تلك كانت المرة الأولى التي استيقظ فيها قبل حلول الفجر، لم يتوقف الهاتف عن الرنين فتحت عيني بصعوبة وبالكاد نظرت فإذا المتصل سارة.
تذكرت أننا اليوم في طريقنا إلى العاصمة لاعتماد ترقيتها من المقر الرئيسي للشركة حاولت أن أنهض، لكن غلبني النعاس مرة أخرى وماهي إلا دقائق ولم أجد بدًا من الرد عليها حتى لا تغضب وتتحول الرحلة لكابوس من الملامة والعتاب.
أخبرتها كذبا أنني على أتم الاستعداد للمغادرة خلال لحظات حقيقة لا أعلم كيف حملتني ساقاي إلى الحمام، ولم يكن لدي خيار سوى أن أضع رأسي في هذا البرد القارس تحت دفعات صنبور المياه التي تدفقت وكأنها مسامير مثلجة، وعلى الرغم من أنها تجربة مؤلمة، إلا أنها حققت المرجو منها وزيادة فلقد تبينت معالم الصالة وطريقي إلى خزانة الملابس واستطعت أن آخذ "قضمة" من طعام تركته بالأمس بجوار التلفاز.
تلك القشعريرة التي سرت في جسمي جراء الماء البارد دفعتي لأرتدي كل ما وقع عليه نظري واختتمت بالشال الطويل الذي أهدته لي سارة يوم عيد مولدي.
كنت أشبه ببطريق متحرك يتلمس خطواته الأولى، لكن سرعان ما دب النشاط والحماس في شرياني عندما علمت أنها تنتظر منذ ربع ساعة في موقف الحافلات، كانت متحمسة لأنها ستحصل كما فهمت على علاوة بمقدار مئتي جنيه تقريبا بالإضافة إلى زيادة راتبها حوالي مائة جنيه وهذا بالنسبة لها نصر وفتح مبين، لهذا عقدت العزم أن أتخلى عن دفء البيت وألا أخذلها في يوم مصيري كهذا وأن أساندها في هذا اليوم التاريخي.
تنفست الصعداء عندما رأتني وقبل أن تنطق بكلمة مازحتها بهجمة مرتدة وحاولت تشتيت انتباهها لكي لا تتحدث عن أهمية النوم مبكرا وعدم السهر وما إلى ذلك من سيل التوجيهات.
انطلقت الحافلة في تمام السادسة ولأول مرة منذ زمن طويل تلامس نسمات الصباح الباكر وجهي وعلى الرغم من إلحاح الركاب المستمر بغلق الشباك، إلا أن همسها بضرورة بقاءه مفتوحا حتى يتجدد الهواء ولا نصاب بالزكام جعلتني اعتمد أسلوب اللا مبالاة وأتركه مفتوحا رغم أنف بقية الركاب.
بصحبة سارة لا يتوقف الحديث فتارة نتحدث عن الملابس وصيحات الموضة ومساحيق التجميل وآخر الأخبار والخوادق وأجدد الهواتف ومميزاتها وما إلى ذلك من المواضيع التي جعلت الطريق يمر دون أن أدري.
لم أنتبه إلا عندما سألتني عن وسيلة المواصلات التي أفضلها عندما توقف الحافلة، لم أرغب في أن استقل سيارة الأجرة وأنا بجوار محطة المترو فاقترحت عليها أن نستقل المترو كانت تجربة مميزة للغاية فأنا أحب أن أتطلع إلى الوجوه وأتخيل ما يدور في الرؤوس من أفكار على الرغم من امتعاضها ورغبتها في سيارة الأجرة إلا أنني استمتعت كثيرا وخاصة عندما خرجنا من محطة مترو الأنفاق وتدفق تيار الهواء البارد وكأنه يرحب بنا بحرارة شديدة.
