ثمة معلومات شائعة مغلوطة وملتبسة فيما يخص تعاون الشيخ سيد النقشبندي مع الموسيقار بليغ حمدي، أولها أن النقشبندي قبل بليغ حمدي لم ينشد مطلقا بمصاحبة آلات موسيقية وأن إنشاده كله كان ابتهالا دون مصاحبة الموسيقى، وثانيها أن النقشبندي قبل بليغ لم يقدم الأغنية الدينية، وكان هذان الأمران هما سبب تخوفه وتردده في التعاون مع بليغ حمدي ، هذا التعاون الذي أثمر عن ابتهال “مولاي إني ببابك” الذي تحول مع الزمن إلى أيقونة دينية لايجوز أن نعيش أجواء شهر رمضان الكريم دونها.
في عام 1966 سمع الإعلامي أحمد فراج الشيخ سيد النقشبندي وهو ينشد في مولد سيدنا الحسين وأعجب بصوته فاستضافه في حلقة من حلقات برنامجه التليفزيوني “في رحاب الله” وكان أول ظهور تليفزيوني للشيخ النقشبندي، وفي العام التالي 1967 دخل الشيخ سيد النقشبندي الإذاعة المصرية لأول مرة بعد قدمه الإذاعي مصطفى صادق إلى محمد محمود شعبان “بابا شاور” الذي أعجب بصوت الشيخ النقشبندي واعتمده منشدا في الإذاعة وأسند إليه إنشاد الحلقات الإذاعية “الباحث عن الحقيقة سلمان الفارسي “ عن قصة محمد عبد الحليم عبدالله وأشعار محمد علي ماهر وألحان محمد الموجي من أعداد عبد السلام عسرة وإخراج زكريا شمس الدين في رمضان من ذلك العام حيث أنشد بمصاحبة فرقة موسيقية وقدم في هذه الحلقات أغنيته المشهورة “يانور الحق يانور الإيمان “ ليصبح بعدها شهر مضان موعدا سنويا لجمهور الشيخ حيث كان يقدم برنامجا يقدم فيه نحو 30 أغنية وابتهالا في رمضان من كل عام بمصاحبة فرقة موسيقية ، في رمضان من العام التالي 1968 قدم برنامجا من تلحين حلمي أمين وفيما بعد من ألحان أحمد فؤاد حسن ومحمد سلطان وسيد مكاوي، وفي عام 1969 غني على المسرح في حفلة “أضواء المدينة” بمصاحبة الفرقة الذهبية بقيادة صلاح عرام ، ثم أصبح يغنى على المسرح في الحفلات بمصاحبة فرقة للفنون الشعبية.
في محطة بليغ حمدي
في بداية السبعينيات تصدر بليغ حمدي المشهد الغنائي في مصر من خلال ألحانه الناجحة لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ونجاة وشادية ومحمد رشدي وعفاف راضي، خصوصا بعد اعتزال الموسيقار كمال الطويل وقلة ألحان محمد عبد الوهاب ، كان الرئيس أنور السادات من المعجبين ببليغ حمدي وكان يطلبه أحيانا ليجلس معه ويغني له على العود، وكان أيضا معجبا بالشيخ النقشبندي فقد سبق له أن استمع له في أكثر من مناسبة حتى قبل أن يصبح مشهورا.
في صيف عام 1971 أقام الرئيس أنور السادات حفلة خطوبة كريمته لبنى في استراحة الرئاسة في القناطر الخيرية وكان من بين المدعويين بليغ حمدي والنقشبندي وحسب ما حكى الإذاعي وجدي الحكيم في أكثر من لقاء تليفزيوني نادى السادات على بليغ والنقشبندي وقال لهما: “ أنا عاوز أسمع ألحانك بصوت النقشبندي” ثم توجه بحديثه إلى وجدي الحكيم :” وإنت ياوجدى عاوزك تفتح لهم الاستديو وتوفر لهم كل اللي يحتاجوه “
بعدها انفرد النقشبندي بالحكيم جانبا وأبدى له تخوفه من التعاون مع بليغ لأن لون بليغ الموسيقى مختلف وبعيد عن اللون الذي يغنيه النقشبندي خصوصا في ألحان بليغ الأخيرة المليئة بالموسيقى والإيقاعات الشعبية الراقصة كما في أغانيه لعبد الحليم حافظ “زي الهوى” و”مداح القمر” و”موعود”
وقتها كانت تجربة بليغ في الألحان الدينية قليلة جدا ربما كانت أغنية واحدة هي “اللهم إقبل دعايا” التي لحنها لشادية من كلمات عبد الوهاب محمد وغنتها في المسلسل الإذاعي “نحن لانزرع الشوك” للمخرج للمخرج محمد علوان عام 1969
كتب الشاعر عبد الفتاح مصطفى الأغاني والإبتهالات وأرسلها لبليغ حمدي الذي عكف على تلحينها واتصل بالشيخ النقشبندي ليلتقيا في استديوهات الإذاعة ليسمعه إياها، وبدأ التوتر يعتري الشيخ النقشبندي لكن وجدي الحكيم طمأنه وقال له: “ بليغ سيجلس معك يسمعك ما لحنه إذا أعجبتك الألحان اخلع الجبة الخاصة بك وضعها على الكرسي بجوارك أما في حال لم تعجبك ولا تخلعها وأنا سأتحدث مع بليغ وأخبره بأي عذر أن الاستديوهات كلها محجوزة حاليا وعلينا تأجيل التسجيل”.
