في كل زاوية من زوايا الأرض، قامت صروح شاهقة تنطق بالجلال، وتعكس نور الإيمان، وتُردد أصداء التكبير والتهليل. إنها المساجد والجوامع، بيوت الله التي جمعت القلوب، ووحدت الصفوف، واحتضنت أرواحًا وجدت فيها السكينة والطمأنينة.
وفي هذا الشهر المبارك، شهر رمضان، حيث تصفو الأرواح وتسمو النفوس، نأخذكم في رحلة روحانية عبر الزمان والمكان، لنطوف بكم حول أجمل وأعظم الجوامع والمساجد في العالم، من قلب الحرمين الشريفين، إلى مآذن الأندلس الشامخة، ومن سحر مساجد إسطنبول العتيقة إلى عبق التاريخ في مساجد المغرب العربي، سنعيش معًا حكاياتٍ من الجمال المعماري، والتاريخ العريق، والمواقف الإيمانية الخالدة.
وعبر بوابة «دار الهلال» خلال أيام شهر رمضان الكريم، لعام 1664 هجريًا / مارس 2025 ميلادي، نستعرض معكم أحد أشهر المساجد، والجوامع التاريخية في دول العالم الإسلامي، والدول العربية، حيث يجتمع الفن والهندسة والإيمان في لوحات تأسر القلوب، وتروي قصصًا من العظمة والروحانية، في ليالي رمضان المباركة.
ونرتحل في سادس أيام رمضان المبارك 1446هـ/ 6 مارس 2025 في جولة ورحلة إلى مسجد «الجامع الأموي» في دمشق
من أشهر المساجد
جامع بني أمية الكبير، الذي يعرف اختصارًا بالجامع الأموي، هو المسجد الذي أمر الوليد بن عبد الملك بتشييده في دمشق، ويُعد رابع أشهر المساجد الإسلامية بعد حرمي مكة والمدينة والمسجد الأقصى، كما يُعد واحدًا من أفخم المساجد الإسلامية، وأحد عجائب الإسلام السبعة في العالم.
ويقع الجامع الأموي في وسط مدينة دمشق القديمة، المنطقة المدرجة على لائحة التراث العالم
من أقدم مساجد العالم
يعد الجامع الأموي، من أقدم مساجد العالم، ويعود تاريخه إلى ما يقارب 1200 سنة قبل الميلاد، وكان في مكانه معبد آرامي وعندما احتل الرومان دمشق حولوه إلى معبد للإله جوبيتر، وحين اعتنقت روما المسيحية أقام الرومان فوق المعبد كنيسة يوحنا المعمدان، وعندما فتح المسلمون دمشق أبقوا على الكنيسة وبنوا مسجدًا الى جانبها، وعندما تولى الخلافة الوليد بن عبدالملك اشترى الكنيسة وأعطى المسيحيين بدلًا عنها كنيسة حنانيا المجاورة وبعض المميزات الأخرى، ومنذ ذلك التاريخ بدأت عمليات بناء ضخمة استغرقت قرابة عشر سنوات.
ويشكل الجامع الأموي شاهدًا حيًا على عظمة الحضارات التي مرت على هذه الأرض؛ بدءًا من الآراميين والرومان والبيزنطيين حتى الحكم الإسلامي، ومنه السلاجقة والأيوبيين والمماليك والفاطميون والعثمانيون.
خصائص تاريخية و أثرية ومعمارية
و للجامع الأموي مزايا وخصائص تاريخية و أثرية ومعمارية وفنية ودينية جعلت منه أهم الأوابد الأثرية الإسلامية في العالم بعد الحرم المكي والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، فالجامع الأموي هو الأثر الوحيد المتكامل والباقي من آثار حكم بني أمية، وقد حافظ على مدى مئات السنين على الهيكل العام نفسه، كما أن معالمه المعمارية لم تتغير وكذلك طرازه الأموي، فبقي محافظًا على بقايا زخارف وكتابات رومانية ومن تحت أحجارها ظهرت آثار آرامية ورومانية وبيزنطية.
