الأحد 11 مايو 2025

كنوزنا

من مقدمة كتاب الصهيونية والحضارة الغربية

  • 10-5-2025 | 11:06

د.عبدالوهاب المسيري

طباعة
  • د.عبدالوهاب المسيري

شاع في الخطاب التحليلي العربي أن الصهيونية تضرب بجذورها في التوراة والتلمود والتقاليد الدينية والإثنية اليهودية. وبدلاً من دراسة الظاهرة الصهيونية وأبعادها التاريخية والاجتماعية والثقافية، باعتبارها ظاهرة غريبة استعمارية استيطانية إحلالية، انطلق الباحثون إلى بطون الكتب الدينية اليهودية يحاولون تفسير سلوك الصهاينة. بل إن هذا المنهج امتد ليشمل السلوك الاستعماري الغربي، وقد قام بعض المحللين، ممن أدمنوا هذا المنهج الاختزالي، بمحاولة تفسير الغزو الأمريكي للعراق في ضوء ما جاء في العهد القديم! وهو ما أسميه تفسير الأحداث بأثر رجعي، فما جدوى أن نعرف أنه جاء في التلمود كذا وكذا، ثم نبين مواطن الشبه بين ما حدث وبين بعض العبارات الغامضة التي وردت في هذا الكتاب الضخم المتناقض الذى يحوى ألوف الصفحات، والذى كثيراً ما يقول الشيء وعكسه؟
وأعتقد أن ثمة خللا تصنيفيا أساسيا هنا، فالصهيونية، كما نحاول أن نبين في هذه الدراسة وغيرها من الدراسات، ذات جذور غربية ثم أضيفت لها ديباجات يهودية، فالبعد اليهودي في معظم الأحيان بعد زخرفي تبريري، أضيف من أجل مقدرته التعبوية. وقد أدى هذا الخلل التصنيفى إلى خطأ الافتراضات التي تبدأ بها كثير من البحوث في العالم العربى، وهذا يحدد بطبيعة الحال المجال الذى ترصده هذه البحوث وطريقة تصنيف المعلومات والنتائج التي يصل إليها الباحث، فهى في معظم الأحيان ليس لها قيمة تفسيرية أو تنبوئية عالية.

ولعلاج هذا الخلل كتبنا هذه الدراسة التي تتناول هذه الإشكالية، والتي تحاول أن توضح العناصر الغربية الأساسية (المادية والمعنوية) التي دخلت في تكوين الرؤية الصهيونية للواقع، وأن نبين أن الصهيونية ليست مجرد انحراف عن الحضارة الغربية الحديثة. كما يحلو للبعض القول، وإنما هي إفراز عضوى لهذه الحضارة ولما نسميه بالحداثة الداروينية، أي الحداثة التي ترمى إلى تحويل العالم إلى مادة استعمالية توظف لصالح الأقوى (في مقابل الحداثة الإنسانية التي ترمى إلى تحقيق التوازن بين الذات والطبيعة والتي تطالب بتكاتف كل أبناء الجنس البشرى لإعمار الأرض لصالح البشرية جمعاء بما في ذلك الأجيال القادمة).

ويوضح الفصل الأول (الأصول الغربية للرؤية الصهيونية) أن الصهيونية ظاهرة استعمارية غربية، تعود جذورها إلى الثورة الرأسمالية في الغرب. ويستعرض هذا الفصل بعض الظواهر الاجتماعية والأنساق الفكرية التي صاحبت هذه الثورة فأثرت فيها وتأثرت بها، مثل الاستعمار والفكر العنصرى. ويتناول الفصل الثانى (الصهيونية والرومانسية والنيتشوية) علاقة الرؤية الصهيونية بالرؤية الرومانسية والنيتشوية للواقع. أما الفصل الثالث (الفكر الاسترجاعى) فيبين أن الفكرة الصهيونية المحورية، أي العودة إلى فلسطين، ليست فكرة يهودية كما يظن الكثيرون، وإنما فكرة نبتت في الأوساط البروتستانتية المتطرفة ثم الأوساط الاستعمارية المعادية لليهود، وأن الفكر الصهيوني قد تبلورت أطروحاته الأساسية في كتابات صهاينة غير يهود قبل أن يتبناه بعض الكتاب من أعضاء الجماعات اليهودية. ويتناول الفصل الرابع (الإدراك الغربى لأعضاء الجماعات اليهودية) بعض جوانب الإدراك الغربى لأعضاء الجماعات اليهودية، وبوجه خاص فكرة نفع اليهود، لأن هذا الإدراك الغربى لليهود قد تبدى بشكل واضح في الإدراك الصهيوني لليهود، ويبين الفصل الخامس (الصهيونية بين الجذور الغربية والديباجات اليهودية) كيف تداخلت كل العناصر السابقة مع عناصر من العقيدة اليهودية لتنتج في نهاية الأمر الرؤية الصهيونية للواقع، ونقوم في الفصل السادس (الجذور الغربية للاعتذاريات الصهيونية ونظرية الحقوق) برصد نقاط التشابه بين الاعتذاريات الاستعمارية الغربية العامة والاعتذاريات الصهيونية.

ولتوضيح المقدرة التفسيرية لأطروحتنا الخاصة بالجذور الغربية للظاهرة الصهيونية عرضنا في الفصل السابع (تيودور هرتزل بين الفكر الاستعمارى والعباءة الليبرالية)، والفصل الثامن (الصهيونية الاشتراكية)، والفصل التاسع (ديفيد بن جوريون: الزعيم والرؤي) لفكر بعض أهم المفكرين الصهاينة لنبين أنهم قد يلجأون إلى ديباجات ليبرالية أو اشتراكية أو يهودية، ولكن فكرهم يظل في نهاية الأمر فكراً غربياً استعمارياً، يضرب بجذوره في الفكر الغربى في القرن التاسع عشر. وفى الفصل العاشر (الجيبان الاستيطانيان في إسرائيل وجنوب إفريقيا) ننتقل من عالم الفكر إلى عالم الممارسة، فنعقد مقارنة بين هذين الجيبين الاستيطانيين موضحين مدى عمق مواطن التشابه بينهما، نظراً لاشتراكهما في الجذور الفكرية والفعلية.

وهذه الدراسة هي مجموعة من الدراسات كتب بعضها خصيصاً لهذه الدراسة ونشر بعضها من قبل، وقد وجدنا أنه من المفيد جمعها في كتاب واحد بعد تحديثها وإعادة صياغتها لتوضيح أطروحة هذا الكتاب، وهو أمر أصبح ملحاً بعد الغزو الأمريكي للعراق، وبعد أن تزايد الحديث عن اللوبى الصهيوني، وكأن الولايات المتحدة حينما غزت العراق لم تقم بغزوه انطلاقاً من رؤية استعمارية غربية تضرب بجذورها في التشكيل الحضارى الغربى الحديث وترمى إلى نهب العالم وتوظيفه لصالح طغمة حاكمة في واشنطن، وكأنها فعلت ذلك من أجل اليهود وبسبب الضغط الصهيوني وانصياعا إلى ما جاء في التوراة والتلمود.

الاكثر قراءة