يعتبر القرآن الكريم هو المدرسة الأولى لكل الفنون القولية، شعرا، غناء، أدبا، وما إلى ذلك من كل إنتاج فنى وثقافى؛ وبدا ذلك في تأثير القرآن على ألحان رواد الموسيقى العربية، سيد درويش، القصبجى، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، رياض السنباطى، والجيل اللاحق لهم: محمد فوزى، محمود الشريف، أحمد صدقى، عبد العظيم عبد الحق، سيد مكاوى، وغيرهم. حتى من كانوا على ملة أخرى التحقوا بالكتاتيب وحفظوا القرآن من صغرهم، مثل داود حسنى.
وكانت الكتاتيب هي المورد الأول لتعليم الموسيقيين فن الأداء اللغوى، متمثلا في الأداء الجماعى والفردى للقرآن الكريم، مع التركيز على خصائص حروف اللغة العربية من مد وغنة وتطويل وقصر وقلقلة، والإظهار والإعلاء والروم والإشمام والإمالة، وغيرها، مما يمنح المؤدى أساسا قويا للأداء الرائع لغويا وموسيقيا.
وكانت صفة المؤدى للأشكال الدينية هي: "المنشد" في العموم، و"المبتهل"، أي المتضرع والمتوسل إلى الله, والتي تضفى على الكلمة صفة الخشوع والخضوع لله، وقد يكون المبتهل فرديا أو بمصاحبة "كورس" أو "بطانة"، وهم مجموعة المرددين أو "السنيدة"، ولا تصاحبهم أية آلة موسيقية، وقد اشتهر في مصر مبتهلون ومنشدون كبار، كانوا رموزا لهذا الفن، وقلما تجد فنانا لم يتأثر بهم، أمثال: "على محمود – إبراهيم الفران – درويش الحريرى – إسماعيل سكر"، وتلاهم جيل: "طه الفشنى – محمد الفيومى - محمد الطوخى – نصر الدين طوبار"، ثم جيل "محمد عمران – على الهلباوى"؛ وقد كان بعض رواد الموسيقى العربية ضمن بطانة الجيل الأول, مثل الشيخ زكريا أحمد، الشيخ محمود صبح.
ويرجع الابتهال في مصر إلى عهد ما بعد الفتح الإسلامي، حيث ساهمت مصر بنصيب كبير في الموسيقى التي تأثرت بالقرآن الكريم إثر اعتناق أهلها الإسلام؛ وكما غيرت مصر من نغمات المقامات الموسيقية الوافدة على مصر: "راست - بياتى – سيكاه – صبا - جهاركاه"، وغيرها، وأضافت عليها التأثير المصرى المميز؛ ابتكرت أيضا فن الابتهال والإنشاد الدينى، مرتبطا بالمناسبات الدينية سواء اليومية ما بين صلاتى العشاء والفجر، أو المناسبات الموسمية كالمولد النبوى الشريف، أو موالد آل البيت الكرام, وكذا في ليالى شهر رمضان وموسم الحج, وليلة الإسراء والمعراج, والنصف من شعبان, وغيرها.
وقد انتشرت في مصر عدة طوائف للأداء الفني بمصدره الدينى (ابتهال وإنشاد)، والذى شكل وجدان وتعليم الفنانين في مصر على مدار تاريخها؛ وكان لعلماء الحملة الفرنسية السبق في توثيق معظم الفعاليات الفنية المرتبطة بالدين وبالقرآن، وذلك في كتاب "وصف مصر" الذى أعده علماء الحملة، رغم رأيهم السلبى - فى تلك الفنون - الذى سنغض الطرف عنه.
وبالبحث عن مصادر الابتهال والإنشاد الدينى، رُصد أنها تتمثل في عدة طوائف تمارس الفنون الغنائية ذات التأثير الدينى، سواء بغرض التكسب أو من الهواة المتدينين المحبين، أو على شكل شعائر وطقوس دينية مرتبطة بعبادات مثل الصلاة والصيام؛ وفيما يلى أشهر أشكال الفنون الغنائية ذات التأثير الدينى.
