كان فيلسوفًا ومؤرخًا وناقدًا أدبيًا إيطاليًا بارزًا، ويُعَدّ من أهم المفكرين في الفلسفة المثالية في القرن العشرين، اشتهر بفلسفته المعروفة بـ «فلسفة الروح» التي مزجت بين المثالية الهيجلية والنزعة التاريخية، وهو من رأى أن الواقع ليس إلا نتاجًا للتجربة الروحية المستمرة والتطور التاريخي، إنه بينيديتو كروتشه.
اعتبر «كروتشه» أن الفن والتاريخ والفلسفة جميعها تعبيرات عن الروح، وأن المعرفة البشرية ليست إلا تفسيرًا إبداعيًا للعالم، أكّد على أهمية الحرية الفردية، ورأى أن الفكر النقدي الحر هو جوهر الإنسانية.
ولم يكن «كروتشه» فيلسوف نظري، بل لعب دورًا فعّالًا في السياسة الإيطالية كمدافع عن الديمقراطية وضد الفاشية، و كان له تأثير كبير على الفكر الأوروبي، وترك بصمة لا تُمحى في مجالات الفلسفة والجماليات والنقد الأدبي، و رُشح لجائزة نوبل للآداب 16 مرة.
الميلاد والنشأة
ولد بينيديتو كروتشه في مثل هذا اليوم 25 فبراير 1866م، في پسكاسرولي، بالقرب من بيسكارا في وسط إيطاليا، و نجا «كروتشه» بأعجوبة مع أخيه من الزلزال الرهيب الذي ضرب كازاميشيولا في جزيرة إسكيا في بحر البحر التِّيراني بالقرب من مدينة سنة 1883م، والذي ذهب ضحيته أفراد أسرته جميعًا .
وكانت حياة «كروتشه» تمثل عملًا دؤوبًا من الدراسات الفلسفية رفعت ذكره في مجالات النقد الأدبي وعلم الجمال وتاريخ الثقافة وعلم التاريخ.
مناصب مهمة
اهتم «كروتشه» بالسياسة، وشغل مناصب مهمة عدة، منها عضوية مجلس الشيوخ ، وعين في منصب سيناتور عام 1910م، وساعد في إصلاح المدارس الإيطالية في العشرينيات، ووزارة التعليم العام بعد الحرب العالمية الأولى 1920م، وشغل منصب رئيس نادي القلم الدولي، رابطة الكتّاب العالمية، منذ عام 1949م حتى عام 1952م.
وكان «كروتشه» من المناوئين لحكومة بنيتو موسوليني الفاشية، وزعيمًا للدوائر الليبرالية الفكرية في إيطاليا، ورئاسة الحزب الليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية في الفترة 1944 : 1974م
بقي نشاط «كروتشه» خارج نطاق الأوساط الأكاديمية الرسمية، فقد أصدر بالتعاون مع زميله جيوڤاني جنتيله مجلة «النقد» (La Critica) 1903م، كما أسس في سنة 1946م معهدًا للدراسات التاريخية في نابولي، وتولى بنفسه تقديم المقر والمكتبة.
من المثالية إلى فلسفة الروح
تأثر «كروتشه» بالفيلسوف هيجل والفلاسفة المثاليين الألمان الآخرين مثل شيلنج، وقدّم «كروتشه»ما سماه «فلسفة الروح»، وكانت التسميتان اللتان فضلهما هما «المثالية المطلقة» أو «التاريخانية المطلقة»، وتتمثل أعمال«كروتشه» على أنها محاولة ثانية، على عكس فلسفة «كانت» لحل المشاكل والنزاعات بين التجريبية والعقلانية، أو بين النزعة الإثارية والفلسفة المتعالية على التوالي.
ودعا «كروتشه» منهجه باسم الحلولية «immanentism»، وركز على التجارب الإنسانية المعاشة وفقًا لحدوثها في أماكن وأزمنة معينة، وبما أن جذور الواقع يتمثل بهذا الوجود الحلولي المتأصل ضمن التجربة الملموسة، فقد وضع«كروتشه» الجماليات بين الأسس التي تقوم فلسفته عليها.
مجالات العقل وتقسم الروح
تعبّر مقاربة «كروتشه» المنهجية للفلسفة عن نفسها من خلال تقسيمه للروح، والعقل؛ إذ يقسّم النشاط العقلي أولًا إلى الجانب النظري، ثم الجانب العملي، وينقسم الجانب النظري بين الجماليات والمنطق؛ وأهم ما تتضمنه هذه الجماليات النظرية هو الحدس والتاريخ، في حين يتضمن الجانب المنطقي كلًا من المفاهيم والعلاقات، أما الروح العملية فتهتم بالاقتصاد والأخلاقيات، ويجب فهم الاقتصاد هنا على أنه مصطلح شامل لكل المسائل النفعية.
