إن الصوت الجميل الحسن موهبة من الله يَمُنُّ بها على بعض خلقه، ويمنعها عن كثيرين منهم، كما أن الشعر موهبة يصطفي الله بها من يشاء من خلقه ويمنعها عمن يشاء، وقد أشاد الله بالصوت الحسن، واستنكر الصوت الأجش الصاخب الذي تنفر منه الأذن وتتأذى عند سماعه، قال تعالى على لسان لقمان في وصيته لابنه” واغضض من صوتك، إن أنكر الأصوات لصوت الحمير” أي: إن أكثر الأصوات استقباحا وبغضا صوت الحمير”.
والأصوات الحسنة داعية الإنصات والإقبال على الاستماع، وإن صدرت عن خشوع وخضوع رقت لها القلوب، وجرت بسببها الدموع، وقد أثنى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على الصوت الندي الحسن الذي كان يتميز به سيدنا بلال فأمره بأداء الأذان، ولم يكلف صاحب رؤيا الأذان بذلك مع أنه الأولى؛ مبينا السبب في تكليف بلال بأداء هذه الشعيرة المهمة، وهو (نداوة صوته) الذي سيدعو به للصلاة قلوبا مشغولة في النهار بالسعي في الدنيا وطلب الرزق، وفي الليل بالنوم والراحة، فلما تسمع أصحاب تلك القلوب صوت بلال الندي الجميل فسيؤثر فيها، ويثير مشاعرها فتترك ما هي فيه من غفلة لتقبل على بيوت الله لتؤدي فرض الله، فقد روي : أن عبدُالله بن زيد -رضي الله عنه- رأى في منامه رؤيا حقّ في الأذان، وذلك أنه رأى رجلًا معه ناقوس قال: فقلت: يا عبدالله أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة، قال: أفلا أدلّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له: بلى، فقال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.. -إلى آخر الأذان المعروف- قال: ثم استأخر عنّي غير بعيد، ثم، قال: وتقول: إذا أقمت الصلاة: الله أكبر الله أكبر...-إلى آخر الإقامة المعروفة- قال: فلما أصبحت، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بما رأيت فقال: «إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ، فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ”، فكانت عبارته صلى الله وسلم (فإنه أندى صوتا منك) هي التاج الذي توج به بلالا ليكون مؤذنه حتى توفي صلى الله عليه وسلم، وبعده امتنع بلال عن الأذان.
وإذا كان الأذان يحتاج في أدائه إلى الصوت الندي الجميل فلا شك أن القرآن عند قراءته، وتلاوته أشد احتياجا إلى أصوات ندية حسنة خاشعة؛ ليكون أشد تأثيرا في قلوب مستمعيه فينصتوا إليه، فترق قلوبهم، ويقبلون على تدبره وإدراك إعجازه.
وقد أمرنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم’ بالتغني بالقرآن، أي الترنم به عند قراءته، وهذا الترنم يصل إلى أوْج كماله عند من وهبهم الله الصوت الحسن الندي، فقد قال - صلى الله عليه وسلم- : «ليس منَّا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن». وليس معناه أن يتغنى به كما يتغنى بالشعر، بل معناه تزيين الصوت وتحسينه، كما يفسره حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله: «زينوا القرآن بأصواتكم».
كما كان صلى الله عليه وسلم يثني على الصحابة إذا سمع منهم تغنيهم بالقرآن الكريم عن قراءتهم له. فقد روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم-: استمِعْ قراءة رجل في المسجد لم أسمع قراءة أحسن من قراءته، فقام النبي- صلى الله عليه وسلم- فاستمع قراءته، ثم قال: “هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا”. وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى: “إني مررت بك البارحة وأنت تقرأ، فقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود، فقال أبو موسى: لو أعلم أنك تستمع لحبِّرتُه لك تحبيراً”، أي زدته حسنا وتجميلا
وليس البشر وحدهم هم الذين يجذبهم التغني بالقرآن والترنم به، لقد كانت الملائكة أيضا تشاركهم في ذلك، فتنزل من علياء سمائها بمجرد أن تسمع من أحد الصحابة من أصحاب الصوت الحسن يتغنى بالقرآن الكريم، وقصة الصحابي الجليل أسيد بن حضير الذي جذب بحسن صوته ونداوته الملائكة فنزلت لتستمع منه القرآن الكريم، لخير شاهد على حب التغني بالقرآن الكريم، فقد روي: إنه في إحدى الليالي أراد أن يحييها بقراءة القرآن وبجانبه صغيره “يحيى” وفرسه التي أعدها للجهاد مربوطة بجانبه، وبدأ في قراءة سورة البقرة، فما أن قال: {ألم .. ذلك الكتابُ لا ريب فيه هدىً للمتقين .. الذين يؤمنون بالغيبِ ويقيمون الصلاةَ ومما رزقناهم ينفقون}. حتى هاجت فرسه وجالت حتى أوشكت أن تقطع الحبل الذي يربطها، فخاف على ولده يحيى أن تدوسه الفرس فسكت أسيد .. فسكنت الفرس.ثم عاود القراءة: {أولـئك على هدىً من ربهم وأولئك هم المفلحون}.. فهاجت الفرس مرة أخرى وجالت أكثر من ذي قبل، فخاف على ولده يحيى فتوقف عن القراءة، فسكنت الفرس.وجرب القراءة مرة ثالثة فحدث مثلما حدث، فذهب إلى ابنه الراقد بجانبه وحمله وحينها رفع بصره إلى السماء فرأى غمامة كالمظلة لم تر العين أروع ولا أبهى منها قط وقد عُلِق بها ما يشبه المصابيح، فملأت الآفاق ضياءً وسناءً, وظلت تصعد إلى الأعلى حتى غابت عن ناظريه.