طائفة المداحين:
وهى كما يظهر من الاسم متجهة للمدح, وخصوصاً مدح النبى, وقصص الأنبياء, وذكر كرامات أولياء الله الصالحين (السيد البدوى- عبدالرحيم القناوى- المرسى أبو العباس - إبراهيم الدسوقى- أبو الحجاج الأقصرى, وغيرهم)، وهم يذهبون إلى مقاماتهم فى كل عام، وكذلك فى مواسم الحصاد، وكان أداؤهم ترتيلاً وإنشاداً بمصاحبة الدف فقط, ويشاركهم الغناء بطانةٌ تسمى "الكورس".
طائفة المنشدين:
وهم يجوبون القرى والنجوع والكفور والمدن أيضاً، وفى الموالد, ويؤدون أشعارا وأزجالا لمدح النبى وآل البيت، وألحانهم قائمة على الفطرة والسجية؛ وهم يختلفون عن طائفة المداحين فى أن ألحانهم تؤدى دون مصاحبة إيقاعية كما فى طائفة المداحين. واشتهر منهم الشيخ على القصبجى (والد الموسيقار محمد القصبجى), والشيخ يوسف المنيلاوى.
طائفة الدراويش والمتصوفين:
هم الفنانون الهائمون، والذين يتغنون بحب النبى (صلى الله عليه وسلم)، ويُطلق عليهم: "أهل الوجد"، ويتجمعون فى محافل الأوراد حول الصوارى فى الموالد، وبعد الذكر يرددون الأوراد, ويجلسون آخر الليل ينشدون الأغانى فى الهيام بالذات الإلهية، على أشعار كل من: محيى الدين ابن عربى، الإمام البوصيرى، وعمر بن الفارض.
ونحن إذا دققنا السمع في موسيقانا المصرية نجد أن ألحان الموسيقى العربية الأولى منذ القرن التاسع عشر حتى عشرينات القرن العشرين تتشابه بل تتطابق مع طريقة تجويد القرآن الكريم، كما في استهلال القصائد الأولى، على سبيل المثال: (أراك عصى الدمع شيمتك الصبر – عبده الحامولى)، (الصب تفضحه عيونه – أبو العلا محمد)، (ياجارة الوادى – محمد عبد الوهاب).
حتى اختتام القصائد كانت متشابهة تماما مع اختتام قراء تجويد المشايخ للقرآن الكريم في مقام البياتى، استمع مثلا للمقطع البياتى من قصيدة "يا جارة الوادى" لمحمد عبد الوهاب: "لا أمس من عمر الزمان ولا غد / جمع الزمان فكان يوم لقاكى".
وهناك العديد من الشخصيات التي ظهر في ألحانها تأثر واضح بالنشأة القرآنية، سواء بتأثر مباشر ببعض الأداءات من المشايخ، أو بالاستماع المتكرر للقرآن الكريم مرتلا أو مجودا ثم هضمه تلقائيا إلى أن أن أصبح جزءا من وجدانه بل ومكونه الثقافي، وصار أحد أشكال التعبير الفني لديه؛ تماما كما أثر القرآن في تكوين ثقافة عباقرة الأدب والشعر أمثال: أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، العقاد، طه حسين، حسين فوزى، محمود أحمد الحفنى، أحمد رامى.
ونختص في تلك الدراسة المبسطة على الموسيقار الفذ محمد عبد الوهاب؛ والذى لم ينفك من التعلم من القرآن الكريم طوال عمره, والذى كان عاملا رئيسيا بل أحد مقومات نجاحه الشعبى لحنا وصوتا. حتى وإن لم يلحن سوى ألحان قليلة ذات شعر دينى مقارنة بما قدمه في مجالات العاطفة والوطنى، لكنه يعتبر أكبر مبتهل في ألحانه وغنائه.
