الخميس 6 مارس 2025

مقالات

الوسطية في مواجهة الفكر المتطرف


  • 6-3-2025 | 11:31

محمود السعيد

طباعة
  • محمود السعيد

تعلمنا في صغرنا حكمة عظيمة وهي أن خير الأمور «الوسط»، وأن كل صفة عظيمة للإنسان لا بد وأن تكون وسطاً بين صفتين مذمومتين متطرفتين، فالشجاعة صفة عظيمة للإنسان لأنها وسط بين متطرفين وهما الجبن والطيش، والكرم فضيلة عظمى لأنها وسط بين متطرفين وهما الشح والإسراف،...، وهكذا نجد أن التحلي بالقيم والخصال المحمودة يعني التحلي بقيم وخصال الوسطية في كل الأمور.  

والوسطية هي منهج حياة متوازن يجمع بين العقلانية في أبهى صورها والقيم الأخلاقية في أجمل معانيها، وهي مزيج من الاعتدال والاتزان في التعامل مع مختلف القضايا اليومية التي يواجهها الإنسان في حياته. وفي مقابل الوسطية نجد التطرف في الأفكار والأفعال، والفكر المتطرف هو انحراف عن الوسطية والاعتدال. ويتسم الشخص المتطرف بالتشدد والانغلاق الفكري، مما يؤدي إلى انعكاسات خطيرة على سلوكه وتأثيره على المجتمع. 

وبصفة عامة تعرف الوسطية على أنها نهج فكري وأخلاقي للفرد يقوم على أسس الاعتدال والتوازن بين الإفراط والتفريط، ويلتزم بالتنوع واحترام الاختلافات والآراء المتباينة. والتزام أفراد أي مجتمع بالقيم الوسطية يؤدي إلى تعزيز الحوار البناء، والتسامح بين الأفراد، واحترام الجميع للقوانين لتحقيق مبدأ التعايش السلمي. أما التطرف فيعرف على أنه تبني الفرد لمواقف متشددة ومتعصبة إزاء القضايا الاجتماعية أو الدينية أو السياسية التي يتعامل معها في حياته، مع رفض الآخر وعدم التسامح معه وعدم قبول التنوع. وقد يتطور تطرف الأفراد إلى ارتكابهم لأعمال عنف بهدف فرض أفكارهم بالقوة على المجتمع، وهو ما ينقلهم من خانة المتطرفين إلى خانة الإرهابيين، فبداية الطريق لأي شخص إرهابي يكون باعتناقه للفكر المتطرف.

وهناك عدد من الأسباب التي قد تؤدي إلى التطرف الفكري والبعد عن الوسطية، وأهم هذه الأسباب هو الجهل وضعف التعليم والذي يؤدي إلى ضعف الوعي عند الأفراد مما يعزز لديهم احتمالية التأثر بسهولة بأي أفكار متطرفة بمجرد التعرض لها. والسبب الثاني هو الفقر والبطالة، فالظروف الاقتصادية الصعبة التي قد يتعرض إليها بعض الأشخاص قد تجعلهم أكثر عرضة للاستقطاب وتبني الأفكار المتطرفة. والسبب الثالث هو التهميش الاجتماعي والسياسي في المجتمعات التي تتبنى النظم غير الديمقراطية في الحكم، وهي في الغالب تؤدي إلى شعور الأفراد بعدم الانتماء إلى الوطن، ويدفعهم للبحث عن هوية بديلة وتبني أفكار سياسية متطرفة. والسبب الرابع وهو الأخطر والأكثر انتشارا في الشرق الأوسط وهو استخدام الدين لأغراض سياسية، حيث تقوم بعض الجماعات بتضليل الأفراد اعتماداً على العاطفة الدينية لديهم وتقوم بتأويل النصوص الدينية بشكل خاطئ لتبرير العنف، وهو ما يخلق أفراداً متطرفين يعتقدون أنهم يطبقون صحيح الدين والدين منهم براء، ويصدق عليهم قول الحق سبحانه وتعالى في سورة الكهف: "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا" صدق الله العظيم. والسبب الأخير لوجود الفكر المتطرف في عصرنا الحالي هو  وسائل الإعلام الرقمية التي تروج للعنف أو الأفكار المتطرفة في إطار الحروب الحديثة التي تهدف إلى هدم المجتمعات من الداخل دون الدخول في مواجهات عسكرية مكلفة.

