لاشك أن الدراما التليفزيونية هي واحدة من أهم الصناعات الثقافية التي تعتمد عليها بعض الدول الآن في نمو اقتصادها، والمقصود بالصناعات الثقافية أي صناعة تتعلق بالثقافة كالسينما والمسرح والإنتاج الإذاعى والتليفزيونى، سواء البرامجى أو الوثائقى أو الدرامى، وللصناعات الثقافية ثلاثة أبعاد.
أولها: البعد الفنى الثقافى وهو الذى يعمل على تشكيل الوعى الوطنى ويؤكد على معانى الانتماء وغرس القيم والعادات ومجابهة الأفكار المنحرفة، فضلاً عما يقدمه الفن من متعة ترفيهية، وثانيها: البعد الصناعى والمقصود به مراحل صناعة العمل الفني وهنا تتجه الأنظار إلى الممول الذى يتحمل تكاليف صناعة العمل، وثالثها: البعد التجارى وهو ما يحدث المردود المالى للممول، وهذا المردود سيعود بشكل أو بآخر على الدولة في صورة ضرائب مستحقة، وذلك بخلاف مايتم تحصيله من رسوم تدفع لجهات الدولة المختلفة أثناء عملية التصوير، وكذلك ما يدفعه صناع العمل من ضرائب مهن حرة وقيمة مضافة، على أن العائد المادى للدولة لا يتمثل فيما ذكرناه فقط بل يتعدى ذلك إلى السياحة التي يلعب فيها الفن دورا كبيرا،تماما مثلما حدث في الدراما التركية والتي سببت رواجا سياحيا منقطع النظير، وماتفعله الدراما الإسبانية الآن، ناهيك عن نشر ثقافة الدولة المنتجة بين سائر الدول الأخرى لاسيما في عصر انتشار الفضائيات والمنصات، وثمة حقائق رصدها التاريخ يجب أن ننتبه إليها، فقد كانت السينما في مصر هى مصدر الدخل الثانى بعد تصدير القطن وذلك في مرحلة ما قبل ثورة يوليو 52، وأن إيراد السينما الأمريكية يتجاوز الـ 50 مليار دولار سنويا، وإن إيراد السينما الهندية يصل إلى نحو 10 مليارات دولار في السنة بينما السينما النيجيرية تحقق 5 مليارات دولار سنويا، أما العائد من الدراما التليفزيونية فهو أكثر بكثير وعليك أن تعرف أن مسلسلا واحدا رمضانيا يباع لمنصة عالمية بما يقرب من خمسة ملايين دولار ويباع لمحطة عربية بما يقرب من المليون دولار، وإذن فنحن نتحدث عن صناعة مهمة يعمل بها ما يزيد على عشرين ألفا، هم أعضاء نقابتى الممثلين والسينمائيين فضلا عن الآف العمال من نجارين وسباكين وكهربائية.
الدراما التليفزيونية المصرية التاريخ في عام 1960 تم افتتاح التليفزيون المصرى أو التليفزيون العربى حسب مسماه الأول، ولم تكن أجهزة التلفاز منتشرة وقتها وكانت ساعات البث قليلة للغاية كما أن الإرسال لم يكن يغطى مصر كلها، وفى يوليو 1962 قررت الدولة أن تحتفل بذكرى ثورة يوليو بمسلسل تليفزيونى، فأنتجت أول مسلسل في تاريخ التليفزيون المصرى وهو مسلسل هارب من الأيام للكاتب ثروت أباظة من سيناريو فيصل ندا وبطولة عبدالله غيث وتوفيق الدقن ومديحة سالم ومن إخراج نور الدمرداش، وقد حقق هذا العمل نجاحاً كبيراً لدرجة أن الشوارع كانت تخلو من المارة وقت العرض، فانتبهت القيادة السياسية وقتها إلى أهمية الدراما التليفزيونية وقدرتها على التأثير في المجتمع وقدرتها كذلك على المنافسة مع الإذاعة والتى بدأت فيها الدراما عام 1959 بمسلسل "عائلة مرزوق أفندى" ولذا فقد شجعت الدولة الإنتاج الدرامى التليفزيونى وتم تنظيم ذلك بقرار إنشاء المؤسسة المصرية العامة لتنظيم شئون الإذاعة والتليفزيون في 1963 