الذي تؤكده الحقائق، وتشهد لصحته الوقائع، أن مصر بلد الحضارة التي تمتد آلاف السنين، وأبهرت العالم قديماً وحديثاً، وكانت ملاذاً للأنبياء والمرسلين، ومقصداً لأهل البيت والصالحين، وتربة خصبة للمجددين والعلماء.
وقد كرّمها الله سبحانه بحفظ الذكر الحكيم، حيث ذاع صيت مشايخها المقرئين في العالم العربي خاصة، والإسلامي على مستوى العالم عامة، وتميزت هنالك دولة التلاوة المصرية، واتسمت بالتواصل بين الأجيال المختلفة، وظهرت المدارس المتعددة التي تحكم فن الأداء القرآني.
والذي تطمئن النفس إلى صحته أن مصر هي عاصمة دولة التلاوة، وأنها المتربعة، على عرش قراءة القرآن الكريم بقرائها وبعلمها في التجويد والوقف والابتداء والقراءات.... الخ، كيف لا وكل من في المشرق والمغرب ليعي هذه الحقيقة حتى صار ذلك إجماعاً.
إن دولة التلاوة المصرية للقرآن الكريم بقرائه كانت وما زالت هي الأولى والأهم، بل والأشهر والأكثر نفوذاً وتأثيراً بكل ما تنفرد به من بصمة خاصة في فن الأداء، فضلا عن تميزها بالحفظ التام للقرآن الكريم وعلومه وتمكنها في هذا وذاك مع حلاوة في الصوت وصل بالمعاني الربانية إلى شفاف القلوب.
ومع إقرارنا بأن القرآن الكريم نَزل بمكة المكرمة وطُبع في تركيا، وقُرئ بمصر، فإن الذي نريد بيانه للقارئ الكريم أن دولة التلاوة في مصر صرح عظيم، شاركت في تشييده سلسلة مباركة من عباقرة المقرئين على امتداد أجيـال متعاقبة، ويكاد يقع الإجمــاع على أن الشيخ/ أحمد ندا هو المؤسس الفعلي لدولة التلاوة مع مطلع القرن العشرين، وبه بدأت المسيرة في صفحتها الأولى، ذلكم الشيخ الذي اشتهر بعذوبة صوته، فضلا عن طريقته الخاصة في التلاوة، ما جذب إليه النفوس والأسماع والقلوب....
وإلى جــوار الشيخ أحمـد ندا ظهر بل سطـعت أسمـاء أخرى في عـالم التــلاوة منهـم الشيخ/ يوسف المنيلاوي، الذي عاصر الشيخ أحمد ندا، وكان أكبر منه عمراً، وكان الشيخ صديقاً للشيخ/ سلامة حجازي -الرائد المسرحي الشهير -وكان يتمتع بصوت متفرد، وُصف بأنه: كان شجيا، وفيه حزن وشجن....
وتتوالى السلسلة المباركة فيطالعنا الشيخ/ محمد القهاوي المقرئ المفضل للزعيم سعد زغلول، وكان المثل الأعلى لتلميذه الشيخ محمد رفعت، الذي وصف بأنه أجمل الأصوات وأرقها وأعذبها، بل وسيظل صوته بحقٍ قيثارة السماء....
تم تتابع المسيرة فتخرج لنا قارئا ظل أكثر من ربع قرن أبرز نجوم دولة التـــلاوة، إنه الشيخ/ مصطفى إسماعيل (1905-1978) صاحب الصوت المكتمل جمالاً وقوةً في جميع درجاته، يجيد الإحساس بكل ألفاظ القرآن الكريم ومفرداته....
وإلى جوار الشيخ/ مصطفى إسماعيل، يظهر شمس من شموس دولـــــة التـــلاوة إنه الشيخ/ محمود خليل الحصري (1917-1980) حارس القرآن، وزير دولة التلاوة، صاحب الأداء الفذ في القراءة المتقنة مع الالتزام الصارم بالأحكام، وهو صاحب مدرسة في التلاوة، اعتبرها كثيرون بمثابة "الميزان" الذي يمكنك أن تقيس عليها وتحتكم إليها ....
وتتحرك صفحات دولة التلاوة لتخرج لنا فارساً من فرسان دولة التـــلاوة المصرية إنه الشيخ/ محمد صديق المنشاوي (1920 -١٩٦٩)، صاحب صوت يفيض بالخشوع، ريحانة المقرئين، وقطب التلاوة، له مدرسته في التلاوة، فلم يقلد صوتا ....