لدى كل من هذه الأقسام بنية ضمنية تُملي نمط التفكير الذي يتلاءم معه أو تمنحه اللون؛ فبينما يقود حافزُ الجمال علمَ الجماليات، يكون المنطق تابعًا للحقيقة، ويهتم الاقتصاد بالأمور المفيدة، أما الأخلاقيات فترتبط بالخير، و يُعد هذا المخطط وصفيًا من ناحية أنه يحاول شرح منطق الفكر البشري؛ غير أنه تقريري في الآن نفسه، من ناحية تشكيل هذه الأفكار الأساس المزاعم والثقة المعرفية.
فلسفة «كروتشه»
فلسفة «كروتشه».. تمثل فلسفة المثالية المطلقة، ومذهبه الفلسفي يضع أربع درجات في «هبوط عالم الروح» وهي الدرجة الجمالية «تجسد الروح الفرد»، والدرجة المنطقية «المجال العام»، والدرجة الاقتصادية «مجال المصلحة الخاصة» والدرجة الأخلاقية «مجال المصلحة العامة».
وكان لنظرية «كروتشه» الجمالية تأثير بالغ على النقد الفني البورجوازي، فقد عارض الفن باعتباره معرفة حدسية بالفردي المتجسد في الصور الحسية بالاستدلال العقلي، باعتباره عملية عقلية لمعرفة العام، ويسعى مذهب «كروتشه» الأخلاقي إلى إخفاء الأساس الاجتماعي و الطبيعة الطبقية للأخلاقيات، وتروج فلسفته الأخلاقية لمبدأ إخضاع الفرد للـ«كلي» أي إخضاع الفرد للنظام الاستغلالي السائد، وكان «كروتشه» أيديولوجيًا بارزًا وزعيمًا سياسيًا للبورجوازية الليبرالية الإيطالية وكان خصمًا للفاشية.
وهو خير من يمثل النزعة التعبيرية في فلسفة الجمال إذ يرى أن الجمال في التعبير، وعنده الفكر أربعة أنواع الحدس أو التصور الصادق، عملية الإدراك: – أي الحدس والإدراك – يمثلان الجانب النظري للفكر ويقابله الجانب العملي وهي..الإرادة الفردية، الإرادة الجماعية.
إنجازات«كروتشه»
ساعد «كروتشه» في إعادة إحياء الاهتمام بأعمال المفكر الإيطالي جامباتيستا فيكو، وكان له أثر في إعادة تقويم أفكار المفكر الألماني ج. و. ف. هيجل، كما أثر «كروتشه» في فلسفة الفن والتاريخ في بريطانيا إلى حد كبير، وذلك من خلال تأثيره في كتابات الفيلسوف والمؤرخ البريطاني ر. ج. كولينگوود، كذلك أسس «كروتشه» مجلة النقد وهي مجلة تعنى بالأدب والفلسفة والتاريخ، كما قام بدور المحرر فيها.
أهم مؤلفات «كروتشه»
كتب «كروتشه» كثيرًا من الأبحاث والكتب، وقد تنوعت الموضوعات التي كتب فيها، وتوزّعت بين الفلسفة والتاريخ والاقتصاد والسياسة والنقد الأدبي، ومن أهم هذه المؤلفات: كتاب «الأستطيقا كعلم للتعبير وعلم اللغة العام» 1902م، والذي كان بمنزلة إعلان ببعث المثالية التاريخية في إيطاليا، في الفترة ما بين 1900م: 1920م
وألف كتب.. «المنطق» 1905م، «ما هو حي وما هو ميت في فلسفة هيجل» 1907م، «فلسفة العمل في الاقتصاد والأخلاق» 1909م، «المجمل في علم الجمال» 1913م.
وكتب.. «نظرية وتاريخ كتابة التاريخ» 1917م «تاريخ أوربا في القرن التاسع عشر» 1932م، «التاريخ فكرا وحركةً» 1938م، وكتب «فلسفة الروح» 1902-1917م، وهو أهم مؤلفاته.
ومن أهم كتب بينيديتو كروتشه أيضًا «علم الجمال» 1902م؛ «الفلسفة العملية» 1908م؛ «المنطق» 1909م؛ «التاريخ بوصفه قصة الحرية» 1938م.
ومن أقوال «كروتشه» الشهير
«كل التاريخ تاريخ معاصر»، «بصفتي مؤرخًا، أدرك ما تتصف به نظريات العِرق من اعتباطية وخيالية و قابلية للطعن» كما قال: «كل الناس يكتبون الشعر حتى عمر الثامنة عشرة، ولا يستمر على ذلك إلا صنفان منهم.. الشعراء والحمقى».
ورحل الفيلسوف المثالي بينيديتو كروتشه عن عالمنا 20 نوفمبر 1952م