لتتبع وزارة الإرشاد القومى، وتم تخصيص ميزانيات خاصة للإنتاج الدرامى وبالفعل تم إنتاج عشرات المسلسلات والسهرات والسباعيات وكلها كانت تخضع لمراجعة الرقابة على المصنفات الفنية، حتى جاء أغسطس 1970 حيث صدر المرسوم الخاص بإنشاء اتحاد الإذاعة والتليفزيون وهنا استقل الإنتاج الدرامى التليفزيونى عن الرقابة على المصنفات الفنية وبات للتليفزيون رقابة خاصة به أكثر تشدداً من الرقابة السينمائية، وحتى هذا التاريخ كانت الدراما التليفزيونية تأتى في مرتبة أدنى بالمقارنة إلى السينما، فالنجم التليفزيونى لا يقارن بالنجم السينمائى، فالأول يأتى إليك والثانى تذهب أنت إليه، بل وتدفع ثمناً لمشاهدته،وظلت الدولة تحتكر الإنتاج الدرامى التليفزيونى في مصر حتى بداية السبعينيات ،حيث كان قد بدأ البث التليفزيونى في كثير من الدول العربية الشقيقة وبدأت هذه الدول تنتج أعمالاً درامية معتمدة على الفنانين المصريين، هنا ولأول مرة ظهر القطاع الخاص متمثلاً في محفوظ المغازى ورياض العريان ومطيع زايد حيث كانوا ينتجون أعمالاً لصالح التليفزيونات العربية، ونتيجة لنجاح بعض هذه الأعمال وبضغط من المصريين الذين كانوا يقيمون في الخليج ويأتون صيفاً إلى مصر، بدأ التليفزيون المصرى في شراء بعض هذه الأعمال، وظل الأمر هكذا حتى عام 1979 حيث أعيد تشكيل اتحاد الإذاعة والتليفزيون ليبدأ الإنتاج الدرامى التليفزيونى مرحلة جديدة، في وقت شهد توقيع اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية وما صاحبها من إعلان العرب مقاطعة مصر وبالتالى عدم شراء الأعمال الدرامية المصرية التى ينتجها التليفزيون، لكن هذا لم يؤثر سلباً على الإنتاج المصرى ذلك أن الدولة كانت تنظر وقتها للدراما باعتبارها خدمة ثقافية وترفيهية تقدمها للشعب دون النظر إلى أى مردود مادى منها، وبات الإنتاج يسير في ثلاثة محاور، الأول هو الإنتاج الحكومى المتمثل في التليفزيون والثانى هو الإنتاج الخاص المتمثل في شركات تنتج لصالح المحطات العربية وهى التى تأثرت بالمقاطعة، والمحور الثالث هو المتمثل في المحطات العربية نفسها.
والتى أنشأت استديوهات وشركات للإنتاج في عجمان وسوسة بتونس واليونان وقبرص، ورغم المقاطعة إلا أن العرب لجأوا إلى الكوادر الفنية المصرية في أعمالهم، وسرعان ما تغير الحال ودخلنا إلى مرحلة الازدهار الحقيقى للدراما التليفزيونية والتى بدأت بعد تولى السيد صفوت الشريف وزارة الإعلام في ١٩٨٢ وإعادته تشكيل اتحاد الإذاعة والتليفزيون ووضع معايير وضوابط جديدة وفق القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى يموج بها المجتمع المصرى ومن أجل هذا تم إنشاء مجلس أمناء الإذاعة والتليفزيون والذى كان يضم شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الأرثوذكسية ورؤساء الجامعات وأكاديمية الفنون وبعض النقباء ورؤساء تحرير الصحف القومية وكان هذا المجلس يجتمع لفحص التقرير السنوى للمجالس القومية المختصة،هذه المجالس التى تم إلغاؤها بعد 2011 والتى كانت تقوم بدور استشارى رائع، فهى تضم عقول مصر في كل التخصصات وتناقش كل القضايا ثم تضع تقريراً كبيراً في مختلف مناحى الحياة وترفعه الى الرئاسة، ويعد هذا التقرير هو نبض الجماهير.