بدأت حياة محمد عبدالوهاب فنيا فى بادئ الأمر من خلال نشأته الشعبية والدينية فى حارة "برجوان" بحى "باب الشعرية" بالقاهرة، حيث ميلاده عام 1902، إلى جوار مسجد سيدى الشعرانى، كما كان والده مؤذنا ومقيما للشعائر فى المسجد، وكانت تلك الشعائر أغلبها يوميا بعد صلاة العشاء، وكذا الابتهالات التى تقدم قبل صلاة الفجر، والأذكار والمدائح التى تؤديها الطرق الصوفية مثل: "الشاذلية الحامدية، الفأسية، البيومية، الخلوتية"، وهى التى كانت تجوب المنطقة وحول المسجد؛ إضافة إلى الحفلات والليالى المقترنة بمناسبات دينية؛ مثل: إحياء ليالى المولد، وليالى شهر رمضان، وليلة النصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج، وغيرها؛ وبها من الأداء الغنائى المتنوع وألحان فطرية عفوية.
وحين يستمع الطفل محمد عبد الوهاب إلى تلك الأذكار والمدائح والابتهالات، ألهمته وأثرت فى تكوينه الفنى مما كوّن لديه مخزونا سمعيا هائلا، كان أساسا لبنية موسيقية ساعدته للتعرف على كافة الأفكار الغنائية المحلية والشعبية. وكان من تقاليد تلك الأداءات أن تصاحب المنشد والمبتهل الجوقة أو الكورس، وتكرر الجملة التى يؤديها المنشد، ويقوم هو بدوره بإعادة عرض الجملة الغنائية السابقة مضيفا إليها ابتكارات غنائية متنوعة.
وقد تأثر عبد الوهاب برواد القراء والمنشدين والمبتهلين، أمثال: محمد رفعت، على محمود، درويش الحريرى، وقد شكلوا جميعم أسلوب الأداء الذى ساد تلك الفترة (أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين)، ومنه الأداء الغنائى الذى اصطبغ بالأداء القرآنى الساحر.
مظاهر التأثر بالقرآن الكريم في موسيقى
وغناء محمد عبد الوهاب
التزم عبدالوهاب في تلحينه وأدائه الغنائى بأصول وأحكام التلاوة التي هي مصدر وأكبر رافد للمبتهل، بل وراعى حتى الاستثناءات التي أشار القرآن إليها، من تغيير في بعض خصائص الحروف اللغوية، وتلك الاستثناءات كانت إما لدعم وتقوية المعنى أو كى تصير الجملة الأدائية أكثر جمالا ورونقا. وفى السطور القادمة نماذج لتأثير القرآن الكريم وتأثير المنشدين والمبتهلين على فكر وموسيقى عبد الوهاب:
- إدغام حرفى "الدال" المُسَكَّن و "الضاد" في أداء المقطع "قدْ ضَيعها سلمت يده" من قصيدة "مضناك جفاه"، تأثرا بأداء المقطع القرآنى "قدْ ضَلّوا ضلالا بعيدا"؛ وتبدو صعوبة التقاء الحرفين "دال" و "ضاد" أنهما متشابهان في غالبية الصفات اللغوية، عدا أن الحرف الأول "دال" "مرقق" والثانى "ضاد" مفخمة، وقد أتيا متتاليين، وقد برع عبد الوهاب فى أدائه الرائع لتلك الجملة.
- حين أدى المقطع: "تِنزل وادى تطلع كوبْرى" في مونولوج: "يا وابور قوللى"، أظهر قلقلة حرف "الباء" المُسَكَّن في كلمة "كوبْرى". ويذكر أنه أثناء تسجيل أغنية "مصريتنا" لمحمد ثروت، شدد على الكورال أن يؤدوا جملة "تبْنى حياتنا" بقلقة حرف "الباء" وأدائه مكسورا لا مُسَكَّنا لتصبح "تِبِنى" وبشكل متعمد حتى تظهر في التسجيل.
- فى مونولوج "أحب عيشة الحرية" وفى المقطع "قلبى ميال" قام بتأدية المد فى كلمة "ميال" بشكل أداء المبتهلين وبالأخص الشيخ على محمود، بداية من نغمة "الكردان" هبوطا حتى "الجهاركاه" ثم قفزة إلى نغمة "العجم" وإعادة الجملة على سيكوانس هابط عدة مرات، وبالاستمرار في هذا المسار اللحنى يختتم عبد الوهاب الجملة الغنائية كمبتهل من الدرجة الأولى.