أول مئذنة وأول محراب
ويشير المؤرخون إلى أن أول مئذنة وأول محراب عرفهما المسلمون كانا في الجامع الأموي، ومنه انتقل هذا التقليد إلى بقية الجوامع في ديار الإسلام التي امتدت من حدود الصين شرقاً حتى شمال أفريقيا والأندلس غربا.
وتؤكد الدراسات التاريخية أن جدران الجامع الأموي كانت بالكامل مكسوة بزخارف الفسيفساء التي ارتكز عليها فن الزخرفة الإسلامي والعربي، ففي الجامع الأموي صوِّرَت للمرة الأولى في لوحات الفسيفساء العمارات والأنهار وهذه الموضوعات لم تكن موجودة في مسجد قبة الصخرة.
وفي جدران الرواق الغربي للجامع اكتشف الأثريون أقدم شريط فسيفسائي أموي أصيل في العالم ويبلغ طول هذه اللوحة 34 متراً ونصف المتر وارتفاعها يزيد على سبعة أمتار. وفي هذه الجدران أيضاً اكتشف العلماء رسومات زخرفية نباتية ملونة مزينة بكتابات قرآنية بالإضافة لوجود الأحجار الكريمة.
بناء الجامع الأموي
واستغرقت عملية بناء الجامع الأموي وزخرفته قرابة عشر سنوات ابتداء من عام 705 م، وذكر ابن كثير أن الوليد بن عبدالملك أنفق على بناء الجامع خراج الشام سنتين، وفي رواية أخرى أن ما أنفق كان محتويات أربعمائة صندوق في كل صندوق أربعة عشر ألف دينار.
وعلى مر العصور التي تعاقبت على دمشق بقي الجامع الأموي أثراً خالداً على الرغم من تعرضه للمآسي والنكبات والزلازل والحرائق العديدة، وبعد كل محنة كان يقف شامخاً وكأنه متحف يختبئ تحت جدرانه تاريخ حافل عمره آلاف السنين.
البناء والمعمار للجامع الأموي
يبلغ طول الجامع الأموي 157 متراً وعرضه 97 مترًا أما مساحته فتبلغ 15229 متراً مربعاً، في حين أن مساحة صحن الجامع تبلغ ستة آلاف متر مربع.
و للجامع الأموي أربعة أبواب: الشرقي والغربي والشمالي أما الباب الرابع (القبلي) فينفتح على حرم الجامع، وللجامع أيضًا ثلاث مآذن هي: مئذنة قايتباي ومئذنة عيسى ومئذنة العروس وتعتبر الأخيرة أقدم مئذنة في العالم.
ويقول المؤرخون إن صحن الجامع في عهد الوليد كان خاليًا من القباب، وفي عهود لاحقة شيدت ثلاث قباب لا تزال قائمة حتى اليوم، وهي: قبة الخزنة، وقبة الساعات أما القبة الثالثة فتوجد في صحن الجامع وتضم بركة ماء و فوقها أقواس وعلى جانبيها عمودان.
وفي جانبي صحن الجامع توجد أربع قاعات مستطيلة الشكل وقد سميت هذه القاعات بمشاهد الخلفاء الراشدين، لكن أسماء هذه المشاهد تغيرت خلال العهود التاريخية واستخدمت لأغراض شتى كقاعات للحكم وقاعات للتدريس والصلاة والاجتماعات وخزائن للكتب والمستودعات.
وزود الجامع الأموي في كل العهود بساعة شمسية وساعة فلكية وساعات أخرى اختلفت أشكالها وأحجامها باختلاف العصور.
و احترقت أجزاء من الجامع ثلاث مرات: الأولى عام 1069م، والثانية على يد تيمورلنك عام 1400م، والثالثة عام 1893م، وكانت آخر عمليات الترميم في العصر الحديث عام 1994م، وأعيد افتتاح المسجد.
وفي عام 2001، زار البابا يوحنا بولس الثاني المسجد، لرؤية أثار مقام يوحنا المعمدان، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها البابا بزيارة إلى مسجد.