فمثلاً لو رصدت المجالس القومية المتخصصة ارتفاع حالات الطلاق كان مجلس الأمناء يوصى بأن تناقش الدراما والبرامج هذه المشكلة فيقوم قطاع الإنتاج بعرض الأمر على كتاب السيناريو أو اختيار النصوص المقدمة إليهم والتى تناقش هذه المشكلة وفى هذا الصدد تم تكليف الأستاذ وحيد حامد بكتابة مسلسل العائلة لمناقشة قضية التطرف الدينى وتكليف الأستاذ محفوظ عبدالرحمن بكتابة ناصر 56 في إطار مشروع إحياء الرموز الوطنية وبث الروح الوطنية في نفوس الناس، وكان النص يمر بعدة مراحل قبل تنفيذه حيث توافق عليه لجنة قراءة داخلية بقطاعات الإنتاج المختلفة وبعد موافقة اللجنة الداخلية يتم رفع النص إلى رقابة القطاع فإذا تمت الموافقة عليه يرفع الى لجنة قراءة عليا من خارج التليفزيون مكونة من كبار مثقفى ونقاد مصر، ونستطيع القول إن فترة الثمانينيات والتسعينيات هى العصر الذهبى للدراما التليفزيونية حيث ليالى الحلمية ورأفت الهجان والمال والبنون والضوء الشارد وزيزينيا وآربيسك ونصف ربيع الآخر ومحمد رسول الله وغيرها، وظل الأمر هكذا حتى بدأ صراع الجنزورى- الشريف، حيث كان الأول رافضاً استمرار الثانى في منصبه كوزير للإعلام، ولكن الرئيس مبارك أصر على بقائه، فبدأ الجنزورى في تضييق الخناق على الشريف الذى استطاع بقوة شخصيته أن يفتح خزائن بنك الاستثمار لتمويل وزارته ومشروعاتها كمدينة الإنتاج والقمر الصناعى وحفلات أكتوبر وأضواء المدينة وليالى التليفزيون والفوازير ومئات المسلسلات التى كانت تنتج وفق ما ذكرناه ودون انتظار لأى مردود مالى منها، وقد أدى هذا التضييق إلى اضطرار التليفزيون إلى إيجاد أسلوب جديد في الإنتاج الدرامى وهو المنتج المنفذ ثم المنتج المشارك، حيث اتفق الشريف مع المنتجين الذين كانوا على صلة دائمة بالمحطات العربية منذ السبعينيات كمطيع زايد وعرين وأوسكار، وضم إليهم مجموعة من الشركات الأخرى كالعدل وكنج توت وطارق صيام وممدوح يوسف ودهموش مستغلاً السيولة المالية التى لديهم في ظل التضييق الذى حدث لوزارة الإعلام ومستغلاً أيضاً علاقة القدامى مع المحطات العربية وقدرتهم على فتح مجالات تسويقية جديدة وخلق شراكات مع دبى وغيرها من القنوات، في الوقت ذاته كان العالم على موعد مع الفضائيات منذ مطلع التسعينيات وكان على مصر أن تواكب هذا التطور الإعلامى الجديد الذى خلق نوعاً من القنوات المتخصصة والتى تتطلب إذاعة أعمال درامية أكثر بكثير من قدرة القطاعات الإنتاجية الرسمية على التحمل، وهنا بدأت مرحلة جديدة نستطيع وصفها بكل شفافية وصدق بأن بها بعض الفساد، حيث كانت تتم الموافقة على أعمال بعينها لمنتجين بعينهم مع اختلاف سعر الساعة الإنتاجية حسب قربك من القيادات وحسبما دفعت من رشاوى، كما بدأت موضة الاستعانة بنجوم السينما ومخرجيها وبدأت بورصة النجوم تعلو، فسمعنا لأول مرة عن فنانة تقاضت مليون جنيه بينما كان أعلى أجر وقتها لا يزيد على مائة وخمسين ألفا، وسمعنا عن رقباء في التليفزيون يعملون لدى شركات خاصة فيمررون لهم أعمالهم، ورغم كل هذا فقد قدمت مصر عشرات من المسلسلات الناجحة كحديث الصباح والمساء، وريا وسكينة وللعدالة وجوه كثيرة والبر الغربى وأين قلبى وأميرة في عابدين وعباس الأبيض وغيرها،واستمر الحال حتى بات التليفزيون عاجزا عن الإنتاج في ظل ارتفاع الميزانيات فأصبح مشاركا بنسبة لاتزيد على 25 بالمائة وهى المعدات وأماكن التصوير بالمدينة، ومع ظهور القنوات الخاصة بدأت شركات الإنتاج في العزوف عن التعامل مع التليفزيون لكثرة ديونه لهم، وجاءت 2011 لتسقط ورقة التوت عن سوءة التليفزيون ويكتشف الجميع ديون ماسبيرو فيتوقف تماماً عن الإنتاج تاركاً الأمر للقطاع الخاص الذى كان ينتج وفق ما تريده القنوات الفضائية والتي باتت تعتمد على الإعلانات فقط لتسد للمنتجين ثمن مسلسلاتهم. إلاعلان والنجم – الخطيئة الكبرى لم تجد القنوات الفضائية طريقا آخر لتحقيق الأرباح أو لسد القيمة المادية للمحتوى الذى تقدمه إلا من خلال شركات الإعلان، فصار المعلن هو المتحكم في شكل الدراما ابتداء من اختيار النجم الذى يجذب أكبر إعلانات ممكنة وبالتالي أصبح اختيار النجم يسبق اختيار الكاتب والمخرج، وعاشت مصر فوضى إنتاجية حتى 2015،حيث ارتفعت أجور النجوم بشكل مبالغ فيه وزادت ديون القنوات للمنتجين فعجز بعضهم عن مواصلة الإنتاج، أما الدراما فكان النجم هو المتحكم في كل شيء، فهو رأس الحربة في العملية الفنية، وليس لأحد أن يعارضه، فإذا وجد هذا الشخص يتم استبعاده واللجوء إلى جيل جديد يطيع النجم ويحقق له ما يريده، وبالتالي ابتعد كبار الكتاب والمخرجين عن الساحة ولكى يملى النجم أفكاره على الكاتب ظهرت ماتسمى بورش الكتابة ولم يكن النص يمر إلا بمرحلة رقابية واحدة هي الرقابة على المصنفات الفنية، ولأن النجم وافد من السينما ومعه مخرجه أو كاتبه فقد جاءوا بثقافة السينما البعيدة تماما عن الثقافة التليفزيونية. المتحدة ومحاولة الحل كان لا بد للدولة أن تتدخل لإنقاذ الدراما المصرية التي باتت مهددة بالتوقف تماما، ظهرت الشركة المتحدة لضبط إيقاع العملية الفنية والقضاء على الفوضى الإنتاجية وبالفعل نجحت الشركة فيما هدفت إليه، ويمكننا القول إن هذا العام تحديدا قد شهد أمرا جديدا وهو عدم الاعتماد الكلى على النجم الأوحد، فثمة مسلسلات اعتمدت على وجوه شابه مبشرة، وتبقى المشكلة جودة النص والقيمة التي يطرحها وحل هذه المشكلة يتطلب عودة المجالس القومية المتخصصة للعمل مرة أخرى لوضع الصورة الحقيقية للمجتمع المصرى أمام مؤلفى الدراما،وكذلك عمل لقاءات دائمة بين مؤلفى الدراما وبين المسئولين في الدولة ،وحسنا فعلت السيدة رشا عبدالعال رئيس مصلحة الضرائب حين عقدت لقاء مع أعضاء جمعية مؤلفى الدراما التي أتشرف برئاستها وذلك بهدف تغيير الصورة النمطية التي تقدمها الدراما عن الضرائب، والحل الأخير يكمن في عودة التليفزيون المصرى للإنتاج مرة أخرى فيقدم لنا أعمالا دينية ووطنية بغض النظر عن تحقيق أرباح من وراء هذه الأعمال.