فما إن أتى الصباح حتى ذهب مسرعًا إلى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم- ليقص عليه ما حدث، فطمأنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له: “وتدري ما ذاك؟”. قال أُسيد: لا، فقال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم’: “تلك الملائكة دنت لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم”.
ولما استُشْهد كثير من الصحابة من أصحاب هذه المواهب الصوتية، ثم امتنع بلال عن الآذان بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وكأن بلاد النبوة قد أقفرت وأجدبت من أصحاب هذه المواهب ، فكان لا بد لهذه الموهبة أن ترتحل إلى بلد آخر تجد فيه أصحاب التلاوة الندية الحسنة التي يحبها الله ورسوله، فشاءت الإرادة الإلهية أن تكون (مصر) هي مستقرها ومثواها إلى ما شاء الله لها أن تكون.
وفي مصر أصبحت للتلاوة دولة يتربع على عرشها كثير من عظماء التلاوة الذين لم يعرف لهم نظير ولا ند على مستوى العالم العربي والإسلامي، وأصبح قراء مصر مدرسة يتعلم منها ويقتدي بها كل من يريد أن يكون له شأن في تلاوة القرآن الكريم.
وقد وصلت مكانة هذه المدرسة في الوجدان العربي والإسلامي، إلى الدرجة التى يقول عنها الملك خالد بن سعود: “نزل القرآن في مكة، وطبع في تركيا، وقرئ في مصر”.
وكان ملوك مصر ورؤساؤها يجلون القراء ويضعونهم في مكانة عظيمة تليق بقدر القرآن الذي يتلونه ويتغنون به، ومن ذلك أن الملك فاروق كان إذا جلس في مجلس فيه الشيخ مصطفى إسماعيل يجعل كرسيه منخفضا عنه.
ولعل من أهم المفاتيح التي تميّزها عن غيرها من مدارس التلاوة الأخرى التي أخذت تنشط في بعض دول الخليج منذ ما يقرب من عقدين، هو الارتباط القوي الذي أسس له المصريون بين تعاليم وأصول تلاوة القرآن الكريم، وبين فهم وإدراك المقامات الموسيقية.
وهذا الفهم لا علاقة له بممارسة الغناء، أو تعلّم العزف على الآلات الموسيقية، بقدر ارتباطه بفهم القارئ لإمكانات صوته وحنجرته وتطويعها لتصوير المعاني التي تتضمّنها آيات القرآن الحكيم خشوعاً ورهبة واستبشاراً بفتح الله ونصره وجنته في أثناء التلاوة، وهو ما أدركه جيداً، بل وأجاده، عظماء مدرسة التلاوة المصرية سواء بالفطرة أو بالدراسة.
ويضيف آخرون أنه من أسباب تميز مدرسة التلاوة المصرية عادة مصرية قديمة متوارثة ربما تعود إلى زمن الفراعنة، وهي عادة وطقوس الاحتفاء المتفرّد بالموت، والتي جرى تطويعها مع دخول الإسلام إلى مصر، فأصبحنا نرى “المأتم” الذي يقيمه أهل المتوفى ويودّعون فيه فقيدهم بتلاوة القرآن؛ ولأن من “انقطع لشيء أحسنه”، فإنه ليس في العالم قرّاء- بحسب ماذكره الشيخ الحصري- يصلون إلى ما وصل إليه قرّاء مصر. وقد مكنت عادة التلاوة في المآتم القراء من تحسين آدائهم بعدما صارت مصدر رزق لهم.