ولمواجهة الفكر المتطرف يجب تعزيز قيم الوسطية في المجتمع وبين الأفراد، فالوسطية هي خط الدفاع الأول للتصدي للتطرف. وهناك عدة آليات لتعزيز الوسطية أهمها نشر التعليم والتوعية بمخاطر التطرف، فتعليم الأفراد القيم المعتدلة ومهارات التفكير النقدي لتحصينهم ضد الأفكار المتطرفة هي أهم سبل المواجهة.

والآلية الثانية هي تشجيع الحوار والتسامح في مؤسسات التعليم والإعلام، فتشجيع النقاشات المفتوحة التي تتسم بقبول التنوع واحترام الآخرين هي من أهم آليات تعزيز الوسطية. كما يجب أن تعزز السياسات الحكومية مبدأ الاندماج الاجتماعي لضمان مشاركة جميع أفراد المجتمع في اتخاذ القرارات وحل المشكلات، مما يشعر أفراد المجتمع بأهميتهم ويبتعدوا عن تبني الأفكار المتطرفة. وهناك أهمية كبرى لتصدي المؤسسات الدينية لمن يقومون بتفسير النصوص الدينية بشكل غير صحيح، فتصحيح المفاهيم الخاطئة التي يستغلها المتطرفون تعتبر من أهم آليات التصدي للأفكار المتطرفة. ويجب أن تتعاون مؤسسات الدولة، وخصوصا المؤسسات الدينية من كافة المشارب والأطياف، في العمل على تعزيز القيم الإنسانية المشتركة والتركيز على القيم التي تجمع بين البشر وأهمها قيم العدل والرحمة.

وقد مرت عدة دول بتجارب هامة في مواجهة الفكر المتطرف، ففي مصر عملت الحكومة المصرية طوال تاريخها على نشر الفكر المعتدل من خلال مؤسسة الأزهر الشريف، والتي تقوم بإصدار فتاوى وتصحيحات فكرية لمواجهة الفكر التطرف، وكثيرا ما نجح الأزهر ورجالاته في قهر دعاة الفكر الظلامي المتطرف. وفي المغرب تم إطلاق عدة برامج تدريبية لتأهيل الأئمة والدعاة بغرض تعزيز الحوار بين الأديان ونشر التسامح. وفي فرنسا تم تبني عدة خطط قومية لتعزيز التعليم المدني وتطوير برامج لمكافحة التطرف عبر الإنترنت. بينما في ألمانيا تم إنشاء مراكز لإعادة تأهيل المتطرفين ودمجهم في المجتمع. وفي ماليزيا اعتمدت الحكومة على التعليم الشامل الذي يدمج بين القيم الإسلامية الوسطية والمناهج الحديثة لمواجهة الفكر المتطرف. وفي الولايات المتحدة تم التركيز على مكافحة التطرف الرقمي من خلال مراقبة المحتوى الذي يحرض على العنف والتعامل معه بشكل قانوني.

وختاما نؤكد أن الوسطية هي الدرع الأقوى والحصن المنيع في مواجهة الفكر المتطرف، وتمثل بيئة لتعزيز قيم التعايش والسلام. ومن خلال التعليم، والحوار، وتعاون الحكومة ومنظمات المجتمع المدني وأفراد المجتمع، يمكن مواجهة التطرف وبناء مجتمعات أكثر استقراراً وتسامحاً. وتؤكد التجارب التاريخية والدولية على أهمية تكاتف الجهود لمواجهة التطرف، ونشر قيمة الاعتدال كأسلوب حياة.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة