هو كتاب خطّه الإمام رفاعة رافع الطهطاوي، رائد التنوير في العصر الحديث بقلمه الواعي وبصيرته النيّرة، حينما سافر إلى فرنسا في أوائل القرن التاسع عشر، مبعوثًا من الأزهر الشريف ليرافق بعثة علمية إلى باريس، وكانت هذه الرحلة صدام حضاري راقٍ، بين الشرق بكل تقاليده وموروثاته، والغرب بكل تقدمه وحداثته إنه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز».
في طيّات هذا الكتاب، تتجلّى رحلة فكرية وروحية نادرة، وجاء «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» ليس مجرّد سردٍ لوقائع السفر، بل أشبه بـ مرآة فكرية عكست انبهار الطهطاوي بالحضارة الأوروبية، وملاحظاته الدقيقة حول نظام التعليم، وحقوق الإنسان، والمجتمع، والحياة اليومية في باريس.
عين ناقدة وواعية
ولم يغفل «الطهطاوي»، وهو الأزهري المتأصل، عن عرض هذه المشاهد بعين ناقدة وواعية، فلم ينبهر انبهار المُقلِّد، بل تأملَ وتأثر وتأمّل، والكتاب يحمل بين سطوره بذور النهضة الفكرية الحديثة في مصر، ويُعدّ من أوائل المحاولات الجادة لترجمة الحضارة الغربية إلى اللغة والفكر العربي بأسلوبٍ سلس وراقي.
إن «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» ليس فقط كتاب رحلة، بل وثيقة تاريخية وفكرية، تفتح لنا نافذة على بداية تحوّل مصر من التقليدية إلى المعاصرة، ومن الجمود إلى الحراك الثقافي.
من أهم الكتب العربية
ويمثل هذا الكتاب علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، فهو واحد من أهم الكتب العربية التي وضعت خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وقد كتبه الطهطاوي بعدما رشحه الشيخ حسن العطّار إلى محمد علي باشا حاكم مصر «1805م: 1848م» بأن يكون مشرف على رحلة البعثة الدراسية المصرية المتجهة إلى باريس في فرنسا، ليرعى الطلبة هناك، ويسجل أفعالهم.
خمس سنوات للكتاب
ونصح المدير الفرنسي في هذه الرحلة «الطهطاوي» بأن يتعلم اللغة الفرنسية، وأن يترجم مدوناته في كتاب، وبالفعل أخذ الطهطاوي بنصيحته، وألف هذا الكتاب الذي قضى في تأليفه تدوينًا وترجمةً خمس سنوات، وبقي الطهطاوي» في باريس من 1242 م إلى 1247 م.
فأخرج لنا كتابًا بديعًا، يوضح ما كانت عليه أحوال العلوم التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية في كل من مصر وفرنسا في هذه الفترة.
وهذا الكتاب يعد أوفى مصدر مباشر لدراسة البعثة التعليمية المصرية التي أرسلت إلى باريس جامعًا عن باريس وصورة فرنسا في ذلك الوقت إذ أنه يحوي معلومات تاريخية وجغرافية وسياسية واجتماعية فقد كان رفاعة الطهطاوى يشيد بما يعجبه وينتقد ما لا يعجبه ويعقد المقارنات بين أحوال فرنسا وأحوال مصر التي ينبغي إصلاحها.
أهم الأفكار الواردة في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»
الرحلة والتعليم.. سافر رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا مرافقًا دينيًا للبعثة العلمية، غير أن الرحلة تحوّلت إلى نقطة تحوّلٍ فكرية في حياته، فقد بهرَهُ التقدّم العلمي والنظام التعليمي الفرنسي، وأُعجب أيّما إعجابٍ بما رآه من مدارس منظّمة، وأساليب تدريس حديثة، وتنوّع في المعارف، لا سيّما في مجالات الرياضيات، الفلسفة، والعلوم الطبيعية.
المقارنة بين الشرق والغرب.. عقد «الطهطاوي» مقارنات دقيقة بين المجتمعين العربي والغربي، وأبرز الفرق الشاسع في الانضباط، واحترام الوقت، وتقدير العلم، وقد خلُص إلى أن تفوّق الغرب لم يكن بسبب تفوّقٍ ذاتيّ، بل بفضل استثمارهم في عقول أبنائهم وتقديسهم للمعرفة.
المرأة والمجتمع.. أبدى «الطهطاوي» إعجابه بمكانة المرأة في المجتمع الفرنسي، خاصة في نيلها للحقوق والتعليم، ومع ذلك، لم يكن منبهرًا انبهارًا أعمى، لكنه دعا إلى تثقيف المرأة في المجتمعات الشرقية بما يتوافق مع القيم الدينية والاجتماعية، مؤمنًا بأن نهضة الأمة لا تكتمل دون تربية المرأة وتعليمها.
الحرية وسيادة القانون.. أشاد «الطهطاوي» بمبدأ سيادة القانون في فرنسا، حيث يخضع الجميع للقانون دون استثناء، وتُصان الحريات ضمن إطارٍ منضبط، و رأى أن الحرية الحقيقية لا تعني الفوضى، بل تعني ضمان الكرامة الإنسانية واحترام الحقوق.
العلاقة بين الدين والعلم.. رغم انبهار «الطهطاوي» بالحضارة الغربية، ظل وفيًا لهويته الإسلامية، مؤكدًا أن الإسلام لا يعارض العلم، بل يحثّ عليه ويكرّم أهله، وشدّد على ضرورة الاستفادة من علوم الغرب دون الذوبان في عاداته وتقاليده.