وإلى جوار الشيخ المنشاوي يطالعنـا علم من أعــــلام دولــة التـــلاوة المصــرية، إنه الشيخ/ محمود على البنا (1926-1985)، أمير قراء الفجر وملك القفلات، من عاش زمن الشيخ البنا، وسعد بالاستماع إليه في تلاوته الحية -المباشرة -أدرك معنى الأجواء الملائكية التي كانت تحف بهذه المجالس، خاصة في صلاة الفجر، حيث يتجلى فيها صوته حتى يصل إلى ذُرىً رفيعة....
وفي هذه الصفحات المبــاركة لدولة التـــلاوة المصرية يخرج علم ومَعلم من معالمها إنه الشيخ/ عبد الباسط محمد عبد الصمد (1927-1988)، الذي يمثل صوته حالة فريدة، بل وسيظل صوته واحداً من العلامات الكبرى في دولة التلاوة المصرية، بما يحمله من رِقة وخشوع، فضلاً عن الصفاء والحزن النبيل، مع ما يتسم به من طول في النفس مع سهولة وعذوبة....
والحق أن صفحات مزامير القرآن الكريم من عظماء قراء دولة التـــلاوة المصرية، لتحتوي على الكثير من الأسماء اللامعة في عالم التلاوة، والمقام هنا لا يفي بسردها، مفصلة، لكنا نكتـفي بالإشــارة إلي أبرزهــم مــن أمثـال: الشيـــخ/ عبد الفتـاح الشعشـاعي، والشيخ/ حمدي الزامل، الشيــخ / منصور الشامي الدمنهوري، الشيــخ / عبد العـظيم زاهر، والشيخ/ أبو العينين شعيشع، والشيخ/ طه الفشني، والشيخ/ کامل يوسف البهتيمي، والشيخ/ محمد محمود الطبلاوي.... وغيرهم الكثير.
والتساؤل الذي يفرض نفسه هنا: كيف أصبحت مصر عاصمة دولة التلاوة؟
والجواب على هذا يستلزم معرفة المفتاح الذي يميز دولة التلاوة المصرية عن غيرها من المدارس الأخرى، خاصة الخليجية التي لاقت رواجاً في العقود المتأخرة بفضل مواقع التواصل والفضائيات، ذلكم المفتاح الذي يمكن حصر أبوابه فيما یأتى:
* ما ورثه المصريون من عادات قديمة ربما تعود بهم إلى زمن الفراعنة، وهي عادات وطقوس الاحتفاء المتفرد بالموت، والذي جرى تطويعها مع دخول الإسلام إلى مصر، فأصبحنا نرى المآتم التي يقيمها أهالي الموتى، ويودعون فيها فقيدهم بتلاوة القرآن، والتي انسحبت أيضا على الأفراح.
* ما أسس له المصريون من تلازم بين تعاليم وأصول تلاوة القرآن الكريم، وبين تعلم أسرار المقامات الموسيقية -الصوتية-التي أدركها عظماء دولة التلاوة المصرية بالفطرة النقية، وأثر ذلك في جمال الأداء، فضلاً عن التصوير النغمي لمعاني القرآن الكريم.
* الارتباط العقدي الذي أسس له المصريون، والبصمة الخاصة لقراء مدرسة التلاوة المصرية في فن الأداء التي يشارك فيها المستمع -الجمهور -كطرف فاعل ومتفاعل، لفت نظر الباحثة الأمريكية "كريستينا نيلسون" في كتابها: (فن تلاوة القرآن)، تلك الظاهرة في حياة المصريين قائلة: إنها تجاوزت إطار الحلقة السمعية لتصبح جزءاً من صميم الإخلاص الديني، وقطعة من روح الممارسات الثقافية والاجتماعية.
* إنشاء إذاعة القرآن الكريم عام ١٩٦٤م، والتي كان لها دورها الواضح وأثرها البّين في:
ا -شهرة أصحاب الأصوات الحسنة بإذاعة تلاوتهم.
ب -استقطاب القراء من أصحاب الكفاءات العالية، ورعايتهم، ولأن من انقطع لشيءٍ أحسنه.
ج-أخذ رأى الجمهور، وما له من دور في تصحيح مسار التلاوة، حيث لم يتوقف هذا الدور عند حد التعبير عن الطرب بصوت الشيخ، بل تعداه إلى أبعد من هذا.
لقد أسهمت إذاعة القرآن الكريم بحقٍ في المحافظة على مدرسة التلاوة المصرية من الاندثار، كما ساعدت على انتشارها في أماكن بعيدة من العالمين العربي والإسلامي.
ولا يسعنا في ختام الحديث هنا إلا الدعاء للقائمين على أمر مدرسة التلاوة المصرية قديما وحديثاً، من مؤسسات حكومية يأتي على رأسها الأزهر الشريف، كما نسأل الله تعالى أن يحفظ لنا مصرنا وأمننا، واستقرارنا، (إن ربي قریب مجیب