وقد أشادت الباحثة الأميركية كريستينا نيلسون في كتابها “فن تلاوة القرآن”، بمدرسة التلاوة المصرية قائلة إنها: “تجاوزت إطار الخلفية السمعية لتصبح جزءاً من صميم الإخلاص الديني، وقطعة من روح الممارسات الثقافية، والاجتماعية”
ومن أهم القراء العظماء الذين تربعوا على عرش دولة التلاوة المصرية، الشيخ محمد رفعت، ومصطفى إسماعيل، وعبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ محمود الحصري، وطه الفشني، ومحمد صديق المنشاوي، وابنه محمود محمد صديق المنشاوي، وأبو العينين شعيشع، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ومحمود علي البنا، والشيخ محمد الطبلاوي- رحمهم الله جميعا.
وعلى قمة المدرسة الآن، الشيخ الطبيب أحمد نعينع ، والشيخ عبد الفتاح الطاروطي، والشيخ حجاج الهنداوي، والدكتور ماهر الفرماوي، وغيرهم كثير.
وقد تفرد عدد من رموز دولة التلاوة المصرية بلقب اشتهر به وعرف عنه، فقد نسب إلى الشيخ محمد متولي الشعراوي تقسيم جميل لمدرسة التلاوة المصرية يقول فيه: إن: “من أراد الإتقان، فليستمع إلى الشيخ الحصري، ومن أراد نقاء الصوت، فليستمع إلى الشيخ عبد الباسط، ومن أراد الخشوع يستمع للمنشاوي، ومن أراد الفن في التلاوة يستمع للشيخ مصطفى إسماعيل، ومن أراد كل هذا يستمع للشيخ محمد رفعت فهو المدرسة الموسيقية”.
ومن عجيب عباقرة هذه المدرسة أنهم وهم يتغنون بالقرآن يُكتَشف أنهم بالفطرة وبدون قصد منهم يتلونه على مقام موسيقي معين، وذلك على نحو ما نجد بعض آيات القرآن على وزن بحر شعري معين، وهذا ليس مقصودا بالطبع لأن القرآن نثر وليس بشعر، وفي هذا السياق تميّز شيخ المقرئين محمد رفعت بصوت قوي متميز وطيّع يمكنه من التعبير بسهولة عن الآية بالمقام الموسيقي المناسب وبالأداء الدرامي المناسب، مما يجعلك تشعر وكأن معنى الآية يتجسد أمام ناظريك في صورة محسوسة.
ويقول أحد خبراء المقامات الموسيقية: “إن صوت الشيخ محمد رفعت قريب من طبقة “الألتو”، وهي إحدى الطبقات الصوتية الأوبرالية، ويتكوّن صوته من 18 مقاماً، ويستطيع أن يصل أحياناً إلى 21 مقاماً، وكان يناغم المقامات مع بعضها بأسلوب السيمفونيات الموسيقية، ويتضح ذلك بشدة في تلاوته لآيات القصص القرآني. ويقول كمال النجمي عن الشيخ مصطفى إسماعيل إنه: “كان يملك صوتاً فذاً واسع المساحة وكبير الحجم، وكانت له حصيلة من العلم بالمقامات لا مثيل لها عند غيره من المقرئين، بمن فيهم الشيخ رفعت، ولكن الشيخ مصطفى كان يستخدم صوته وعلمه بالمقامات في إبراز جمال الآيات وإعجازها”.
وقد أصبحوا بهذه الملكات الصوتية المبهرة أساتذة في فن الأداء لكبار المغنيين في عصرهم، فكان محمد عبد الوهاب، وأم كلثوم يسعيان إلى المقرئين ليتعلّما منهم فنون الأداء والمقامات وارتبطا بعلاقة وثيقة مع بعض الشيوخ.
وكان محمد عبد الوهاب إذا ما جلس للاستماع إلى الشيخ محمد رفعت، يتحوّل إلى تلميذ، أو بحسب تعبيره “خدّام الشيخ”، وظل سمّيعاً وصديقاً لكبار المقرئين كالشيخ مصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبد الصمد، أما (أم كلثوم) فدرست على يد الشيخين أبوالعلا محمد وزكريا أحمد، وكلاهما في الأصل من أهل التلاوة.
كل هذا وغيره يجعل لدولة التلاوة في مصر خصائصها وسماتها التي تميزها عن غيرها، كما يظل لها مذاقها الخاص الذي يُشعِر مستمعيها بحلاوة القرآن وطلاوته.