وعندما عاد وجدي إليها بعد نصف ساعة وجد الشيخ النقشبندي قد خلع جبته وعمامته ووضعهما على الكرسي دلالة على إعجابه الشديد بالألحان التي وضعها بليغ .
وبدأ بليغ والنقشبندي تسجيل الأعمال التي قدمت ضمن برنامج “أنغام الروح “ الذي قدم في شهر فبراير من عام 1972 خارج شهر رمضان .
قبل إذاعة الحلقات بأسابيع أجرت مجلة “الكواكب “ حوارا مع الشيخ النقشبندي نشر في العدد الصادر في الواحد والعشرين من شهر ديسمبر عام 1971 جاء فيه :”مع بداية السنة الجديدة تذاع خمس عشرة أغنية للشيخ النقشبندي كتبها عبد الفتاح مصطفى ولحنها بليغ حمدي تقدم داخل برنامج “أنغام الروح “ الذي أذيعت منه خمس عشرة حلقة وتوقف العمل مؤقتا بعد أن سافر بليغ حمدي إلى الخارج و عندما يعود، يعود العمل، عن هذا العمل يقول الشيخ سيد إن أغنيات هذا البرنامج يمكن أن تؤثر في الناس كثيرا لو أنها أذيعت أكثر من مرة كما حدث مع أغنية “أقول أمتى يا رب أمتى” إن عدد مرات إذاعة الأغنية مؤثر هام بلا شك في نجاح اللحن ، لقد انتشرت بعض الأغنيات في مواسم سابقة لا لأن الجمهور يحبها ولكن لكثرة الإلحاح بها على آذان الناس إن أغنيات “أنغام الروح” من اللون السهل الذي يحبه المجتمع المهم أن تجد الفرصة خاصة وأنها تمشي مع خط الإذاعة في الفترة الأخيرة الذي يظهر في اهتمامها بالأعمال الجادة ولن يتوقف التعاون بين بليغ والشيخ سيد فهناك أكثر من مشروع بينهما سيقدمان صورا غنائية كل منها في ربع أو نصف ساعة و هناك أيضا مشروع تسجيل أسطوانات للإذاعات العربية والإسلامية”.
ويتضح من الحديث أن خمس عشرة حلقة قد أذيعت بالفعل من البرنامج وقدم فيها أغنية “أقول أمتى” وتوقف العمل بسبب سفر بليغ حمدي خارج مصر وأنهم سيكملون العمل في البرنامج لخمس عشرة حلقة جديدة عند عودة بليغ من السفر ، ويبدو أن العمل لم يستكمل في البرنامج لأن بليغ لم يقدم للنقشبندي سوي خمس عشرة أغنية هي:
“مولاي إني ببابك “ ، “أشرق المعصوم” ، “ياربنا يارب” ، “ يا دار الأرقم حيث قام المصطفى” ، “ ربنا كن لنا نعم المعين “ ، “أيها الساهر في أشواقنا” ، “ أخوة الحق باسم الله “ ، “ حمدا لك اللهم حمدا لا يحد”، “رباه يامن أنادي” ، “ ياليلة في الدهر خير من ألف شهر” ، “أقول أمتي يارب أمتي” “ أي سلوى وعزاء من رحيم الرحماء” ، “ عليك سلام الله ياخير من دعا”
بالإضافة إلى ابتهال “ يارب إنا أمة أغفت وهبت ثانية “ الذي يدعو فيه الله أن ينصر مصر وهو النصر المرتقب الذي كانت تنتظره الأمة حيث يقول :” ياربي إنا في الجهاد لنا في نصرك موعد / إنا في إحدى الحسنيين نفوز أو نستشهد / ياخير من أوفي إلينا إنا بفرضك قد وفينا / هذا جهاد الصادقين فهات نصرك في يدينا”
وعاد يكرر على المعنى نفسه في ابتهال “ ما أعظم الذكرى في بدر الكبري” حيث يقول: “ رب بدر قد دعونا صادقين / اللهم صبر قلوب المؤمنين / يارب لقنا عزما وصدقا ويقين / ياربنا آتنا ياربنا النصر المبين”.
ويبدو الأمر مثيرا للدهشة عند قطاع كبير من عشاق بليغ حمدي الذين كانوا يعتقدون أنه لم يلحن للنقشبندي سوي “مولاي إني ببابك” فقط وليس خمس عشرة أغنية وابتهالا ، فلماذا أصبحت هي الوحيدة الشائعة من بين تلك الألحان ، الإجابة تبدو معقدة نوعا ما فهذا يعتمد على مدى تكرار بث الإذاعة للعمل كي يتكرس تدريجيا في ذهن ووجدان المتلقي ، وتعتمد أيضا على مدى جمال اللحن ، في وقت تقديم هذه الأعمال كان الشيخ النقشبندي ترى أن أنجحها هو ابتهال “أقول أمتي يارب أمتي” اليوم وبعد مرور أكثر من نصف قرن على تقديم هذه الأعمال انتخبت الجماهير ابتهال “مولاي إني ببابك” ليكون جوهرة التاج في تلك المجموعة وساهم في ذلك عملية تكرار بث هذا العمل لسنوات عبر الإذاعات ومحطات التليفزيون ، فهل نطمح في أن تساعد هذه القنوات مع السوشيال ميديا في أعادة إكتشاف أعمال بليغ المنسية مع الشيخ النقشبندي لعل هذه الجماهير تنتخب أعمالا أخرى لبليغ مع النقشبندي تتصدر المشهد الرمضاني لتقف بجوار شقيقتها “مولاي إني ببابك؟.