم بذلك نيابة عنك. فقالت: لا، قد تختارون موسيقى خفيفة غير ملائمة، أو موسيقى بها آلة لا تتفق مع وقار الحلقة، سأكون معكم غداً. وسألت الزملاء بعدها: كم أمضت معكم في الاستوديو في اختيار الموسيقى المصاحبة؟ فقالوا: ثلاث ساعات. كانت هذه تجربتي في التسجيل معها، وسألت أصدقائي الذين يعملون معها فقالوا: هذا دأبها في كل أمرها، الاختيار والدقة في الاختيار، المراجعة، الحس المرهف، الفناء في العمل، لا ترضى بأقل من أعلى درجات الإجادة في كل ما تقوم به. (٣) بعد حفل المولد النبوي الشريف (1391هـ- 1971م).. حدثتني صباحاً في وزارة الأوقاف قائلة: سأحضر لزيارتك في الوزارة، لي مسجد أريد أن أضمه إليها. قلت: الأمر يسير، ولكني أحس أن هناك سبباً آخر.. فهل أستطيع معرفته؟ إن كانت مشكلة تتعلق بالأوقاف يمكن إعداد أوراقها قبل حضورك، والحضور في ذاته إسعاد للوزارة، وكلنا في انتظارك..

وجاءت في الموعد الذي حددته وكان حديثها عن المعركة وقالت: لا أكتفي بما أقوم به، الكلمة وحدها لم تعد تكفيني، حفلاتي المحلية والخارجية من أجل المعركة لا تكفي إنني أنسج بيدي أغطية الرأس للجنود، "بلوفرات" لهم، سجاير أرسلها، والمطلوب منك المصاحف. إنني أحس أن يديَّ يجب أن تعمل.. ماذا أستطيع أكثر من نسج أغطية الرأس والمشاركة في البلوفرات هذا جهد يديَّ، أود أن أحس أن جانباً مني هناك، ليست الكلمة وحدها أريد أن أرسل أشياء تلبس وتتحرك في ميدان المعركة. وتصمت قليلاً ثم تتابع حديثها:

- تأتي عربات القوات المسلحة أمام بيتي، وتأخذ هذه الأشياء كلها، وقد أوصيت بكتمان ذلك كله، ماذا أستطيع أن أعمل أكثر من جمع المال والعمل اليدوي؟ والحفلات وجمع كلمة العرب حول المعركة؟ أريد أن أعمل أكثر. وتذكر رحلاتها العربية ورحلات أشرطتها الإسلامية: - حديث الروح لإقبال أقامت له حكومة باكستان حفل استقبال في المطار، إنني أحس بالجهد الذي أبذله للعون على تأصيل العروبة والإسلام، القصائد التي أقولها بالعربية الفصحى هي في ذاتها دروس في اللغة العربية وعون على التدريب، سمعت هذا بنفسي في تونس وسمعته في العواصم العربية، أريد أن أرى النصر.. وجلست صامتاً أسمعها وهي تتحدث كالينبوع المتدفق، ثم صمتت فترة وقالت: والآن جاء دورك؟ قلت: في أي شىء؟ قالت: لقد استمعت في حفل المولد النبوي الشريف المذاع من مسجد الإمام الحسين رضي الله عنه إلى حديثك.. لقد تصورت فيه ثلاث رسائل نستمع إليها: الأولى من المسجد الحرام والثانية من مسجد المدينة، والثالثة من المسجد الأقصى الفكرة أعجبتني، والمضمون أعجبني. قلت: المسجد الحرام في هذا الحديث رمز الوحدة والتوحيد، ومسجد المدينة رمز للمجتمع الإسلامي بتضامنه واتحاده من أجل بناء ذاته داخلياً والدفاع عنها، والمسجد الأقصى رمز المعركة، ونحن في حاجة إلى الوحدة والمجتمع المتماسك تمهيداً لخوض معركة المصير. قالت: تصور نفسك مرة أخرى في مسجد الحسين، وأذكر مقاطع من هذا الحديث.. لحظات تجمع فيها نفسك وتتحدث وأسمعك، ثم أقول لك –بعد هذا– ماذا أريد. وابتسمت قائلاً: لقد وضعتني في صورة غير متوقعة، كل أمل من يجلس معك أن يستمع إليك. قالت: ستعرف السبب بعد قليل.

وبدأت أستعيد مقاطع من الحديث حتى أدركت فقرة أقول فيها على لسان المسجد الأقصى: ووقف المسجد الأقصى، نبيلاً أسيراً محترقاً جريحاً.. يخاطبنا قائلاً: أما آن لكم أن تعيدوني إلى أخويَّ: المسجد الحرام ومسجد المدينة؟ أما آن لكم أن تفكوا أُساري فلا أبقي تحت سيطرة باغية عادية؟ فقالت : سأغنى هذا الحديث .. سأغنى هذه الثلاثية المقدسة .. هل النص عندك؟ قلت عندى وأعطيتها النص .. وصاغه شعرا السيد الأستاذ صالح جودت ولحنه السيد الأستاذ رياض السنباطي. ولا زلت أذكر هذا الحديث في مسجد الإمام الحسين رضى الله عنه .. لقد كان تحديدا في الثالث من مايو "1971" وحضره السيد الرئيس محمد أنور السادات وكان أول حفل ديني يحضره سيادته بعد توليه مسؤولية الرئاسة وقيادة أمتنا على طريق النصر .. حدثنا فيه عن المعركة .. حدثنا فيه عن عن التضامن الاجتماعى .. وعهد لهذا كله بالتصحيح الكبير في منتصف مايو 1971 .. ، وجمع قوانا لنحقق معه وبقيادته وبالإيمان والتخطيط والتضامن العربي نصرا يرتفع إلى ذروات حطين وعين جالوت