- وفى قصيدة "إلام الخُلف بينكم إلام" غنى عبد الوهاب المقطع "فكمْ شرٍ حسمت" بتخفيف أداء حرف "الشين" في كلمة "شر" وتخفيف أداء حرف "الراء" لمجانسة الأداء بين الحرفين؛ وذلك بسبب حرف الغنة المُسَكَّن "الميم" من كلمة "فكمْ" وهو ما يسمى في أحكام التلاوة القرآنية: "إخفاء حقيقى".
- وفى قصيدة "يا ناعما رقدت جفونه" , وفى المقطع "إنْ لَم" من جملة "إنْ لَم تُعِنْهُ فمن يعينه", أدى عبد الوهاب المقطع مراعيا خاصية الإدغام ما بين حرف التنوين المُسَكَّن في الحرف "إنْ"، وحرف "اللام" ليصبحا حرفا واحدا وهو "اللام"، فتكتب عروضيا "إلـْ لَمْ تُعنه", وهو تأثر بالأداء القرآنى للمقاطع التي تحتوى على تنوين مُسَكَّن يليها حروف مثل: "لام – راء", كما في الآية القرآنية على سبيل المثال: "ربِّ هبْ لى منْ لَدنك رحمة", في المقطع "منْ لَدنك" بين "النون" و "اللام"؛ والآية القرآنية "وأنْ لَيس للإنسان إلا ما سعىٍ", في المقطع "وأنْ لَيس".
- وكذا في مشهد "مجنون ليلى"، وفى المقطع "منْ نَارنا الدارُ", راعى خاصية الإدغام بين حرف "النون" المسكن في كلمة "منْ" وإدغامها في حرف "النون" من كلمة "نارنا", وتكتب عروضيا "منارنا"، فيما يسمى في أصول التجويد "إدغام المتماثلين"؛ كما في الآية القرآنية "لنْ نَصبر على طعام واحد"، فأدغمت "النون" الأولى من كلمة "لنْ" في "النون" الثانية من كلمة "نصبر".
- حتى المواضع التي استثنيت في القرآن من تغيير في شكل أداء بعض حروف آى الذكر الحكيم، وهى التعاليم الملحقة آخر المصحف؛ قد التزم بها أيضا عبد الوهاب وراعاها في ألحانه وأدائه؛ مثل حركة الإمالة لحرف "الياء" كما الموجودة في قوله تعالى "بسم الله مجريها ومرساها"، ورسم الشكل الهندسى "المُعَيَّن" أسفل حرف الراء في كلمة "مجريها" ليصبح مد الياء شبيها بمد حرف "الياء" العامية في كلمة "إيه" أو "زين"؛ حين غنى عبد الوهاب في قصيدة "سجا اللَيل" المقطع "وما البيد إلا الِليل" فمد حرف الياء بشكل حرف الإمالة "رسم المعين" القرآنى، حتى لا يستطيع أداء هذا المد بشكله اللغوى الأصلى.
- فى طقطوقة "كان أجمل يوم" استعان عبد الوهاب بكورال لا ليؤدى المذهب، بل ليساعده في أداء حرف المد المخم "آه" فقط دون أي أداء آخر لهم؛ ذلك لأن هذا الحرف قد ورد مرققا في أصل كلمات الأغنية ولا يستحب مده، وهى الكلمات العامية: "معاه - استناه – انساه؛ وذلك تأثرا بالأداء القرآنى "ومن أوفى بما عاهد عليهُ الله" بضم حرف "الهاء" من كلمة "عليهُ" حتى تصير لام "الله" مفخمة ، لوقاية الحرف من الكسر.
- حتى الأغنيات التي لحنها لمغنين آخرين, كان تأثره بالقرآن الكريم حاضرا بوضوح, وقد أضفى على أدائهم جمالا وروعة.
- ففى قصيدة "لست قلبى" غناء عبد الحليم, كانت البداية مع قفزة لمسافة الأوكتاف (ثماني نغمات) بين نغمتى "لا1 العشيران – لا الحسينى", وجاء على حرف الغنة "النون" من جملة "أنت قلبى", وهى إحدى طرق الأداء القرآنى لحرف الغنة.