أخيرا وصلنا إلى مقر الشركة في الثامنة نبهتني أن ألتزم الصمت في مكتب الموظف المسؤول عن ملف الترقيات، حاولت أن أتخلى عن اللامبالاة والتزم بتعليماتها بدقة، تقدمت هي ببطء وخشوع وإجلال زائد وحاولت جاهدة مقاومة نفسي الأمارة بالسوء التي كانت ترغب في الضحك.
بدا على الموظف الجدية المتناهية ورمقني بنظرة غاضبة لاستخفافي بمنصبه الرفيع، لكني تجاهلت نظراته تماما وأخرجت هاتفي وتظاهرت بانشغالي في متابعة آخر المستجدات.
نظر الموظف في قرار الترقية خاصتها وطالبها بجميع الشهادات المهنية واللا مهنية التي حصلت عليها منذ قُدومها إلى الدنيا بداية من شهادة الميلاد وإتمام التطعيم والابتدائية وشهادة حسن السير والسلوك من شيخ الحارة على الرغم من أنها لا تسكن في حارة.
بعد ساعة كاملة تبين أنها نسيت رقم الجلوس في شهادة الثانوية العامة أو ما شابه فطالبها باستكمال باقي الأوراق والعودة يوم السبت لكي يعتمد الترقية ويدرجها في سجلات الشركة العمومية.
على الرغم من أن نسيان تلك الورقة كان كفيلا بقلب الطاولة وإخماد روح الحماسة، إلا أن اتصال ميراي جعل اليوم ينقلب رأسا على عقب.
أخبرتني أنها عادت للتو من ألمانيا وصممت أن نتقابل معا في أحد النوادي الرياضية بعد الظهر.
استجابت سارة لإلحاحي وتخلت عن تحفظها وفكرة العودة مبكرا وخيرًا فعَلتْ، لقد كُنت في حاجة ماسة للخروج من الروتين المقيت الذي طغى مؤخرا على حياتي وأصابها بالجمود وأصبحت مثل تماثيل المعابد الفرعونية.
قررت أن أتخلى عن البيات الشتوي الذي أعيش فيه ونفضت الجمود والخمول من عروقي وتناسيت كل شيء وعدت إلى سنوات الطفولة الأولى وأخذت أنا وسارة نستعيد ذكريات الكلية والدراسة وأيام الامتحانات، كنا نرى الجامعة كابوس والدراسة عقاب نتمنى الخلاص منه لكن الآن وبعد مرور الوقت أدركنا أنها كانت أجمل سنوات العمر.
بالطبع لا نحمل أنا وسارة بطاقة عضوية للنادي لكن ميراي عضوة مشهورة وباتصال منها فُتحت الأبواب واستقبلنا حارس البوابة بترحاب انطلقنا وكأننا أطفال صغار نلهو ونلعب هنا وهناك ونلتقط الصور عندما وصلت ميراي تضاعف المرح وكأننا فارقنا بعضنا بالأمس وليس منذ سنوات.
صرت أركض بين ممرات الأشجار وأتنفس بعمق تلك النسمات التي امتزجت بأوراق الأشجار الخضراء وجادت الشمس بأشعة شتوية لطيفة أضافت سحرا وجمالا مع البرودة الخفيفة
شعرت وكأن النخيل يعانقني وينحني ليهبني السلام النفسي الذي افتقدته منذ سنوات.
وحدها الضحكات وذكريات الماضي هبطت على نفسي كسيل نزل على أرض جرداء فدبت فيها الحياة من جديد.
بعد ساعة انضمت أميرة ومعها ألبوم الذكريات الذي تحمله كمستند لتهديد كل الدفعة، لقد اختلفنا كثيرا في هيئتنا عن الماضي طريقة ارتداء الملابس أيام الجامعة كفيلة بخلق مئات الضحكات والتعليقات لكل من يلقي نظرة على ألبوم صور الجامعة.
تحدثنا عن كل ما يخطر بالبال أولا تطرقنا للحديث عن السيارات ثم أساتذتنا في الجامعة والحياة والفرق بين الحياة في مصر وألمانيا والزواج والطلاق والحب والمراهقة والارتباط حتى فواتير الكهرباء والمياه،
على الرغم من أنها موضوعات متعددة كما كنا نفعل في الماضي إلا أن الحديث هذه المرة اتسم بالصراحة والنضج الذي صقلته الأيام والتجارب.