(٤) ومن حين إلى آخر وعلى مدى سنوات كانت تتصل تليفونيا وتوصى بفقير أو محتاج أو أسرة أخنى عليها الدهر، وتقول : - عرفت هذا كله وعشت الحياة المصرية في كل مستواياتها، أقوم في الصباح فأجد هؤلاء يقصدوننى، فأقصد أصدقائي، ونتعاون معا من أجل الخير، لا أستطيع أن أتركهم. وإن أنس لا أنسى نزعتها الإنسانية العاليةومثل ذلك أنها تأثرت ذات يوم بحديث لى عن موقف الإسلام من التفرقة العنصرية فشاءت أن تحوله إلى أغنية تتغنى بها، ينظمها الشاعر صالح جودت، وقد شرع ينظمها في ذلك الحين ومطلعها الواحد الرحمن من كون الأكوان ولون الألوان وأبدع الإنسان يا أخى في الشرق والغرب سلاما وتحية يا أخى من كل لون ولسان وهوية كل إنسان على الأرض أخى في البشرية فأنا من أمة تنكر معنى العنصرية

(٥) وجرت مياه كثيرة في النيل .. النيل الذى تطل عليه من بيتها النهر المتجدد ويقترب الغروب غروب كل حى إلا الحى الذى لا يموت وخرج السر الإلهى بعد صراع طويل ومرير مع المرض، وألقى الرحمن ستارا بين الحس والألم القلب ينبض.. الجسم حى .. الحس هناك بعيدا سبق الجسد المسجى وأجد نفسى مع زملائى في سرادق العزاء. ويأتي صديق يدعونى إلى صلاة الجنازة على أم كلثوم، كان النعش في محراب مسجد السيد عمر مكرم، في قماش من حرير أخضر وأبيض، خضرة الريف الذى أنبتها.. والقلب الذى تحمله، والجزاء الذى ندعو الله لها به، وبياض لامع كأنه ماء النيل القريب، وقد انعكست عليه شمس الضحى، أو شمس الأصيل . وتقدمت إلى الصلاة ودعوت الله لها وللحاضرين ولأمتنا. اللهم أجزها عن أهلها وأمتها ودينها خير ما تجزى به عبادك. اللهم تقبلها في رحمتك ورضوانك. اللهم أنها أحبتك وأحبت عبادك فاجعلها مع من تحبهم في جوارك.. وسارت الجنازة خطوات .. فإذا بموج بشري يطبق علينا، فنصبح قطرات وسط بحر من البشر. واشتد الضغط من وراءنا وأوصانا الزملاء المشرفون بالميل إلى جانب الطريق .. وتابعنا رؤية الجنازة من تليفزيون رئيس مجلس الشعب. وتركزت عيني على النعش .. رؤية تختلط فيها الحقيقة بالخيال : كنت أراه أمامى أحيانا ذورقا أبيض بخطوط خضراء يسبح في نهر من الزهر . وأراه أحيانا كالطير السابح، يحرك رأسه يمنة ويسرا، والبشر من حوله موج تحركه رياح المحبة والوفاء، والأصوات فيه حفيف أشجار كل ورقة فيها كلمة طيبة. كان هذا أكبر حفل لأم كلثوم.. الذين تجمعوا وراء نعشها أكبر ممن شهدوا أي حفل من حفلاتها.. في صمتها بليغة . هي اليوم، لأول مرة تصمت .. وهم الناطقون. هم الهاتفون لها بغير غناء .. إلا الوفاء . وهناك في الشرق .. وفى البساتين كان مثواها . دائما في الشرق .. من شرق الدلتا مولدها .. وفى شرق النيل مثواها، وهى بين ذلك كوكب الشرق. وتذكرت مقامها بين الأطفال الصغار، غير بعيد من الهرم، والطفولة البريئة، تودعها بالدمع الطاهر والحب.

(٦) أيها الموت .. ما أعظمك! ليس فوقك إلا الحى الباقى. هذه الجبال بجبروتها وشموخها. هذه الزهور بوداعتها ورقتها، البشر حكام ومحكومون، قادرون وعاجزون: “ كل من عليها فان ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام” “ الرحمن 26- 27”. وبعد الحشد والحشود : “ وكلهم آتيه يوم القيامة فردا” “ مريم 95”. وبعد الهتاف والنشيد : "وخفضت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا" "طه 108". والأمل .. كل الأمل أن نسمع بعد رحلة الحياة : "يا أيتها النفس المطمئنة أرجعى إلى ربك راضية مرضية فادخلى في عبادى وادخلى جنتى" "الفجر 27 – 30" . وما نهاية المطاف المرتجى : "مقعد صدق عند مليك مقتدر" "القمر 55" "7" بآيات من كتاب الله نودعك، فلقد كان أول ما عرفت في دنياك وآخر ما تلوت فيها ..استقبل والدك نبأ ميلادك وهو في بيت الله يرفع الصوت بالآذان وكان وداعك من بيت الله وحولك القرآن والتكبير. كان ميلادك في العشر الآواخر من رمضان، شهر القرآن، ووفاتك في العشر الآواخر من المحرم شهر السلام. ندعو الله لك بالمغفرة والرحمة والرضوان. فمن نحن.. ولمن نحن .. وإلى من نعود؟ إنا لله وإنا إليه راجعون.

الهلال مارس 1975

أخبار الساعة

الاكثر قراءة