بعد قليل اقترحتْ أن نشارك باقي بنات الدفعة تلك اللحظات السعيدة وقمنا بعمل بث مباشر وتطوعت بالغناء، حمد لله مازلت أغني ببراعة كما في الماضي لكن لم أعد أرغب في الشهرة واحتراف الغناء.
تجولنا حرفيا في كل مكان بالنادي حتى منطقة حوض السباحة ما جعل اليوم مميزا هو أن النادي لم يكن مزدحما بالكاد تلحظ وجود الناس من حولك.
اعتبرت هذا اليوم بمثابة هدية جميلة غير متوقعة من القدر فلكم اشتقت إلى عودة أيام الجامعة، لكن دائما اللحظات الجميلة تمر بسرعة البرق انتبهنا فإذا الليل قد أسدل الستار كانت هناك فاعليات وحفلة مسائية لم نحضر سوى بدايتها، عن نفسي أردت أن أظل مع ميراي وأميرة إلى منتصف الليل، لكن نبهتني سارة أننا على سفر.
حمدا لله أن ميراي استقدمت أحد السيارات الخاصة عن طريق أحد التطبيقات تأخر الوقت كثيرا وحقيقة لم أنتبه إلى الطريق من النادي لموقف الحافلات يحتاج إلى ساعتين مع ازدحام ليلة الخميس.
طوال الطريق لم تكف سارة عن تقريعي وإلقاء اللوم علي وتذكيري كل خمس دقائق أننا لن نجد حافلة تقلنا إلى البلد، على الرغم من أنها منذ قليل كانت تركض وتزاحم الصغار على الأرجوحة والزحليقة.
شعرت بالقلق الممزوج بتأنيب الضمير وتخيلت أننا سنضطر لقضاء الليلة على مقاعد الاستراحة وليست تلك الطامة الكبرى بل هو الوقت الذي سيزحف مثل سلحفاة عرجاء ممزوجا بوصلات حامية من تقريع سارة.
وماهي إلا دقائق وكأن الكون تذكر وجودي أخيرا وجدت سيل متدفق من الاتصالات إذ فجأة بدأ الاهتمام من الجميع والدي ووالدتي وخالتي وعمتي وبنت خالة عمتي الشقيقة والأخرى غير الشقيقة ومن كوكب زحل والكواكب المجاورة حتى بلوتو الذي خرج من كواكب المجموعة الشمسية، لم يتبقى سوى اتصال من جارتي سلوى في الدور السابع وعم سالم البواب وكأنني مبعوث الأمم المتحدة ومعي قرارات مصيرية لصلاح الكون.
أخذت أدعو طوال الطريق أن نجد أي حافلة في الموقف ولو بثلاث عجلات وعاهدت سارة ألا أكرر هذا التسيب ونسيان الوقت لكن من داخلي كنت في قمة السعادة غير مبالية بتبعات ما يجري.
شعرت بالارتياح عندما وجدت ازدحاما في الاستراحة، إذا لسنا وحدنا من تأخر عن موعد آخر حافلة.
اقتربت مني إحدى السيدات وأخبرتني بثقة أن الحافلة الأخيرة لم تنطلق بعد ولكن السائق ينتظر بعيدا وبعد أن يستبد القلق بالناس يأتي بالحافلة وكأنه البطل الخارق الذي ينقذ الجميع من المبيت في العراء ويرفع الأجرة إلى الضعف وصدقت في كلامها إذ قدم السائق الهمام وساومنا على الأجرة وعندما وافق الجميع تحركت الحافلة.
لم يشغلني كل هذا لقد كنت في حاجة ماسة إلى أن أجلس على مقعد الحافلة وأسند رأسي على الشباك وأغمض عيني وأطلب من رأسي أن يعيد ببطء كل ما يحمله من أحداث هذا اليوم حتى أستمتع من جديد بهدية القدر.